الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: حكم بيع الدم المسفوح
سبق أن تقرر حرمة الدم المسفوح، وأن هذا محل اتفاق بين جميع الفقهاء، والثابت عند العلماء أن ما حرمه الله علينا لا يجوز الانتفاع به بأي وجه من الوجوه، فيكون بيعه حراماً تبعاً لهذا، وبمطالعة كتب الفقه نجد أن عامة الفقهاء قد اتفقوا على تحريم بيع الدم المسفوح ونجاسته ويتضح هذا مما يأتي:
مذهب الحنفية: ذهب فقهاء الحنفية إلى بطلان بيع الدم المسفوح، لكونه محرماً شرعاً، وللنهي عن بيعه لعدم ماليته المعتبرة أساساً لعقدالبيع عندهم.
فقد جاء في الهداية: "وإذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرما، فالبيع فاسد، كالبيع بالميتة والدم والخمر والخنْزير"1، فتعليل منع البيع هو كونه محرماً.
مذهب المالكية: هو القول ببطلان بيع الدم، لأنهم يشترطون طهارة كل من الثمن والمثمون، والدم نجس عندهم.
فقد جاء في الشرح الكبير: وهو يعدد النجاسات "ودم مسفوح أي جار بسبب فصد أو ذكاة أو نحو ذلك إذا كان من غير سمك وذباب، بل ولو كان مسفوحاً من سمك وذباب وقراد وحلم خلافاً لمن قال بطهارته منها"2.
وجاء في القوانين الفقهية "وأما الثمن والمثمون فيشترط في كل واحد منهما
…
أن يكون طاهراً
…
فقولنا طاهر تحرزاً عن النجس فإنه لا يجوز بيعه"3.
مذهب الشافعية: اشترط فقهاء الشافعية طهارة المبيع، وقالوا بعدم جواز بيع الدم لعدم تحقق شرط الطهارة فيه، لأنه نجس غير طاهر.
فقد جاء في شرح المحلي على منهاج الطالبين: "وللمبيع شروط خمسة: أحدها:
1 شيخ الإسلام برهان الدين المرغنياني 6/402.
2 الدردير 1/57.
3 ابن جزي 163 - 164.
طهارة عينه، فلا يصح بيع الكلب والخمر وغيرها من نجس العين
…
والمعنى في المذكورات نجاسة عينها فألحق بها باقي نجس العين" 1.
وعلى هذا فقد ذهبوا إلى بطلان بيع الدم، وذلك لأنه نجس العين فهو غير طاهر.
وجاء في مغني المحتاج:"إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام، وقيس بها ما في معناها"2.
وجاء في نهاية المحتاج: "والمستحيل في باطن الحيوان نجس فمنه دم
…
"3.
ومثله في مغني المحتاج: "والمستحيل في باطن الحيوان نجس وهو دم ولو تحلب من كبد أو طحال لقوله تعالى: {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} 4 أي الدم المسفوح لقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} 5 6.
فالمستقر عليه من رأي فقهاء الشافعية الاتفاق على بطلان بيع الدم لنجاسته، فطهارة المبيع شرط أساسي في البيع، فنجس العين وما ألحق به من غيره لا يجوز بيعه عند الشافعية.
مذهب الحنابلة: ذهب فقهاء الحنابلة إلى القول ببطلان بيع الدم، لأنه لا يصح عندهم بيع عين النجاسة ولا الأعيان المتنجسة.
فقد جاء في المغنى والشرح الكبير: "القسم الثاني: ما أكل لحمه فالخارج منه ثلاثة
1 النووي 2/208.
2 الشربيني 3/393.
3 الرملي 1/239.
4 سورة المائدة: الآية 3.
5 سورة الأنعام: الآية 145.
6 الشربيني 1/112.
أنواع "أحدها" نجس وهو الدم وما تولد منه" 1 "ولا يجوز بيع الخنْزير ولا الميتة ولا الدم
…
"2.
فبيع الدم عندهم باطل.
الموازنة: وهكذا نجد أن الفقهاء قد اتفقوا على تحريم بيع الدم، بناء على حرمة تناوله والانتفاع به، وأن الخلاف بينهم في سبب ذلك التحريم ووجه تعليله، فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة يرون أن سبب المنع من البيع إنما هو النجاسة، وذلك لأنهم يشترطون طهارة المبيع كي يصح البيع. خلافاً لمنهج الحنفية في وجه ذلك التعليل حيث وجدناهم يبنون هذا المنع على كونه محرماً، كما نصت بعض كتبهم، كالهداية للمرغيناني، أو المالية والتقويم في المبيع كما نصت بعض كتبهم كبدائع الصنائع والبحر الرائق وغيرهما3، لأنهم يرون جواز بيع النجس للانتفاع به.
وعلى هذا: فالمحقق فيما قاله الحنفية في هذا الشأن يجد أنهم في حقيقة الأمر لم يخالفوا ما عليه الجمهور في أصل منع بيع الدم، وإنما فقط كان لهم وجه في تعليل هذا المنع وهو عدم ماليته، في حين أن الجمهور قد اعتبروا سبب منع بيع الدم إنما هو نجاسته.
ولهذا انحصر الخلاف بين الفقهاء في أمر واحد هو وجه تعليل منع بيع الدم ما بين قائل بأنه لتحريمه والنهي عنه لنجاسة، أو لعدم ماليته.
وحكمة تحريم الدم ومنع بيعه: هي قذارته وضرره، وقد أثبت الطب الحديث ذلك، فهو مركز خصب للجراثيم والميكروبات، التي تشكل أسرع وسائل لنقل عدوى الأمراض، كالدودة الكبدية التي تتلف كبد الإنسان، والتي تنتقل إلى الإنسان من الحيوان عن طريق الدم4.
1 ابن قدامة 1/734.
2 المرجع السابق 4/302.
3 الكاساني 5/141، وابن نجيم 6/115.
4 زاد المعاد في هدي خير العباد 4/239، في ظلال القرآن 1/156 – 157.