الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: حكم بيع المفترات
المفتر: على ما استقر عليه رأي العلماء هو كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف مثل الحشيش والأفيون، وذلك لأن تناول أحدهما يسكر ويخدر ويفتر الجسم.
هذا ويلحق بالحشيش والأفيون كل ما من شأنه أن يترتب على تناوله نفس الآثار والنتائج، وإن اختلفت مسمياته.
وقد ثبتت حرمة تناول المفترات للنهي الوارد فيما روته أم سلمة رضي الله عنها حيث قالت "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" وذلك على نحو ما سبق تحقيق وجه الدلالة منه في المبحث السابق حيث استبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن المسكر، ثم عطف عليه المفتر، والعطف يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم.
وفي هذا يقول الإمام القرافي: "إن القاعدة عند الأصوليين والمحدثين: أنه إذا ورد النهي عن شيئين مقترنين، ثم نص على حكم النهي عن أحدهما من حرمة أو غيرها، أعطي الآخر ذلك الحكم بدليل اقترانهما في الذكر والنهي، وفي الحديث المذكور ذكر المفتر مقروناً بالمسكر، وقد تقرر تحريم المسكر بالكتاب والسنة والإجماع فيجب أن يعطى المفتر حكمه بقرينة النهي عنهما مقترنين"1.
فالثابت لدى الفقهاء أن ما حرم تناوله حرم بيعه وامتنع تبعاً لذلك أن يكون محلاً للتعاقد، فإنه يحرم بيع جميع المفترات تخريجاً وقياساً على حرمة تناول وبيع المسكرات من خمر ومخدرات، ونحوها، وذلك لتحقق نفس العلة المقرر من أجلها تحريم الخمر بأصل النص على ذلك.
وقد تفرع على هذا: بيع الدخان "التبغ"
مذهب الحنفية: القول بمنع بيع الدخان. فقد جاء في حاشية ابن عابدين: ".... في
1 الفروق 1/376.
شرح الوهبانية للشرنبلالي1: أنه يمنع من بيع الدخان
…
والتتن الذي حدث وكان حدوثه بدمشق في سنة خمس عشره بعد الألف يدعي شاربه أنه لا يسكر، وإن سلم له فإنه مفتر وهو حرام"2.
فمذهب الحنفية: القول بمنع بيع الدخان، وما في حكمه مثل التتن المزروع بدمشق. وقد عللوا ذلك المنع باعتبار أن الدخان مفتر، وأن المفتر حرام على نحو ما تقرر سابقاً، والمقرر تبعاً لهذا حرمة بيع الحرام.
مذهب المالكية: القول بجواز بيع الدخان.
فقد جاء في فتح العلي المالك: "
…
فقد سئل الشيخ عليش3 في الدخان الذي يشرب في القصبة، والذي يستنشق به، هل كل منهما متمول؟ فإذا أتلف شخص شيئاً من أحدهما مملوكاً لغيره يكون عليه الضمان أو كيف الحال؟.... فأجاب: نعم كل منهما متمول لأنه طاهر فيه منفعة شرعية لمن اختلت طبيعته باستعماله وصار له كالدواء فكل منهما كسائر العقاقير التي يتداوى بها من العلل ولا يرتاب عاقل متشرع في أنها متمولة فكذلك هذان، كيف والانتفاع على الوجه المذكور والتنافس حاصلان بالمشاهدة
…
فإذا أتلف شخص شيئاً من أحدهما مملوكاً لغيره كان عليه الضمان...."4.
1 هو الحسن بن عمار بن علي الشرنبلالي فقيه حنفي مكثر من التصنيف نسبته إلى شبرى بلولة بالمنوفية جاء به والده منها إلى القاهرة وعمره ست سنوات فنشأ بها ودرس بالأزهر وأصبح المعول عليه في الفتيا من كتبه "شرح نور الإيضاح" و "شرح منظومة ابن وهبان" توفي رحمه الله تعالى سنة 1069هـ. راجع: الأعلام للزركلي 2/225.
2 ابن عابدين 10/49 – 50.
3 هو محمد بن أحمد بن محمد عليش أبو عبد الله، فقيه من أعيان المالكية، مغربي الأصل، من أهل طرابلس الغرب، ولد بالقاهرة، وتعلم في الأزهر، وولي مشيخة المالكية فيه، ولما كانت ثورة عرابي باشا اتهم بموالاتها فأخذ من داره وهو مريض محمولاً لا حراك به، وألقي في سجن المستشفى من تصانيفه "فتح العلى المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك" و "منح الجليل على مختصر خليل" توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة 1299هـ. راجع: الأعلام للزركلي 6/19.
4 فتح العلى المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ عليش 2/181.
وهكذا يرى المالكية جواز بيع الدخان الذي يشرب في القصبة الشيشة والذي يستنشق به، وذلك لطهارته، ولكونه منتفعاً به شرعاً. ويترتب على هذا القول بالضمان على من أتلفه.
مذهب الشافعية: اختلف فقهاء الشافعية بشأن بيع الدخان، فمن قائل بصحة ذلك البيع، لطهارة المبيع، ومن قائل بعدم صحته، لعدم المنفعة فيه، ومن قائل بإباحة البيع، وإن كان المعتمد في المذهب القول بكراهة ذلك البيع.
فقد جاء في حاشية الشرواني على تحفة المحتاج: "
…
وقع السؤال في الدرس عن الدخان المعروف في زماننا هل يصح بيعه أم لا؟ والجواب عنه الصحة لأنه طاهر منتفع به
…
قيل مما لا يصح بيعه الدخان المعروف لأنه لا منفعة فيه، بل يحرم استعماله، لأن فيه ضرراً كبيراً، وهذا ضعيف، وكذا القول بأنه مباح والمعتمد أنه مكروه بل قد يعتريه الوجوب كما إذا كان يعلم الضرر بتركه وحينئذ فبيعه صحيح، وقد تعتريه الحرمة، كما إذا كان يشتريه بما يحتاجه لنفقة عياله أو تيقن ضرره
…
"1.
وعلى هذا فالخلاف قائم في مذهب الشافعية، بشأن بيع الدخان، فقد قالوا بصحة هذا البيع، بناء على طهارة المبيع المشترطة في عقد البيع عندهم، وقيل بعدم صحة البيع، لأنه لا منفعة فيه، وأن استعماله محرم، وذلك لضرره الكبير، وهذا القول ضعيف، وكذا ضعف القول الثالث القائل بإباحته، والمعتمد في المذهب القول بأنه مكروه، أي من حيث الاستعمال، وكذا من حيث بيعه تبعاً لهذا، وهناك قول بأن تناوله يكون واجباً، وذلك لمن يلحق الضرر بترك تناوله، وفي هذه الحالة يكون بيعه صحيحاً، وقيل قد يكون بيعه حراماً، إذا كان المشتري قد اشتراه بما يحتاجه لنفقة عياله، أو عند تيقن الضرر من استعماله.
مذهب الحنابلة: تردد فقهاء الحنابلة بشأن بيع الدخان بناءً على أن كتب الفقه الحنبلي لم تنص صراحة على حكم الدخان، وقد خرج حكمه على حكم تناول الحشيشة والأفيون والبنج وما شاكله، ذلك والذي تقرر فيه من قبل منع تناوله وعدم
1 الشيخ عبد الحميد الشرواني 4/236 – 237.
إباحة كل ما فيه مضرة من السموم وغيرها.
فقد جاء في كشاف القناع: "ولا يباح أكل الحشيشة المسكرة
…
ولا يباح كل ما فيه مضرة من السموم وغيرها
…
فأما السم من الحشائش والنبات فإن كان لا ينتفع به أو كان يقتل قليله لم يجز بيعه، وإن انتفع به وأمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا ونحوها جاز بيعه لما فيه من النفع المباح
…
"1.
وهكذا يستفاد من ذلك: أن الحنابلة قد علقوا حكم بيع الدخان والتبغ ونحوهما على إمكان الانتفاع بالتداوي ونحوه خاصة لو كان قدر ذلك المتناول يسيراً فإن أمكن ذلك الانتفاع جاز تناوله وبالتالي بيعه وإلاّ فلا.
الموازنة: بالرجوع إلى ما استقر عليه رأي العلماء بشأن حكم بيع الدخان، سواء كان ذلك بالنص، أو كان تخريجاً على حكم الحشيش والمخدرات عامة، والمخرج بدوره عند بعضهم على حكم الخمر لتحقق ذات العلة المقررة لربط الدخان بالمخدرات وغيرها.
وبمراجعة هذا يتضح أن العلماء مختلفون بشأنه من حيث شربه وتناوله، وبالتالي من حيث بيعه بمراعاة أن الحديث عن حكم بيع الدخان والتبغ ونحوهما كان قليلاً غير أنه يمكن أن يقال في الجملة إن الذين حرموه استتبع ذلك عندهم حرمة بيعه، والذين أباحوه قالوا بإباحة بيعه، وخلاصة ما قالوه على نحو ما سبق عرضه ما يأتي:
1-
أن الحنفية: يرون منع بيع الدخان والتبغ ونحوهما، وذلك لحرمة تناولهما، للنهي عن كل مسكر ومفتر.
2-
أن المالكية: يرون جواز بيع الدخان والتبغ ونحوهما، وقالوا بأن كلا منهما متمول أي له الصفة المالية فضلاً عن طهارتهما وإمكان الانتفاع بهما شرعاً قياساً على الدواء ونحوه من سائر العقاقير التي يتداوى بها من العلل، وترتب على هذا القول
1 البهوتي 4/1385، 9/3091.
بضمان متلفه على تفصيل في وجه هذا الضمان.
3-
وهكذا قال الشافعية: إنه يصح بيع الدخان، لأنه طاهر منتفع به طالما أنه لم يتيقن ضرره فإن تيقن ضرره حرم تناوله وتبعاً لهذا حرم بيعه.
4-
أما الحنابلة: فقد علقوا حكم الدخان والتبغ ونحوهما من حيث التناول والبيع على إمكان الانتفاع به، فإن أمكن الانتفاع به، وأمكن التداوي بيسيره، جاز تناوله وجاز بيعه، وإن لم يمكن الانتفاع به، حرم تناوله ولم يجز بيعه.
وهكذا كان في مسألة بيع الدخان مذهبان:
المذهب الأول: يرى منع بيع الدخان والتبغ، وما في حكم هذا، وإلى هذا القول ذهب الحنفية والشافعية إن تيقن الضرر منه، والحنابلة إذا لم يمكن الانتفاع به خاصة يسيره في التداوي ونحوه.
المذهب الثاني: يرى جواز بيع الدخان ونحوه، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية بشرط عدم تيقن الضرر، والحنابلة إذا أمكن الانتفاع به في التداوي ونحو ذلك.
الأدلة: استدل من قال بمنع بيع الدخان ونحوه بذات الأدلة التي تمسكوا بها في قولهم بمنع بيع الخمر والمخدرات والمفترات عامة، ومنها الدخان، وذلك بناء على قولهم بنجاسة هذه الأشياء، وأنها في هذا مثل الخمر علة وحكماً، ودعّموا هذا خاصة عند الحنفية بعدم المالية، وذلك بسبب عدم الانتفاع.
واستدل من قال بجواز بيع الدخان بذات ما تمسك به القائل بجواز بيع المفترات ونحوها، بناء على عدم قوله بنجاسة هذه الأشياء، وأنها يمكن أن تكون محلاً للانتفاع بيسيرها في التداوي ونحوه، ورتبوا على هذا إمكان بيعها لهذا الغرض.
وما يترجح لديّ: هو حرمة بيع الدخان، وحرمة زراعته وصناعته، وذلك لضرره المحقق على صحة الإنسان، ولأنه يتلف المال، ولأنه من الخبائث، ولأن المدخن يؤذي غيره، وأن أطباء العصر الحديث قد أثبتوا الضرر المحقق لاستخدام الدخان، وما دام الضرر محققاً، فإن تناوله بيعاً أو شراء أو ما شابه ذلك كله حرام، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا ضرر ولا ضرار"1. ولما روي عن المغيرة بن شعبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" 2 وبما روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" 3.
وقد أفتى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في حكم شرب الدخان وبيعه وشرائه فقال:
"شرب الدخان محرم، وكذلك بيعه وشرؤاه، وتأجير المحلات لمن يبيعه، لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، ودليل تحريمه قوله تعالى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} 4ووجه الدلالة من ذلك أن الله تعالى نهى عن أن نؤتي السفهاء أموالنا، لأن السفيه يتصرف فيها بما لا ينفع، وبين سبحانه وتعالى أن هذه الأموال قيام للناس لمصالح دينهم ودنياهم وصرفها في الدخان ليس من مصالح الدين، ولا من مصالح الدنيا، فيكون صرفها في ذلك منافياً لما جعله الله تعالى لعباده
…
"5.
فتحريم بيع الدخان وتحريم زراعته وصناعته هو المرجح في هذا الخلاف، وذلك لما يحققه من ضرر بصحة الإنسان وإتلاف ماله وعقله، فضلاً عن أن التدخين يعد من الخبائث، كما أن المدخن يتسبب في إيذاء غيره، وقد نصت الحكومات على أن التدخين ضار بالصحة فشرب الدخان محرم، وكذلك بيعه وشراؤه، وتأجير المحلات لمن يبيعه، لأن ذلك من باب التعاون على الإثم والعدوان، وهما منهي عنهما شرعاً واعتبار جانب السفه في ذلك التناول.
1 الحديث سبق تخريجه.
2 أخرجه البخاري برقم 1407، ومسلم برقم 593.
3 أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد باب نهي من أكل ثوما أو بصلا عن حضور المسجد برقم 564.
4 سورة النساء: الآية 5.
5 راجع: المصّة الأخيرة من الدخينة: عبد العزيز بن عبد الفتاح رَواه صفحة 70، نقلاً عن أسئلة مهمة للشيخ محمد صالح العثيمين ص 16-17.