الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمهيد
الدم وسيلة الحياة في جسم الإنسان وفي كثير من الحيوانات الأخرى1، فهو في الإنسان يعتبر عضواً من الأعضاء المهمة التي تقوم بوظائف عديدة لا غنى عنها للإنسان2، فهو من حيث إنه سائل يجري في أوصال الإنسان وأجزاء جسده لينشر بها الحياة ويزودها بالغذاء والدفء3 فالدم يحمل الغذاء الممتص من المعدة والأمعاء لينشره ويوزعه على جميع أجزاء الجسد، ودوران الدم مظهر من مظاهر الحياة، فالقلب يضخه، والكبد يستقلب أملاحه وسمومه، والكلية تصفيه4، هذا والمراد بالدم -هنا- دم الحيوان وهذا الدم ينقسم إلى قسمين: أحدهما: الدم المسفوح. والثاني: الدم غير مسفوح.
وفي المباحث الآتية نستوضح تعريف الدم المسفوح مع بيان حكمه وحكم بيعه:
المبحث الأول تعريف الدم المسفوح
الدم في اللغة: سائل أحمر يسري في عروق الحيوان، وقيل المدُمَّى شديد الحمرة، يقال ثوب مُدمَّى، وخيل مدماة، ويقال دَمَىِ الجُرحُ دَمَّى ودمياً، خرج منه الدم ولم يسل فهو دم، ويقال أدمى فلانا: ضربه حتى خرج منه الدم5.
فقد جاء في مختار الصحاح: "الدم أصله دموُ بالتحريك، وتثنيته دميان، وبعض العرب يقولون: دموان، وقال سيبويه6: أصله دَمْىُ، وقال المبرد7: أصله دمى
1 البيوع الشائعة/ للدكتور محمد توفيق البوطي صفحة 277 - 279.
2 الدم ومشتقاته/للدكتورة زينب السبكي، والدكتور يسري جبر صفحة 4 نقلاً عن المرجع السابق صفحة 279.
3 أحكام القرآن لابن العربي 1/150.
4 الدم صفحة 8.
5 المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس وجماعة 1/298.
6 هو عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء أبو بشر الملقب سيبويه، إمام النحاة وأول من بسط علم النحو ولد في إحدى قرى شيراز سنة 148?، وصنف كتابه المسمى كتاب سيبويه في النحو توفي بها سنة 180?. راجع: الأعلام للزركلي 5/81.
7 هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي أبو العباس المعروف بالمبرد، إمام العربية ببغداد في زمنه =
بالتحريك، وتصغير الدم دُمَىُّ، وجمعه دماء"1.
وفي المصباح المنير: "دمَى الجرح دَمىً من باب تعب، ودمياً أيضاً على الصحيح خرج منه الدم فهو دم.... ويقال أصل الدم دَمْى بسكون الميم، لكن حذفت اللام وجعلت الميم حرف إعراب، وقيل الأصل بفتح الميم ويثنى بالياء فيقال دميان، وقيل أصله واو ولهذا يقال دموان، وقد يثنى على لفظ الواحد فيقال دمان"2.
فالدم من حيث وصفه عند علماء اللغة يقوم على وصف مهم وهو الحمرة، على اختلاف درجاتها خاصة ما كان منها شديداً في حمرته، والوصف الآخر هو السيلان بحيث يكون جارياً في عروق الحيوان وغيره من كل ما هو حي.
والمسفوح في اللغة: هو المصبوب أي المراق المنصب.
فقد جاء في المصباح المنير: "سفح الرجل الدم والدمع سفحاً من باب نفع صبه وربما استعمل لازماً فقيل سفح الماء إذا انصب فهو مسفوح وسافح، وسافح الرجل المرأة مسافحة وسفاحاً من باب قاتل وهو المزاناة، لأن الماء يصب ضائعاً، وفي النكاح غُنْية عن السفاح، وسفح الجبل مثل وجهه وزناً ومعنىً"3.
فالسفح هو الصب والإراقة والانصباب، وهو في كل هذا معناه الجاري المهراق، فالدم هو الدم الجاري من مورده عند موجب هذا وتحقق سببه.
الدم المسفوح في عرف الشرع: هو الدم الجاري المسال وهو المهراق أو المصبوب والمنصب وهو الدم الذي جرى بعد موجب خروجه وهو الذكاة.
فقد جاء في مواهب الجليل: "
…
قال في التوضيح: المسفوح: الجاري"4.
= وأحد أئمة الأدب والأخبار مولده بالبصرة سنة 210? ووفاته ببغداد سنة 286?.
راجع: الأعلام للزركلي 7/144.
1 محمد بن أبي بكر الرازي: مادة دم صفحة 112.
2 أحمد بن محمد الفيومي: مادة دم صفحة 200.
3 الفيومي مادة سفح صفحة 278.
4 الحطاب 1/96.
وجاء في حاشية الدسوقي: "والحاصل أن الدم إذا جرى بعد موجب خروجه وهو الذكاة كان مسفوحاً"1.
فالدم المسفوح هو الدم المراق الجاري ومنه ذلك الذي يسيل من الحيوان المأكول اللحم ويخرج عند تذكيته 2.
حكم الدم عند الفقهاء
مذهب الحنفية: اتفق فقهاء الحنفية على أن المحرم من الدم إنما هو الدم المسفوح دون الدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح، لأنه طاهر لعدم وصفه بالمسفوح، وخرج عليه دم الأوزاغ3 والدماء السائلة من جميع الحيوانات.
واختلفوا في حكم دم السمك فذهب أبو يوسف إلى أنه نجس خلافاً لأبي حنيفة ومحمد اللذين يقولان بطهارته.
فقد جاء في بدائع الصنائع: "
…
ودم الأوزاغ نجس؛ لأنه سائل، وكذا الدماء السائلة من سائر الحيوانات
…
وأما دم السمك فقد روى عن أبي يوسف أنه نجس
…
وعند أبي حنيفة ومحمد طاهر
…
والدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر؛ لأنه ليس بمسفوح
…
"4.
مذهب المالكية: ذهب فقهاء المالكية إلى أن الدم المسفوح، وهو الدم الذي يجري بعد موجب خروجه وهو الذكاة الشرعية نجس، وأن الحكم بالنجاسة يشمل الدم
1 الدسوقي 1/52.
2 فتح القدير 2/172.
الدم غير المسفوح: فهو الذي يبقى في العروق بعد الذبح ومنه الكبد والطحال وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم وهو الذي لم يجر بعد موجب خروجه بذكاة شرعية.
3 الأوزاغ: جمع وزغ، وأنثاه وزغة، سام أبرص.
المصباح المنير للفيومي صفحة 657، القاموس المحيط للفيروز آبادي 1020.
4 الكاساني 1/60 - 62.
الخارج من السمك والقُرَاد1 والذباب والحلم2.
فقد جاء في حاشية الدسوقي: "والحاصل أن الدم إذا جرى بعد موجب خروجه وهي الذكاة كان مسفوحاً، وهو نجس"3.
وجاء في مواهب الجليل: "
…
ودم لم يسفح قال في التوضيح المسفوح الجاري، وغير المسفوح كالباقي في العروق، وقال ابن فرحون4 كالباقي في محل التذكية وفي العروق، وهو طاهر مباح الأكل على ظاهر المذهب. انتهى. وهو المشهور؛ وقيل نجس، وانظر ما مراده بالباقي في محل التذكية، هل أثر الدم الذي في محل ذبح الشاة، أو الدم الذي يبقى في محل نحر الشاة ويخرج بعد سلخها إذا طعنت، فإن أراد الأول فهو نجس لأنه من الدم المسفوح
…
تنبيهان:
الأول: قد يفهم من قوله في التوضيح أن المسفوح هو الدم الجاري: أن ما لم يجر من الدم داخل في غير المسفوح وأنه طاهر ولو كان من آدمي أو ميتة أو حيوان حي وهو كذلك، فقد قال اللخمي5: الدم على ضربين: نجس، ومختلف فيه؛ فالأول دم الإنسان، ودم ما لا يجوز أكله، ودم ما يجوز أكله إذا خرج في حال الحياة أوفي حين
1 القُراد: دويبة متطفلة ذات أرجل كثيرة تعيش على الدواب والطيور. المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس صابر 2/724.
2 الحَلَم: القُراد الضخم أو الصغير. المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس صابر 1/195.
3الدسوقي 1/52.
4 هو إبراهيم بن علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون، فقيه مالكي، ولد بالمدينة سنة 719 ? ونشأ بها وتفقه وولي قضاءها، كان عالماً بالفقه والأصول والفرائض وعلم القضاء. من تصانيفه "الديباج المذهب في أعيان المذهب" و"مناهج الأحكام". راجع: معجم المؤلفين لعمر كحالة 1/68
5 هو علي بن محمد الربعي أبو الحسن المعروف باللخمي، فقيه مالكي، تفقه بابن محرز وأبي الفضل ابن بنت خلدون، له تعليق كبير على المدونة سماه التبصرة، توفي سنة 478?. راجع: الديباج المذهب لابن فرحون 1/104-105، شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 117، الأعلام للزر كلي 4/328.
هذا ولم أتعرض هنا لدم الإنسان وبيان حكمه من حيث الطهارة ومدى إمكان التصرف فيه بيعاً وتبرعاً ونحوه، وذلك اعتماداً على أنه مشمول بالبحث الدقيق في محله عند الكلام عن حكم بيع الإنسان الحر وأجزائه، وذلك في الفصل الخامس من الباب الثاني من هذا البحث.
الذبح لأنه مسفوح؛ واختلف فيما بقي في الجسم بعد الذكاة، وفي دم ما ليس له نفس سائله وفي دم الحوت: انتهى. فيفهم من كلام اللخمي أن دم الآدمي والحيوان الذي لا يؤكل والميتة نجس مطلقاً سواء جرى أو لم يجر وهو ظاهر
…
ويؤيد ذلك قول البساطي1 هنا: مراد المصنف أن الدم الذي لم يجر بعد موجب خروجه شرعاً فهو طاهر، فخرج الدم القائم بالحي لأنه لا يحكم عليه بالطهارة ولا بالنجاسة، والدم المتعلق بلحم الميتة وأنه نجس، وما جرى عند الذكاة فإنه أيضاً نجس.
الثاني: الدم الذي يخرج من قلب الشاة إذا شق هل هو مسفوح أو غير مسفوح، لم أر فيه نصاً، والذي يفهم من كلام البرز لي2 واللخمى أنه غير المسفوح فتأمله"3.
فالنص يفيد: أن ابن فرحون خص الدم غير المسفوح بالباقي في محل التذكية وفي العروق، واعتبر هذا النوع من الدم على هذا الحال طاهراً مباحاً أكله على ظاهر مذهب المالكية.
في حين أن البعض يرى نجاسة ذلك النوع من الدم؛ وتساءل صاحب مواهب الجليل عن مراد من قال بنجاسة الدم غير مسفوح، واعتبر نجاسته إذا كان مراده بهذا أثر الدم في محل الذبح، وقال لأنه على هذا الحال يكون من الدم المسفوح المقرر نجاسته، ثم استطرد موضحا ًما ذكره صاحب التوضيح بأنه حيث تقرر أن الدم المسفوح هو الدم الجاري، فإنه يترتب على هذا أنه ما لم يجر من الدم داخل في غير
1 هو محمد بن أحمد بن عثمان أبو عبد الله المعروف بالبساطي، نسبته إلى بساط وهي قرية من قرى الغربية بمصر، توفي بالقاهرة سنة 842 ?، كان فقيهاً مالكياً قاضياً، انتقل إلى القاهرة فتفقه وذاع صيته تولى قضاء المالكية بالديار المصرية وولي تدريس الفقه بالشيخونية والصاحبية وغيرها من المدارس. من تصانيفه "المغنى في الفقه" و"شفاء الغليل في شرح مختصر الشيخ خليل". راجع: الأعلام للزركلي 5/332.
2 هو القاسم بن أحمد بن محمد بن إسماعيل البلوي البرزلي، من أئمة المالكية بتونس في عصره، وصف بشيخ الإسلام، أخذ عن ابن عرفة ولازمه نحو أربعين عاماً، قدم القاهرة حاجاً فأخذ عنه بعض أهلها وسكن تونس وانتهت إليه الفتوى فيها، توفي رحمه الله سنة 844 ?. من تصانيفه "جامع مسائل الأحكام مما نزل من القضايا للمفتين والحكام" راجع: الأعلام للزركلي 5/172.
3 الحطاب 1/96.
المسفوح، وأنه طاهر حتى لو كان من آدمي أو ميتة أو حيوان حي، وعرض لما قاله اللخمي: من أن الدم على ضربين: أحدهما: نجس مثل دم الإنسان ودم ما لا يجوز أكله ودم ما يجوز أكله إذا خرج في حال الحياة أو وقت الذبح لأنه مسفوح. وثانيهما: مختلف فيه وهو ما بقي في الجسم بعد الذبح، وكذا دم الحوت، ودم ما ليس له نفس سائلة.
وهذا يفهم منه: أن دم الآدمي والحيوان الذي لا يؤكل والميتة نجس مطلقاً سواء جرى أو لم يجر، وقال صاحب المواهب: إن هذا هو الظاهر.
ثم عرض للدم الخارج من قلب الشاة عند شقه هل هو مسفوح أم لا؟ قائلاً بأنه لم يرد فيه نص، ومفهوم كلام البرزلي واللخمي أنه غير مسفوح.
وفي الشرح الكبير: "وأن النجاسة تشمل حتى الدم الخارج من السمك، والذباب، والقراد، ودم مسفوح ولو من سمك، وذباب، وقراد، وحلم"1.
وفي حاشية الدسوقي: "
…
وهل الدم المسفوح الذي في السمك هو الخارج عند التقطيع الأول، لا ما خرج عند التقطيع الثاني، أو الجاري عند جميع التقطيعات، واستظهر بعض الأول"2.
أما ابن العربي من المالكية: فقد ذهب إلى طهارة الدم الخارج من السمك والذباب والقراد ونحوها وتظهر ثمرة الخلاف في أكل السمك الذي يوضع بعضه فوق بعض ويسيل دمه، فعلى كلام ابن العربي يؤكل كله، وعلى القول الآخر لا يؤكل منه إلا الصف الأعلى فقط3.
وجاء في مواهب الجليل: "
…
خلافاً لمن قال بطهارته منها أي من المذكورات
1 الدردير 1/57.
2 الدسوقي 1/57.
3 راجع: المرجع السابق نفس الموضع.
وهو ابن العربي1"2.
فالمستفاد من نصوص المالكية: أن الدم المسفوح هو الدم الذي يجري بعد موجب خروجه وهو الذكاة، وأن هذا الدم نجس، وأن ما يقابله في الوصف والحكم إنما هو الدم غير المسفوح، وهو الباقي في العروق، حيث قالوا بطهارته وإباحة تناوله تبعاً لما علق به من اللحم والعظم.
واختلفوا في الدم الباقي في محل الذبح: فقيل: إنه نجس، غير أن المشهور في المذهب أنه طاهر مباح الأكل، وقال اللخمي من المالكية: إن دم الآدمي ودم الحيوان الذي لا يؤكل والميتة نجس مطلقاً سواء جرى أم لم يجر، وقد اختلفوا كذلك بالنسبة للدم الخارج من السمك والذباب والقراد ونحو ذلك، وأن الظاهر في المذهب ما قال به ابن العربي من القول بطهارته.
مذهب الشافعية: ذهب فقهاء الشافعية إلى نجاسة الدم المسفوح، حتى لو تحّلب من سمك أو كبد أو طحال، مع العلم بأن الكبد والطحال طاهران عندهم.
فقد جاء في نهاية المحتاج: "والمستحيل في باطن الحيوان نجس فمنه دم
…
ولو تحلب من سمك وكبد وطحال لقوله تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 3 أي سائلاً
…
وخرج بالمسفوح في الآية الكبد والطحال"4.
واختلف فقهاء المذهب الشافعي في حكم الدم الباقي على اللحم والعظم من البهائم
1 هو محمد بن عبد الله بن محمد أبو بكر المعروف بابن العربي، حافظ متبحر وفقيه من أئمة المالكية بلغ رتبة الاجتهاد، رحل إلى المشرق وأخذ عن الطرطوشي والإمام أبي حامد الغزالي ثم عاد إلى مراكش وأخذ عنه القاضي عياض وغيره، أكثر من التأليف وكتبه تدل على غزارة علم وبصر بالسنة. من تصانيفه "عارضة الأحوذي شرح الترمذي" توفي رحمه الله تعالى سنة 543 ?. راجع: الأعلام للزركلي 6/230، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 136.
2 الحطاب 1/96.
3 سورة الأنعام: الآية 145.
4 الرملي 1/239 - 240.
المذبوحة، فذهب الحليمي1 وجماعة إلى أنه نجس معفو عنه وهو الظاهر في المذهب، لأنه دم مسفوح إلا أنه لم يسل لقلته وقال غيرهم إنه طاهر، وقيل إن مراد من عبر بالطاهر أنه معفو عنه.
وجاء في مغني المحتاج: "
…
أما الدم الباقي على اللحم فقيل إنه طاهر
…
وظاهر كلام الحليمي وجماعة أنه نجس معفو عنه، وهذا هو الظاهر؛ لأنه دم مسفوح، وإن لم يصل لقلته"2.
وفي نهاية المحتاج: "أما الدم الباقي على اللحم وعظامه من المذكاة فنجس معفو عنه كما قاله الحليمي
…
فمراد من عبر بطهارته أنه معفو عنه"3.
واختلف فقهاء المذهب في دم السمك: فقالوا إنه نجس كغيره من الدماء، وقيل بل طاهر لأن ميتة السمك طاهرة فكذا دمه.
فقد جاء في المهذب: "وفي دم السمك وجهان: أحدهما نجس كغيره، والثاني طاهر؛ لأن ميتة السمك طاهرة فكذا دمه"4.
ونقل عن فقهاء الشافعية هذا الخلاف في دم الجراد، ونقل عن الرافعي مثله في الدم المستحلب من الكبد والطحال، والصحيح في المذهب النجاسة في كل ذلك.
وجاء في المجموع: "أما الوجهان من دم السمك فمشهوران، ونقلهما الأصحاب أيضاً في دم الجراد، ونقلهما الرافعي5 أيضاً في الدم المستحلب من الكبد
1 هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم أبو عبد الله، ولد بجرجان ونشأ ببخارى، تتلمذ على أبي بكر القفال والأودني، كان فقيهاً شافعياً إماماً متقناً، توفي رحمه الله سنة 403?. من تصانيفه "المنهاج في شعب الإيمان".
راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 3/147.
2 الشربيني 1/112.
3 الرملي 1/240.
4 الشيرازي 2/575.
5 هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي أبو القاسم من أهل قزوين، من كبار الفقهاء الشافعية، ترجع نسبته إلى رافع بن خديج الصحابي. من تصانيفه "شرح مسند الشافعي" و"العزيز شرح الوجيز للغزالي" توفي رحمه الله سنة 623?. راجع: الأعلام للزركلي 4/179، وطبقات الشافعية للأسنوي 5/119.
والطحال، والأصح في الجميع النجاسة"1.
فالمستفاد من نصوص الشافعية: أن الدم المسفوح نجس، وأن هذا الحكم يشمل ما تحلب في الأصل من سمك وكبد وطحال.
أما بالنسبة للدم الباقي على اللحم والعظم من البهائم المذبوحة فقد اختلفوا في حكمه، فقال الحليمي ومن وافقه إنه نجس، وهذا هو الظاهر في المذهب، وذلك لأنه دم مسفوح غير أنه لم يسل لقلته، ويرى الآخرون أنه طاهر. وقد فسروا هذا بأنه معفو عنه.
مذهب الحنابلة: قال الحنابلة بنجاسة الدم المسفوح، وقد استثنوا من هذا الحكم دم السمك حيث قالوا بطهارته باعتبار أن ميتته طاهرة مباحة، وأن ما له نفس سائلة كالذباب والبق والبراغيث والقمل ونحو ذلك، فقد اختلف فقهاء المذهب بالنسبة لحكم دمه حيث وجدت روايتان في المذهب الحنبلي، الأولى: أنه نجس حيث إنه يشبه الدم المسفوح، والثانية: أنه طاهر لأنه دم حيوان لا ينجس بالموت. وأما بالنسبة للدم الباقي على العروق فمباح عندهم.
فقد قال ابن الجوزي2: "المحرم هو الدم المسفوح"3.
وجاء في الكافي: "والدم نجس
…
إلا دم السمك فإنه طاهر، لأن ميتته طاهرة مباحة، وفي دم ما لا نفس له سائله كالذباب والبق والبراغيث والقمل، روايتان؛ إحداهما: نجاسته، لأنه دم أشبه المسفوح. والثانية: طهارته، لأنه دم حيوان لا ينجس
1 النووي 2/576.
2 هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي أبو الفرج، نسبته إلى محلة الجوز بالبصرة كان بها أحد أجداده، قرشي يرجع نسبه إلى أبي بكر الصديق، من أهل بغداد حنبلي، علاّمة عصره في الفقه والتاريخ والحديث والأدب، اشتهر بوعظه المؤثر، وكان الخليفة يحضر مجالسه. من تصانيفه "تلبيس إبليس" و"الضعفاء والمتروكين" توفي رحمه الله سنة 597?. راجع: الأعلام للزركلي 4/89، طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/399.
3 الإنصاف للمرداوي 1/309.
بالموت، أشبه دم السمك، وإنما حرم الدم المسفوح"1.
أما بالنسبة للدم الباقي على العروق، والدم الباقي في خلل اللحم بعد الذبح، وما بقي من العروق فمباح.
فهذا النص يفيد: أن الأصل في الدم نجاسته، وأن دم السمك طاهر وذلك على سبيل الاستثناء من هذا الأصل، وأن الخلاف حاصل في المذهب الحنبلي حول دم ما لا نفس له سائلة، مثل الذباب ونحوه مابين القول بطهارته والقول بنجاسته، وأن الدم الباقي على العروق وفي خلل اللحم فمباح عندهم.
فقد جاء في الإنصاف: "
…
قال في الفروع: ولم يذكر جماعة إلا دم العروق. وقال الشيخ تقي الدين فيه: لا أعلم خلافاً في العفو عنه، وأنه لا ينجس المرق، بل يؤكل معها"2.
وجاء في نفس الموضع "غير ما يبقى منه في عرق مأكول بعد ذبحه ولو ظهرت حمرته أي حمرة دم عرق المأكول فإنه طاهر مباح، وكذا ما يبقى في خلال اللحم بعد الذبح طاهر"3.
هذا: وقد اختلف فقهاء المذهب الحنبلي في دم السمك والبق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها، فالصحيح في المذهب أنها طاهرة وقيل إنها نجسة.
"
…
ومنها: دم السمك وهو طاهر على الصحيح في المذهب وعليه الأصحاب، ويؤكل وقيل نجس ومنها: دم البق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها وهو طاهر على الصحيح من المذهب
…
وهذا ظاهر المذهب
…
وعنه نجس"4.
وجاء في كشاف القناع: "وغير دم سمك وغير دم بق وقمل وبراغيث وذباب
1 ابن قدامه 1/112.
2 المرداوي 1/309.
3 كشاف القناع للبهوتي 1/226.
4 المرداوي 1/309 - 310.
ونحوه مما لا يسيل دمه فدمه طاهر"1.
واتفق فقهاء المذهب الحنبلي على طهارة الكبد والطحال وأنهما دمان.
فقد جاء في الإنصاف: "ومنها الكبد والطحال وهما دمان. لا خلاف في طهارتهما"2.
فالحنابلة: يرون أن الدم المسفوح نجس، وأنه بالنسبة لدم السمك فهو طاهر باعتبار أن ميتته طاهرة، وإن كان نص الإنصاف يفيد أنه مختلف فيه، وأن الصحيح في المذهب أنه طاهر وهذا ما عليه الأصحاب وقالوا بجواز أكله، وقيل إنه نجس. أما بالنسبة لدم البق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها فالصحيح في المذهب أنه طاهر، وهذا هو الظاهر في المذهب، وعنه أنه نجس، ولم يذكر هذا الخلاف صاحب الكشاف بل نص على القول بطهارته.
أما الدم الباقي في خلل اللحم بعد الذبح، وما بقى في العروق، فقد قال الحنابلة إنه مباح. أما الكبد والطحال فهما دمان وأنه لا خلاف عندهم في طهارته.
الموازنة: بمطالعة ما ذكره العلماء بشأن حكم الدم يتضح الآتي:
أولاً: بالنسبة للدم المسفوح: فالإجماع حاصل بين الفقهاء على حرمة تناوله كثيراً كان أم قليلاً، وهو الذي يسيل من الحيوان الحي، وكذلك الحيوان الذي يحرم أكله وإن ذكي، أي إن الدم المسفوح وهو الخارج من الذبيحة عند ذبحها وكذا الذي يسيل منها حال حياتها حرام بالاتفاق بين العلماء.
ووجه هذا التحريم: أن مثل هذا النوع من الدم يحمل الرطوبات النجسة وأنه لا يطيب اللحم إلا بخروجه، ولهذا تقرر عند عامة الفقهاء تحريم تناول الدم المسفوح وعدم جواز الانتفاع به، وأنه لا يجوز اعتباره محلاً للتداول بين الناس، سواء كان من مأكول اللحم أو كان من غيره، بل هذا أولى بالحكم، وهذا وجه ما استند عليه العلماء
1 البهوتي 1/226.
2 المرداوي 1/310.
في أمر تحريم الدم المسفوح وما في حكمه.
وعلى هذا فالدم المسفوح نجس، ويحرم تناوله والانتفاع به، وذلك لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 1 وقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 2 وقال سبحانه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} 3.
وفي هذا يقول الشوكاني4: اتفق العلماء على أن الدم حرام وفي الآية الأخرى {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 5 فيحمل المطلق على المقيد، لأن ما خلط باللحم غير محرم. ونقل القرطبي6 الإجماع في ذلك7.
هذا: وهناك أدلة تدل على تحريم الدم وعلى نجاسته منها:
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 8. وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} 9.وقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
1 سورة المائدة: الآية 3.
2 سورة الأنعام: الآية 145.
3 سورة البقرة: الآية 173.
4 هو الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني. ولد عام 1172?، لازم القاضي أحمد الحرازي والعلامه حسين بن محمد المغربي وعلي بن هادي، من مصنفاته نيل الأوطار وفتح القدير والسيل الجرار توفي رحمه الله عام 1250?، راجع: التاج المكلل للقنوجي 452-461، الأعلام للزركلي 6/298.
5 سورة الأنعام: الآية 145.
6 هو الإمام المفسر محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله القرطبي، الإمام المفسر، من مصنفاته الجامع لأحكام القرآن والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، توفي رحمه الله عام 671?. راجع: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لأحمد المقري 1/428، الأعلام للزركلي 5/322.
7 فتح القدير 1/169.
8 سورة المائدة: الآية 3.
9 سورة البقرة: الآية 173.
مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 1.
أن امرأة جاءت إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: "إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ فقال: "تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي" 2.
فالسنة المطهرة أوضحت أن الدماء كلها نجسة من آدمي أو حيوان، وذلك بدليل الأمر بالغسل والمبالغة في إزالته، وهذا دليل على نجاسته، وذلك مفهوم من الحديث السابق، ولهذا كانت الدماء المسفوحة كلها نجسة، وذلك بإجماع الفقهاء لثبوت نجاسة الدم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة، وحيث ثبت نجاسته، فإن حكمه من حيث التناول والانتفاع يكون هو الآخر محرماً، ثم يترتب على هذا كله عدم إمكان اعتباره محلاً للبيع وغيره من جميع التصرفات الأخرى على نحو ما سيرد إن شاء الله.
وقال ابن العربي: "اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لا يؤكل ولا ينتفع به، وقد عينه الله تعالى ها هنا مطلقاً3 وعينه في سورة الأنعام مقيداً بالمسفوح، وحمل العلماء ها هنا4 المطلق على المقيد إجماعاً"5.
وقال أيضاً: "الصحيح أن الدم إذا كان مفرداً حرم منه كل شيء وإنما حرم الدم بالقصد إليه"6.
وفي هذا يقول العلامة الشوكاني: "وقد اتفق العلماء على أن الدم حرام".
وفي الآية الأخرى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 7. فيحمل المطلق على المقيد8.
1 سورة الأنعام: الآية 145.
2 الحديث متفق عليه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أخرجه البخاري كتاب الوضوء باب غسل الدم برقم 225، ومسلم كتاب الطهارة باب نجاسة الدم وكيفية غسله برقم 291.
3 أي في سورة البقرة وسورة المائدة.
4 في السورتين السابقتين على المقيد الوارد في سورة الأنعام.
5 أحكام القرآن 1/79.
6 المرجع السابق 2/291.
7 سورة الأنعام: الآية 145.
8 فتح القدير 1/169.
وقال الشوكاني - أيضاً "وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحاً كما تقدم حملاً للمطلق على المقيد"1.
وقال الرازي الجصاص2: قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} 3 وقال: {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} 4 فلو لم يرد في تحريمه غير هاتين الآيتين لاقتضى ذلك تحريم سائر الدماء قليلها وكثيرها فلما قال في آية أخرى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 5.
دل ذلك على أن المحرم هو الدم المسفوح دون غيره. وأخبرنا معمر6 عن قتادة 7 قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} قال: حرم من الدم ما كان مسفوحاً8.
وهكذا جاء في تفسير الطبري: "وتقييد الدم المحرم بأنه المسفوح دليل على أن الدم غير المسفوح حلال غير نجس: قال عكرمة 9: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} لولا هذه
1 المرجع السابق نفس الموضع.
2 هو الإمام أحمد بن علي أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص. ولد عام 305?، تفقه على أبي الحسن الكرخي وتخرج به، من مصنفاته أحكام القرآن شرح مختصر الطحاوي وشرح الجامع الصغير والجامع الكبير لمحمد بن الحسن. توفي رحمه الله عام 370 ? ببغداد. راجع: الجواهر المضية في طبقات الحنفية لمحي الدين القرشي1/222-224، تاج التراجم لابن قطلوبغا 96-97.
3 سورة البقرة: الآية 173.
4 سورة المائدة: الآية 3.
5 سورة الأنعام: الآية 145.
6 هو معمر بن راشد الأزدي الحراني مولاهم أبو عروة البصري، سكن اليمن، ثقة كان فقيهاً حافظاً متقناً ورعاً، توفي سنة 152? وقيل 153?. راجع: تهذيب التهذيب لابن حجر 4/125-126.
7 هو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، من أهل البصرة، ولد ضريراً أحد المفسرين والحفاظ للحديث، قال أحمد بن حنبل: قتادة أحفظ أهل البصرة، وكان مع علمه بالحديث رأساً في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب، مات رحمه الله بواسط في الطاعون سنة 118 ?. راجع: الأعلام للزركلي 5/189، تقريب التهذيب لابن حجر صفحة 453.
8 أحكام القرآن للجصاص 1/150.
9 هو عكرمة بن عبد الله مولى عبد الله بن عباس، وقيل لم يزل عبداً حتى مات ابن عباس وأعتق بعده =
الآية لتُتُبِّعَ من العروق ماَ تَتَّبعت اليهود.
وقال قتادة: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} حرم من الدم ما كان مسفوحاً 1.
= تابعي مفسر محدث، أمره ابن عباس بإفتاء الناس، أتى نجدة الحروري وأخذ عنه رأي الخوارج ونشره بإفريقية، ثم عاد إلى المدينة فطلبه أميرها فاختفى حتى مات رحمه الله سنة 105 ? واتهمه ابن عمر وغيره بالكذب على ابن عباس، وردوا عليه كثيراً من فتاواه، ووثقه آخرون. راجع: الأعلام للزركلي 5/43 وتقريب التهذيب لابن حجر صفحة 397.
1 تفسير الطبري 3/537.