الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: حكم أواني الذهب والفضة
المقرر أن حكم بيع أواني الذهب والفضة فرع عن حكم اقتنائها واستعمالها، وهذا يقتضي ضرورة بحث حكم استعمال المتخذ من الذهب والفضة، حتى يتسنى بيان حكم بيع ذلك المتخذ، وسنبين هذا في المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: حكم استعمال واقتناء أواني الذهب والفضة
اختلف الفقهاء بشأن حكم استعمال المتخذ من الذهب والفضة في غير التحلي والتزين، ويتضح هذا من خلال بحث ما قالوه على النحو الآتي:
مذهب الحنفية: حرمة استعمال الأواني المتخذة من الذهب والفضة بالنسبة للرجال والنساء.
فقد جاء في مجمع الأنهر: "
…
ولا يحل استعمال إناء ذهب أو فضة لرجل أو امرأة"1.
وجاء في اللباب شرح الكتاب: "ولا يجوز الأكل، والشرب، والادهان، والتطيب، وجميع أنواع الاستعمال، في آنية الذهب والفضة، للرجال والنساء"2.
فمذهب الحنفية: على أنه لا يجوز استعمال إناء الذهب أو الفضة، وأن هذا الحكم عام بالنسبة للرجال والنساء.
مذهب المالكية: حرمة استعمال أواني الذهب والفضة، ولا يحل الأكل والشرب والاغتسال والوضوء.
فقد جاء في حاشية الدسوقي: "
…
وحرم إناء نقد من ذهب أو فضه أي استعماله، وحرم اقتناؤه أي ادخاره، ولو لعاقبة دهر، لأنه ذريعة للاستعمال
…
فلا يجوز فيه أكل ولا شرب ولا طبخ ولا طهارة، وإن صحت الصلاة
…
"3. وجاء في جواهر الأكليل: "وحرم استعمال إناء نقد ذهب أو فضة لأكل أو شرب أو
1 عبد الرحمن الكيبولي 4/182.
2 عبد الغني الغنيمي 2/329.
3 الدسوقي 1/64.
غسل، وحرم اقتناؤه ولو لغير الاستعمال، لأنه وسيله إليه
…
"1.
فمذهب المالكية: ينص صراحة على حرمة استعمال آنية الذهب أو الفضة في الأكل والشرب ونحوهما.
مذهب الشافعية: قالوا بكراهة اتخاذ واستعمال أواني الذهب والفضة، واختلف في وصف هذه الكراهة، وهل هي كراهة تنْزيهية، أم أنها كراهة تحريمية، فقال في القديم تنْزيهية، وقال في الجديد إنها كراهة تحريمية.
فقد جاء في المهذب: "ويكره استعمال أواني الذهب والفضة،
…
وهل يكره كراهية تنْزيه أو تحريم؟ قولان، قال في القديم2: كراهية تنْزيه،
…
وقال في الجديد3: يكره كراهية تحريم وهو الصحيح
…
"4.
وقيل: إن مذهب الشافعية على القول الصحيح المشهور: أنه يحرم استعمال أواني الذهب والفضة، وحمل أكثر الخرسانيين قول القديم بالكراهة التنْزيهية على أن المشروب نفسه ليس حراماً.
جاء في المجموع: المسألة الثالثة: في أحكام الفصل: فاستعمال الإناء من ذهب أو فضة حرام على المذهب الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور، وحكى المصنف
…
قولاً: قديماً أنه يكره كراهة تنْزيه ولا يحرم، وأنكر أكثر الخراسانين هذا القول، وتأوله بعضهم على أنه أراد أن المشروب في نفسه ليس حراماً،
…
واتفقوا على أن الصحيح تحريم الاتخاذ وقطع به بعضهم
…
"5.
مذهب الحنابلة: قالوا بحرمة استعمال آنية الذهب والفضة، وهذا ما عليه نص
1 الأزهري 1/10.
2 قال في القديم: أي مذهب الشافعي القديم وهو مذهبه لما كان في العراق من عام 195?.
3 قال في الجديد: أي مذهب الشافعي الجديد بعد رحيله إلى مصر سنة 200? إلى وفاته سنة 204?.
4 الشيرازي 1/61 – 62.
5 النووي 1/305 – 308.
المذهب الحنبلي، وما عليه الأصحاب، وأكثرهم قطع به، وأنه لم يخالف في هذا سوى أبي الحسن التميمي1 حيث قال بكراهة هذا الاستعمال في حالة اتخاذه مسعطاً، أو قنديلاً، أو نعلين، أو مجمرة، أو مدخنة، وأنه يحرم إذا اتخذ سريراً، أو كرسياً من ذهب أو فضة.
فقد جاء في كشاف القناع: "كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله ولو كان ثميناً كجوهرة ونحوه كالبلور والياقوت والزمرد، وغير الثمين كالخشب والزجاج والجلود والصفر والحديد"2.
وجاء في الانصاف: قوله: "إلا آنية الذهب والفضة والمضبب بهما فإنه يحرم اتخاذهما، وهذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب
…
لا يختلف المذهب فيما علمنا في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة
…
وعن أبي الحسن التميمي أنه قال: إذا اتخذ مِسْعَطاً، أو قنديلاً، أو نعلين، أو مجمرة، أو مدخنة ذهباً أو فضة كره، ولم يحرم، ويحرم سرير وكرسي ويكره عمل خفين من فضة، ولا يحرم كالنعلين
…
قوله: "واستعمالها" يعني: يحرم استعمالهما، وهذا المذهب نص عليه وعليه الأصحاب وأكثرهم قطع به
…
"3.
الموازنة: بمراجعة نصوص كتب الفقه المختلفة بخصوص استعمال آنية الذهب والفضة يتضح لنا أن عامة الفقهاء قالوا بتحريم هذا الاستعمال على وجه الإطلاق، من حيث المستعمل له، ومن حيث كيفية الاستعمال، وأنه لم يخالف في هذا إلا بعض الشافعية في المذهب القديم، حيث قالوا بأنه لا يحرم مثل هذا الاستعمال في غير التحلي والتزين بل يكون مكروهاً، وهذا ما قال به أبو الحسن التميمي من الحنابلة
1 هو أحمد بن إسحاق بن عطية بن عبد الله بن سعد أبو الحسن التميمي الصيدلاني مقريء وسمع أبا طاهر المخلص وأبا القاسم الصيدلاني ومن بعدهما وكان آخر القراء المذكورين بحسن الحفظ وإتقان الروايات وضبط الحروف من تصانيفه "الواضح في القراءات العشر" توفى رحمه الله تعالى سنة 423 هـ. راجع: معجم المؤلفين لعمر كحالة 1/223، وتاريخ بغداد للبغدادي 4/161.
2 البهوتي 1/63.
3 المرداوي 1/80.
فالمسألة فيها مذهبان:
المذهب الأول: يرى أنه يحرم على الرجال والنساء استعمال الأواني المتخذة من الذهب والفضة فيما ترجع منفعته إلى البدن، فلا يحل للرجال والنساء والأكل والشرب والاغتسال والوضوء ونحو ذلك في آنية الذهب والفضة، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
المذهب الثاني: يرى أنه لا يحرم على الرجال والنساء استعمال ما اتخذ من الذهب والفضة في غير التحلي والتزين، وأن هذا الاستعمال على هذا النحو مكروه كراهة تنْزيهية. وإلى هذا ذهب الشافعية في رواية لهم في مذهبهم القديم، وهو قول أبي الحسن التميمي من الحنابلة.
الأدلة: استدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه من أن استعمال أواني الذهب والفضة محرم، وأن اتخاذ الأواني من هذين النقدين قد حرمه الشرع استدلوا بما يأتي:
1-
ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر1 في بطنه نار جهنم"2.
حيث أفاد هذا الحديث الوعيد الشديد لمن يشرب في إناء فيه شيء من الذهب والفضة، وهذا الوعيد لا يكون إلا على فعل المحرم الذي حرمه الشارع، فدل هذا على حرمة استعمال الآنية المتخذه من الذهب أو الفضة في الشرب ونحوه.
2-
ما روي عن حذيفة بن اليمان3 رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 الجرجرة: هي صوت وقوع الماء في الجوف عند شدة الشرب، وصوت البعير عند الضجر، ولكنه جعل صوت جَرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النهي عنها واستحقاق العقاب على استعمالها. راجع: لسان العرب لابن منظور 2/245.
2 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 5311، ومسلم برقم 2065.
3 حذيفة بن اليمان العبسي يكنى أبا عبد الله، حليف الأنصار، من السابقين، أعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة. توفي رضي الله عنه في أول خلافة علي رضي الله عنه عام 36?.
راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 495، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2/223.
يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ 1 فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"2.
فقد دل هذا الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الشرب في أواني الذهب والفضة، وعن الأكل في صحافهما، والمعروف أن النهي عند الإطلاق يفيد التحريم.
3-
ما روي عن ابن أبي ليلى3 أن حذيفة بن اليمان كان بالمدائن فاستسقى، فأتاه دهقان4 بإناء من فضة، فرماه به، فلو أصابه لكسر منه شيئاً، ثم قال:"إنما رميته به لأنني نهيته عنه"5.
فقد أفاد هذا الأثر أن حذيفة رضي الله عنه قد فهم تحريم الأكل والشرب فيما اتخذ من الذهب والفضة، من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه استحل عقوبة الدهقان لمخالفته إياه.
هذا فضلاً عما سبق من نصوص، فإن الإجماع قد انعقد على تحريم الأكل والشرب فيما اتخذ من الذهب والفضة، وذلك على نحو ما حكاه الإمام النووي، وقال ابن قدامة: لا أعلم خلافاً في حرمة استعمال آنية الذهب والفضة6.
كما أنه في استعمال المتخذ من الذهب والفضة، التجبر والتشبه في ذلك بالأعاجم والأكاسرة المتكبرين المتجبرين، وتنعما بنعم المترفين المسرفين، وأن في
1 الصحاف: جمع صحفة وهي التي يشبع ما فيها خمسة أنفس. راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة 174.
2 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري كتاب الأطعمة باب الأكل في إناء مفضض برقم 5110، ومسلم كتاب اللباس والزينة باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة برقم 2067.
3 هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني ثم الكوفي، ثقة، اختلف في سماعه من عمر، توفي رحمه الله بوقعة الجماجم عام 83?. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر صفحة 209.
4 دهقان: لفظه فارسية معناها كبير القرية. راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة 113.
5 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 5309، وبرقم 5493، ومسلم برقم 2067.
6 المجموع 1/306، والمغني 1/75.
استعمال ما اتخذ من هذين المعدنيين فخراً، وخيلاء، وسرفاً، وكسراً لقلوب الفقراء1.
واستدل من قال بكراهة استعمال ما اتخذ من هذين المعدنين: بنفس ما استدل به جمهور الفقهاء غير أنهم قد انفردوا بتوجيه هذا الاستدلال بما يخدم دعواهم، وهي كراهية استعمال أواني الذهب والفضة، وأن حد المنع لا يصل إلى درجة الحرمة وقالوا:
إن النهي عن استعمال ما اتخذ من هذين المعدنين، إنما هو لما في استعماله من التشبه بالأعاجم، وهذا النهي لا يقتضي التحريم، إنما يقتضي الكراهة، ولأن النهي الوارد عن استعمال ذلك للتزهيد بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"2.
والحق أن النهي في الأحاديث مطلق، وهو يفيد التحريم عند الإطلاق لأنه حقيقته، وأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ولأن الوعيد الشديد الوارد في حديث أم سلمة لا يكون إلا على فعل شيء محرم.
والذي يترجح لدي: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء القائلون بحرمة استعمال الرجال والنساء ما اتخذ من الذهب والفضة في غير التحلي والتزين، وذلك لما استدلوا به من السنة، وقول الصحابي، ولما في استعمالهما من السرف والفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء.
ويؤكد هذا ما ورد في شرح فتح القدير: "المحرم هو الاستعمال بأي وجه كان، لما فيه التخيير والإسراف"3.
وما ورد في المغني: "ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، ولا أعلم فيه خلافاً
…
ويحرم اتخاذ آنية الذهب والفضة،
…
فما حرم استعماله مطلقاً، حرم اتخاذه على هيئة
1 كتاب الكافي في فقه الإمام مالك 1/163، والمغني لابن قدامة 1/76.
2 المجموع للنووي 1/305.
3 ابن الهمام 8/82.