الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْل الرابع
أطفَالنَا
…
وَعلُوّ الهِمَّةِ
الأطفال هم المستقبل:
وهذا الشعار حقيقة لا مجاز، واقعٌ لا خيال، فمِن ثَمَّ ينبغي أن يُصرف الهمُّ الأكبر إلى تهيئتهم ليكونوا مؤتمنين على مستقبل أمة الإسلام، وينبغي أن نتخلى عن نظرتنا إلى هؤلاء البراعم على أنهم لُعبة ملهية نتسلَّى بها، وننسى أن تربية الأطفال تبدأ مبكرًا جدًّا:
قال الأستاذ محمد الصباغ حفظه الله:
(سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلًا جاء يسترشده لتربية ابن له، أو بنت وُلِدت حديثًا، فسأله:"كم عمرها؟ "، قال:"شهر"، قال:"فاتك القطار"، وقال: "كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت، وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمُّه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن.
…
يظن أن البكاء والصراخ يوصِّله إلى حقه") (1) اهـ.
فينبغي على المصلحين أن يصرفوا قدرًا عظيمًا من الجهد في توجيه الآباء إلى الأساليب العلمية الصحيحة لتربية أولادهم في شتى مراحل نموهم،
(1)"نظرات في الأسرة المسلمة" هامش ص (146 - 147).
كي يشبوا أصحاء نفسيًّا، وإلا فما أفدح الخسائر التي تتكبدها الأمة إذا هي أهملت تربية أبنائها!
وأول قلعة يتحصن بها الطفل هي الأسرة، أقوى مؤسسة تربوية على الِإطلاق، والوالدان بصفة خاصة، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: "والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمَه نشأ عليه، وسَعِدَ في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّد الشر، وأُهمِلَ إهمالَ البهائم شقي وهلك.
…
وصيانته بأن يؤدِّبَه، ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق
…
"، وقال الِإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: "وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قبل الآباء".
وفي هذا أنزل الله تعالى آية من كتابه تتلى في المحاريب إلى آخر الزمن، قال عز وجل:{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} ، قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه:"علِّموا أنفسكم وأهليكم الخير، وأدِّبوهم".
وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيَّعه؟ حتى يَسأل الرجل عن أهل بيته"(1).
وعن معمَل بن يسار رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما
(1) رواه ابن حبان، وابن عدي في "الكامل"، وأبو نعيم في "الحلية"، وصححه الحافظ في "الفتح"(13/ 113).
من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يَحُطْها بنصحه، إلا لم يجد رائحة الجنة" (1).
وما أحسن ما قال بعضهم:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا
…
على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى حِجّى، ولكن
…
يعوِّده التديُّن أقربوه
ورحم الله من قال:
قد ينفع الأدبُ الأولاد في صغر
…
وليس ينفعهم من بعده أدب
إن الغصون إذا عدَّلتها اعتدلت
…
ولا يلين ولو ليَّنْتَه الخشب
وقال ابن خلدون: "التعليم في الصغر أشد رسوخًا، وهو أصل لما بعده"(2).
ويتأكد الاهتمام بهذه التربية في زماننا الذي تتناوش فيها أطفالنا وأبناءنا فتن من كل صوب، يذكي لهيبها دعاة على أبواب جهنم، من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، همهم كل همهم أن يخرجوا من أصلابنا أجيالًا من الملاحدة الذين يرضون بالعالمانية ربًّا، ودينًا، ومنهاج حياة، فإن لم يتدارك الآباء أبناءهم بالتربية الإسلامية القويمة؛ افترستهم العالمانية
(1) متفق عليه.
(2)
"المقدمة" ص (334).
الملحدة، وضمتهم إلى صفوفها ليحاربوا الله ورسوله والمؤمنين كما هو مشاهد في البلدان التي سبقت إلى اعتناق هذا الدين "اللاديني" المخرِّب.
ومن رعى غنمًا في أرض مَسْبَعة (1)
…
ونام عنها؛ تولى رعيها الأسَدُ
لقد اشتد حرص السلف على مباشرة هذه المهمة الجسيمة، حتى أن المنصور بعث إلى مَن في الحبس من بني أمية، يقول لهم:"ما أشدُّ ما مَرَّ بكم في هذا المحبس؟ "، فقالوا:"ما فقدنا من تربية أولادنا".
واشتد نكيرهم على مَن يصرف همه إلى الكبار فقط، ويهمل الصغار، وما ذاك إلا لأن الأمة محتاجة إليهم، وهم الأعمدة التي تبنى لتحمل ثقل البناء فيما بعد:
قال عمرو بن العاص لحلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة، فلما قضى طوافه جلس إليهم وقد نحوا الفتيان عن مجلسهم، فقال:"لا تفعلوا! أوسعوا لهم، وأدنوهم، وألهموهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين، قد كنا صغار قومٍ أصبحنا كبار آخرين".
وقد علق الإمام ابن مُفلح رحمه الله على هذه العبارة قائلًا:
"وهذا صحيح لا شك فيه، والعلم في الصغر أثبت، فينبغي الاعتناء بصغار الطلبة لا سيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم، فلا ينبغي أن يجعل على ذلك صغرهم أو فقرهم وضعفهم مانعًا من مراعاتهم والاعتناء بهم"(2).
وكان الإمام الشاشي محمد بن الحسين الفقيه الشافعي رحمه الله ينشد:
تعلم يا فتى والعود رطب
…
وطينك لَيْنٌ والطبع قابل
(1) المَسْبَعة: الأرض الكثيرة السباع.
(2)
"الآداب الشرعية، والمنح المرعية"(1/ 225).