الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّالِث
عُلُوّ الهِمَّةَ فِي البَحثِ عَنِ الحَقِّ
لقد حفل التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه بنماذج رائعة من المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وبذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، فصاروا مضرب الأمثال، وحجة لله على خلقه أن من انطلق باحثًا عن الحق مخلصًا لله تعالى، فإن الله عز وجل يهديه إليه، ويَمُن عليه بأعظم نعمة في الوجود نعمة الإسلام، وسنقتصر في هذا الفصل على بعض هذه النماذج المشرقة في القديم والحديث.
(1) سلَمَانُ الفَارِسيّ .. أنموذج ِمِثَالي لِلبَاحث عَن الحَقيقَةَ
المكان:
شجرة ملتفة وارفة الظلال، تجثم أمام دارٍ متواضعة بـ "المدائن"، يجلس تحت ظلها صاحب الدار -شيخ كبير تعلوه الهيبة، ويزينه الوقار- قد أحاط به جلساؤه الأخيار، ينصتون لحديثه الشيق، وقصته الرائعة ورحلته المباركة في البحث عن الحقيقة.
ها هو ذا يروي لهم كيف غادر دين قومه الفرس إلى النصرانية، ثم إلى الإسلام، وكيف ضحَّى في سبيل "الحقيقة الكبرى" بثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثًا عن خلاص عقله وروحه.
إنه يروي لهم: كيف بيع في سوق الرقيق، وهو في طريق بحثه عن
الحقيقة .. ؟ كيف التقى برسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وكيف آمن به ..... ؟
إنه: سلمان الفارسي، أو سلمان الخير صاحب رسول اللهِ، مثل أعلى لكل باحث عن الحقيقة بصدق وإخلاص وتجرد .. هيا بنا نقترب من مجلسه المهيب، وتعالوا معي نصغ إلى النبأ الباهر الذي يرويه.
يقول سلمان الفارسي رضي الله عنه: "كنتُ رجلاً من أهل أصبهان، من قرية يقال لها: "جي" .. وكان أبى دهقان (1) أرضه، وكنت من أحَبِّ عباد اللهِ إليه .. وقد اجتهدتُ في المجوسية، حتى كنت قاطن (2) النار التي نوقدها، ولا نتركها تخبو .. وكان لأبي ضَيْعة، أرسلني إليها يومًا، فخرجت، فمررت بكنسية للنصارى، فسمعتهم يصلون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي: "هذا خير من ديننا الذي نحن عليه" فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري .. وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام .. وقلت لأبي حين عدت اليه: "إني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا"
…
فحاورني، وحاورته
…
ثم جعل في رجلي حديدًا، وحبسني
…
وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركْبٌ من الشام، أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمتُ الحديدَ، وخرجت، وانطلقتُ، معهم
(1) الدَّهقان: رئيس القرية، ورئيس الإقليم.
(2)
قاطن النار: القيم على نارِ المجوس ومُوقِدُها.
إلى الشام .. وهناك سألت عن عالمِهم، فقيل لي:"هو الأسقف، صاحب الكنيسة"، فأتيته، وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلي، وأتعلم .. وكان هذا الأسقف رجل سوء فِي دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه .. ثم مات .. وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلًا على دينهم خيرًا منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة، وزهدًا في الدنيا، ودأبًا على العبادة .. وأحببته حبًّا ما علمت أنني أحببت أحدًا مثله قبله، فلما حضره قَدَرُه، قلت له:"إنه قد حضرك من أمر اللهِ ما ترى، فَبِمَ تأمرني، وإلى من توصي بي؟؟ ".
قال: "أي بُنَي، ما أعرف أحدًا من الناس على مثلِ ما أنا عليه إلا رجلًا بالموصل .. " فلما توفي، أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته، فدلني على عابد في "نصيبين" .. " فأتيته، وأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه، وأقمت معه
…
واصطنعت لمعاشي بقرات وغنيمات" .. ثم حضرته الوفاة .. فقلت له: "إلى من توصي بي؟ "، فقال لي: "يا بني ما أعرف أحدًا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظَلَّكَ زمانُ نبيٍّ يُبْعَث بدين إبراهيم حنيفًا .. يُهاجرُ إلى أرضِ ذاتِ نخل بين حَرَّتين؛ فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل، وإن له آيات لا تخفى: فهو لا يأكل الصدقة
…
ويقبل الهدية .. وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته".
ومر بي ركب -ذات يوم- فسألتهم عن بلادهم، فعلمت
أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم:"أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ " .. قالوا: "نعم
…
".
واصطحبوني معهم حتى قدموا بي -وادي القرى- وهناك ظلموني، وباعوني إلى رجل من يهود .. وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكون هي البلدة التي وُصِفت لي، والتي ستكون مُهاجَرَ النبي المنتظر
…
ولكنها لم تكُنْها وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قَدمَ عليه يومًا رجلٌ من يهودِ بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة!! فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وُصِفت لي .. وأقمت معه أعمل له في نخله في بنى قريظة، حتى بعث الله رسوله، وحتى قدم "المدينة" ونزل بِقُبَاء في بنى عمرو بن عوف.
وإني لفي رأس نخلة يومًا، وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود، من بني عمه، فقال يخاطبه:"قاتل الله بني قيلة إنهم ليتقاصفون (1) على رجل بقباء، قادمٍ من مكة يزعمون أنه نبى .. ".
فو اللهِ ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العُرَوَاء (2)، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعًا، أقول: "ماذا تقول
…
؟ ما الخبر
…
؟ ".
فرفع سيدى يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال:"مالك ولهذا .. ؟ أقبل على عملك" ..
(1) يتقاصفون: يتتابعون، ويجتمعون، ويتزاحمون.
(2)
العُرَواء: بَرد الحمى أولَ مسِّها.
فأقبلت على عملي .. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء .. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له:"إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندى طعام نذرته للصدقة، فلما ذُكِرَ لي مكانكم، رأيتُكم أحق الناس به، فجئتكم به .. ". ثم وضعته، فقال الرسولُ لأصحابه:"كلوا باسم اللهِ" .. وأمسك هو فلم يبسط إليه يدًا
…
فقلت في نفسي: "هذه واللهِ، واحدة
…
إنه لا يأكل الصدقة" .. !! ثم رجعت، وعدت إلى الرسول عليه السلام في الغداة، أحمل طعامًا، وقلت له عليه السلام: "إني رأيتك لا تأكل الصدقة .. وقد كان عندى شيء أحِبُّ أن أكرمك به هدية"؛ ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه: "كلوا باسم اللهِ
…
"، وأكل معهم .. قلتُ لنفسي: "هذه واللهِ، الثانية .. إنه يأكل الهدية" .. !! ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه، وعليه شملتان مؤتزرًا بواحدة، مرتديًا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظرَ أعْلَى ظهرهِ، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بُرْدَته عن كاهله، فإذا العلامةُ بين كتفيه .. خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي .. فأكببت عليه أقبله وأبكي .. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن.
ثم أسلمت .. وحال الرِّقُّ بيني وبين شهود بدر وأحُد .. وفي ذات يوم قال الرسول عليه السلام: "كاتِبْ (1) سيِّدك حتى يُعْتِقك"، فكاتبته، وأمر الرسول الصحابة كي يعاونوني، وحرر الله رقبتي،
(1) كاتَبَ السيدُ العبدَ: كتب بينه وبينه اتفاقًا على مال يُقسطه له، فإذا ما دفعه صار حُرًّا، فالسيد: مُكاتِب، والعبد: مكاتَب.
وعشت حُرًّا مسلمًا، وشهدت مع رسول اللهِ غزوة الخندق، والمشاهد كلها" (1) .. بهذه الكلمات الوِضاء العِذاب .. تحدث "سلمان الفارسي" عن رِحْلتِهِ الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة العظمى التي تصله باللهِ، وترسم له دوره في الحياة .. فأيُّ إنسان شامخ كان هذا الانسان
…
؟ أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطُّلَعَة، وفرضته إرادته الغَلَّابة على المصاعب فقهرتها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولًا
…
؟ أي تَبَتُّل للحقيقة .. وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعًا مختارًا من ضِيَاع أبيه وثرائه ونعمائه إلى المجهول بكل أعبائه، ومَشَاقِّه، ينتقل من أرض إلى أرض
…
ومن بلد إلى بلد
…
ناصبًا، كادحًا عابدًا
…
تفحص بصيرتُه الناقدة الناسَ، والمذاهبَ، والحياة
…
ويظل في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقًا
…
ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى، فيجمعه بالحقِّ، ويلاقيه برسوله، ثم يُعطيه من طولِ العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمين يملئون أركانها وأنحاءها هدىً ورحمةً، وعدلًا ....
…
(1) باختصار وتصرف يسير، وقد رواه الطبراني، وقال الهيثمي:"ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن إسحاق. وقد صرح بالسماع، ومن ثَم حسنه في "السلسلة الصحيحة" (2/ 592).