الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَالي الهمة لَا يَرضَي بِمَا دُونَ الجنَّةَ
لما كان كمالُ الإرادة بكمال المراد، فإن أكمل الناس إرادة هو من أراد الله عز وجل، فوحَّده، ولم يشرك به شيئًا، وسعى إِلى مجاورة الرفيق الأعلى في دار كرامته التي رضيها الله لأوليائه، وتجافى عن دار الغرور التي جعلها للمؤمن سجنًا، وللكافر جنة، قيل للعتَّابي:"فلان بعيد الهمة"، قال:"إِذن لا يكونُ له غاية دون الجنة".
قد هيَّأوك لأمر لو فطنت له
…
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ
وإذا كانت لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسَّا، وأعلاهم همة، وأرفعهم قدرًا مَنْ لذتهم في معرفة الله ومحبته، والشوق إِلى لقائه، والتودد إِلية بما يحبه ويرضاه {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه "منهاج العابدين":
(الملك والكرامة بالحقيقة في الدنيا لأولياء الله عز وجل وأصفيائه الراضين بقضائه، فالبر والبحر والأرض والحجر والمدر لهم ذهب وفضة، والجن والإنس والبهائم والطير لهم مسخرون، لا يشاءون إلا ما شاء الله، وما شاء الله كان، ولا يهابون أحدًا من الخلق، ويهابهم كل الخلق، ولا يخدمون أحدًا إلا الله عز وجل، ويخدمهم كل من دون الله، وأين لملوك الدنيا بعشر هذه الرتبة، بل هم أقل وأذل، وأما ملك الآخرة فيقول الله تعالى: {وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيتَ نعيمًا ومُلكًا
كبيرًا} وأعظِم بما يقول فيه رب العزة "إنه ملك كبير"، وأنت تعلم أن الدنيا بأسرها قليلة، وأن بقاءها من أولها إلى آخرها لقليل، ونصيب أحدنا من هذا القليل قليل، ثم الواحد منا قد يبذل ماله وروحه حتى ربما يظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، وإن حصل له ذلك فيُعذَر، بل يُغْبَط، ولا يستكثر ما بذل فيه من المال والنفس (1)، نحو ما ذكر عن آمرىء القيس حيث يقول:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
…
وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما
…
نحاول ملكًا، أو نموت فنعذرا
فكيف حال من يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المقيم؛ أيستكثر مع ذلك أن يصلي ركعتين لله تعالى أو ينفق درهمين أو يسهر ليلتين، كلا بل لو كان له ألف ألف نفس، وألف ألف روح، وألف ألف عمر كل عمر مثل الدنيا وأكبر وأكثر، فبذل ذلك كله في المطلوب العزيز؛ لكان ذلك قليلاً، ولئن ظفر بعده بما طلب، لكان ذلك غُنْمًا عظيمًا، وفضلاً من الذى أعطاه كثيرًا) اهـ (2).
قال صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلاً يجر على وجهة من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في طاعة الله عز وجل لحقره يوم القيامة"(3)، وذلك لما يرى وينكشف له عيانًا من عظيم نواله، وباهر عطائه.
(1) راجع ص (8).
(2)
"منهاج العابدين" ص (247 - 248)، وانظر قصة عبد الله بن حذافة ص (306 - 307).
(3)
رواه الإمام أحمد، والبخارى في "التاريخ"، والطبراني في "الكبير"، وقال الهيثمى:"إسناد أحمد جيد"، وفي سند الطبراني بقية، مدلس، لكنه صرح بالتحديث، وبقية رجاله وثقوا" اهـ.
فأخلِق بمثل هذا إذا عاين جنة الرضوان أن يتمثل قول القائل:
وكنت أرى أن قد تناهى بى الهوى
…
إلى غاية ما بعدها لي مذهبُ
فلما تلاقينا، وعاينت حُسْنَها
…
تيقنت أني إنما كنتُ ألعب
إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء، ولا يرضى بحياة مستعارة، ولا بِقُنْيةٍ (1) مستردة، بل همه قنية مؤبدة، وحياة مخلدة، فهو لا يزال يحلِّق في سماء المعالي، ولا ينتهي تحليقه دون عليين، فهي غايته العظمى، وهمه الأسمى، حيث لا نقص ولا كدر، ولا تعب ولا نصب، ولا هم ولا غم ولا حَزَن، إنما هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدي، في حَبرة ونَضرة، في دور عالية بهية، وهناك فقط تقر عينه، وتهدأ نفسه، ويستريح قلبه، قال تعالى في أهل الجنة:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلًا خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلًا} .
فالجنة هي الوطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان، أما الدنيا فهي دار غربة منذ أهبط إليها الأبوان:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى
…
وحنينه أبدًا لأولِ منزلِ
فحيَّ على جنات عدن فإنها
…
منازلنا الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبي العدو فهل ترى
…
نعود إلى أوطاننا ونسلم
…
(1) القنية: بضم القاف وكسرها، وسكون النون، ما اكتُسِبَ.