الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البابُ الثَّالِث
الحَثُّ عَلَى عُلُوِّ الِهمَّةِ في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ
تواردت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور، والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وتنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك:
فمنها: ذم ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صورة:
* كما قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} ، وقال تعالى:{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فَأتْبعَهُ الشيطانُ فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه فمثلُه كمَثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركْه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين} (1).
* وقال تعالى واصفًا حال اليهود الذين علموا فلم يعملوا: {مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} ، وقال في وصف أشباههم:{وعُلِّمتم ما لم تعلموا} يعنى علمتم فلم تعملوا، فما ذلكم بعلم، في حين أنه امتدح يعقوب عليه السلام بقوله تعالى: {وإنه لذو علمٍ لما
(1) انظر: "الفوائد" لابن القيم ص (82).
علمناه} أي: يعمل بما علم.
* وذم المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم، وقناعتهم بالدون، فقال في شأنهم:{رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالف} ، وبين أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن الجهاد، فقال:{ولو أرادوا الخروج لأعَدُّوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} الآيات.
* وشنع عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همهم، وغاية علمهم، باعتبار هذا الإيثار من أسوإ مظاهر خسة الهمة، وبيَّن أنَّ هذا الركون إلى الدنيا تَسَفُّل ونزول يترفع عنه المؤمن:{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} .
وقال تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا} كالمجاهد يجاهد للغنيمة {فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} أي: فما له يطلب أخسَّهما؟! فليطلبهما، أو الأشرفَ منهما، كما قال تعالى:{فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنْيا وما له في الآخرة من خلاق * ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار * أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} .
* وعاب حرص اليهود على حياةٍ، أي حياة، ولو كانت ذليلة مهينة، فقال عز وجل:{ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} ، وحمل القرآن الكريم على المشركين الذين يعبدون آلهة مع الله باعتبار هذا الشرك من أجلي مظاهر دناءة الهمة وخبث النفس: {ومن يشرك بالله
فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريحُ في مكان سحيق}، وقال في عابدي المسيح:{ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صِديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} فكيف يُعبدان من دون الله؟
* ومنها: أنه تعالى أثنى على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم:{فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} الآية، وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما أوضحه الله عز وجل في قصص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
* كما قص مواقف الهمة العالية عن المؤمنين من أتباع الأنبياء كما في قصة موسى عليه السلام: {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} الآية، وكما في قصة مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وكما في قصة حبيب النجار في سورة يس، وكما في قصة داود وجالوت:{قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} إلى قوله تعالى: {فهزموهم بإذن الله} الآيات.
* ومنها: أنه عبر عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف "الرجال"(1) في مواطن البأس والجلد والعزيمة، والثبات على الطاعة، والقوة في دين الله، فقال- عز من قائل-: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا
(1) وقد صح في وصف الصحابة رضي الله عنهم أنهم: "كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال".
والله يحب المطهرين}، وقال سبحانه:{يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} الآيات، وقال عز وجل:{من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلًا} .
* ومنها: أنه أمر المؤمنين بالهمة العالية، والتنافس في الخيرات، فقال عز وجل:{سابقوا إلى مغفرة من ربكم} الآية، وقال تعالى:{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} ، وقال سبحانه:{فاستبقوا الخيرات} ، وقال:{ففروا إلى الله} ، وقال:{لمثل هذا فليعمل العاملون} ، وقال:{وفي ذلك فليتنافس (1) المتنافسون} ، وامتدح أولياء بأنهم {يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} .
(1) فهذا التنافس المأمور به محمود، أما التنافس الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"ولا تنافسوا" فهو التنافس المذموم على الدنيا وحُطامها، وانظر ص (118، 119).
(2)
مع أن من المعلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، إلا أنه سبحانه نبه بنفي الاستواء ليذكر المؤمنين بما بينهما من التفاوت العظيم، ليأنف القاعد، ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه، وفي ارتفاع طبقته، ونحوه قوله تعالى:{قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليُهابَ به إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم - أفاده الزمخشري-.
أما السنة الشريفة: فحدِّث ما شئت عن علو همة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسابقهم إلى المعالي، كيف لا وقد أوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز"(1)، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها"(2)، ورُوي عنه أنه كان من دعائه صلى الله عليه وسلم:"وأسألك العزيمة على الرشد"(3)، وكان يتعوذ بالله من "العجز والكسل"(4)، وقال لأصحابه صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سَفْسافها "(5)، وطمأن أهل الهمة العالية بأن الله عز وجل يمدهم بالمعونة على قدر سمو هممهم، فقال صلى الله عليه وسلم:(إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤنة)(6) الحديث، وبين أن أكمل حالات المؤمن ألا يكون له هم إلا الاستعداد للآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شملَه، وأتته
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، وصححه الألباني.
(3)
رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، وضعفه الألباني.
(4)
أصل الحديث متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه.
(5)
رواه الطبراني من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما، وصححه الألباني، وقال المناوي في شرح "معالي الأمور":[وهي الأخلاق الشرعية، والخصال الدينية لا الأمور الدنيوية، فإن العلو فيها نزول] اهـ.
من "فيض القدير"(2/ 295).
(6)
أخرجه البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر "الصحيحة" رقم (1664).
الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شملَه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما قُدر له" (1).
وامتدح صلى الله عليه وسلم قومًا بعلوِّ همتهم فقال: "لو كان الإيمان عند الثريا، لتناوله رجال من فارس"(2).
وعامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين إنما ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها واستحثاثها للتنافس في الخيرات، والأمثلة عل ذلك أكثر من أن تحصر، فمن ذلك مثلًا قوله صلى الله عليه وسلم:
"لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العَتَمة والصبح لأتوهما ولو حَبْوًا"(3).
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتل، كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها"(4)، وحذر من تعمد التباطؤ عن المسابقة إلى الطاعات، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:
"احضْروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد
(1) رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وصححه الألباني.
(2)
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
متفق عليه من حديث أبي هريرة- رضى الله عنه -.
(4)
رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وصححه الألباني.
حتى يُؤخِّرَ فى الجنة، وإن دخلها" (1).
وعلَّمنا صلى الله عليه وسلم عُلُوَّ الهمة في الدعاء، فأمرنا أن نسأله تعالى من فضله، ولا نستعظم شيئًا في قدرة الله وجُوده: فعن أم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها- قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا سأل أحدكم فليكثر، فإنما يسألُ ربَّه"(2)، وفي لفظ:"إذا تمنَّى أحدكم فليستكثر، فإنما يسأل ربه عز وجل"(3).
وعن العرباض رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنه سِرُّ الجنة"(4).
أي: أفضل موضع فيها.
وعن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنة"(5).
وأنكر صلى الله عليه وسلم على من خالف هذا الهدي، وتضاءلت همته، وتواضعت طموحاته:
فعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من المسلمين قد خَفَتَ (6)، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) أخرجه أبو داود، والحاكم، وعنهما البيهقي، وأحمد، وقال الحاكم:"صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وحسَّنه الألباني.
(2)
أخرجه ابن حبان، وصححه الألباني على شرط الشيخين.
(3)
أخرجه عبد بن حميد، وصححه الألباني على شرط الشيخين.
(4)
رواه الطبراني في "الكبير"، وصححه الألباني.
(5)
رواه البخاري.
(6)
خفت: سكن، وسكت من الضعف.
"هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله إياه؟ "، قال: "نعم، كنت
أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة، فَعَجلْهُ لي في الدنيا"،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله لا تطيقه، أو: لا تستطيعة، أفلا
قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقتا عذاب
النار؟ "،
قال: فدعا الله له، فشفاه) (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ "، فقلت:
"أسألك أن تعلمني مما علمك الله"، قال: فنزعت نمرة على ظهري،
فبسطتُها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى القمل يدب عليها، فحدثني،
حتى إذا استوعبت حديثه، قال:"اجمعها، فَصُرْها إليك"،
فأصبحت لا أُسقِط حرفًا مما حدثني" (2).
ويُروى أنه جاء رجل إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه، فسأله
عن شيء، فقال له زيد: (عليك أبا هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة
وفلان في المسجد ذات يوم ندعوَ الله تعالى، ونذكره، إذ خرج علينا
النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال: "عودوا للذى كنتم
فيه"، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤمِّنُ على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة، فقال: "اللهم
إني أسألك ما سألك صاحباي هذانْ، وأسألك علمًا لا يُنسى"،
فقال صلى الله عليه وسلم: "آمين"، فقلنا: "يا رسول الله، ونحن نسأل الله تعالى
(1) رواه مسلم.
(2)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 381).
علمًا لا يُنسى"، فقال: "سبقكم بها الغلام الدوسي") (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يومًا فقال: "عُرِضَتْ عليَّ الأممُ فجعل يمرُّ النبيُّ ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهْط، والنبي وليس معه أحد، فرأيت سوادًا كثيرًا سَدَّ الأفق، فرجوتُ أن يكون أمتي، فقيل: "هذا موسى في قومه"، ثم قيل لي: "انظر"، فرأيت سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفًا قُدَّامَهم يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكَّلون"، فقام عُكَّاشة بن مِحْصَن، فقال:"ادْعُ اللَّهَ أن يجعلني منهم"، قال:"اللهم اجعله منهم"، ثم قام رجل آخر، فقال:"ادع الله أن يجعلني منهم"، فقال:"سبقك بها عُكَّاشة"(2).
فهكذا كانوا رضي الله عنهم لا تلوح منقبة أخروية، ولا فضيلة دينية إلا صعدوا إليها، واستشرفوا لها، وتنافسوا فيها.
ثبت في الصحاح وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسولَه، ويحبه الله ورسولُه،
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3/ 508)، وقال:"صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وقال الذهبي:"حماد ضعيف"، وهو حماد بن شعيب، وعزاه الحافط إلى النسائي، انظر:"تهذيب التهذيب"(12/ 266)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(3242).
(2)
متفق عليه.
ليس بفرار، يفتح الله على يديه"، فبات الناس يدوكون (1) أيهم يُعطاها، حتى قال عمر: "ما أحببتُ الإمارة إلا يومئذ"، فلما أصبح أعطاها عليًّا، ففتح الله على يديه".
وعن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال:
(كنت أخدِمُ النبي صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليلُ آويت إلى بابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَبِتُّ عنده، فلا أزال أسمعه يقول:
"سبحان الله، سبحان الله، سبحان ربي"، حتى أمَلَّ، أو تغلبني عينى فأنامُ، فقال يومًا:"يا ربيعة سلني فأعْطِيَك"، فقلت:"أنظرني حتى أنظر"، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت:"يا رسول الله أسألك أن تدعوَ لي أن ينجيَني من النار، ويدخلني الجنة"، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
"مَنْ أمرك بهذا؟ "، قلت:"ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه، فأحببت أن تدعوَ الله لي"، قال:"إني فاعل، فأعِني على نفسك بكثرة السجود"(2)، ولفظ مسلم: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوَضوئه وحاجته، فقال لي:"سلني"، فقلت:"أسألك مرافقتك في الجنة" قال: "أوْ غيرَ ذلك؟ "،
قلت: "هو ذاك"،
(1) أي: يخوضون، ويموجون فيمن يدفعها إليه، يقال:"وقع الناس في دَوكة ودُوكة": أي: في خوض واختلاط.
(2)
وواه الإمام أحمد في "مسنده"، والطبراني في "الكبير"، ورواه -مختصرًا- مسلم، وأبو داود.
قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".
وعن عطاء بن أبي رباح قال: (قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي"، قال: "إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوتُ الله عز وجل أن يعافيَكِ" قالت: "أصبر"، قالت: "فإني أتكشف، فادع الله أنا لا أتكشف"، فدعا لها)(1).
ومن تسابقهم في الطاعات الذى يعكس علو هممهم - رضى الله عنهم:-
ما رواه عبد الله بن عمرٍو - رضى الله عنهما -: (أن رجلاً قال: "يا رسولَ الله، إن المؤذنين يَفْضُلُوننا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل كما يقولون، فإذا انتهيتَ فَسَلْ تُعْطَ")(2).
ومن ذلك أيضًا:
ما رواه أبو هريرة - رضى الله عنه -: (أن فقراء المهاجرين أتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: "قد ذهب أهل الدُّثور (3) بالدرجات العُلى، والنعيم المقيم"، فقال: "وما ذاك؟ "، قالوا: "يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أعلمكم شيئًا تُدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم،
(1) أخرجه البخارى.
(2)
رواه أبو داود.
(3)
الدثور: جمع دَثْرٍ، وهو المال الكثير.
إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ "، قالوا: "بلى يا رسول الله"، قال: "تُسبِّحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاهَ ثلاًثا وثلاثين مرة" -قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "سَمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء") (1).
ويُروى عن سليمان بن بلال رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر، أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعًا الخروج معه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يخرج أحدهما، فاستهما؛ فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد رضي الله عنهما: "إنه لا بد لأحدنا أن يقيم، فأقم مع نسائك"، فقال سعد: "لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا"، فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدرٍ، فقتله عمرو بن عبد ودٍّ)(2).
…
(1) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
(2)
رواه الحاكم، وضعفه الذهبي.
وَبعد:
فإن (من سجايا الِإسلام التحلي بكبر الهمة،
فكبر الهمة يجلب لك -بإذن الله- خيرًا غير مجذوذ، ويُجري في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل، فلا تُرى واقفًا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطًا يديك إلا لمهمات الأمور، "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها".
إن التحلي بكبر الهمة يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال، ويجتث منك شجرة الذل، والهوان، والتملق، والمداهنة.
فارسم لنفسك كبر الهمة، ولا تنفلت منها، وقد أومأ الشرع إليها في فقهيات تلابس حياتك لتكون دائمًا على يقظة من اغتنامها ومنها:
- إباحة التيمم للمكلف عند فقد الماء، وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء، لما في ذلك من المنة التى تنال من الهمة منالًا) (1)،
ومنها: أن الرجل لا يلزمه الحج ببذل غيره له، ولا يصير مستطيعًا بذلك، سواء كان الباذل قرييًا أو أجنبيًّا، لما في ذلك من المنة التى تلزمه (2).
فهذه إشارات، وعليك التقصِّي.
قال الشنفرى:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لمن خاف القِلَى مُتَحَوَّلُ
أُديم مِطالَ الجوع حتى أُميتَه
…
وأصرفُ عنه الذكر صفحًا فأذهل
وأستف تُرْبَ الأرض كي لا يرى له
…
عليَّ من الطوْل امرؤ متطوِّل
(1)"حلية طالب العلم" للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ص (135) بتصرف، وعن منصور بن المعتمر قال:"إن الرجل ليسقيني شربة من ماء، فكأنه دقَّ ضلعًا من أضلاعي" اهـ. من "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 219).
(2)
"المغني" لابن قدامة (3/ 220)، وانظر "طبقات الحنابلة"(1/ 159).