الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمحبةَ تَتبَعُ الشعور بالمرادِ المحبوب، وسلامةَ القلبِ من الآفةِ التي تَحولُ بينَهُ وبينَ طلبِه لاِرإدتِهِ، فضعفُ الطلب وفتورُ الهمَّةِ إما من نقصانِ الشعور والإحساس، وإمَّا من وجودِ الآفةِ المضعفِة للحياةِ، فقَوةُ الشعورِ وقوةُ الإرادةِ دليلٌ على قوةِ الحياةِ، وضَعْفُها دليل على ضَعْفِها، وكما أنَّ علوَّ الهمةِ، وصدقَ الإرادةِ، والطلبَ من كمالِ الحياة، فهُو سبب إلى حصولِ أكملِ الحياةِ وأطيَبِها، فإِنَّ الحياةَ الطيبةَ إنَّما تُنالُ بالهمَّةِ العالية، والمحبةِ الصادقةِ، والِإرادةِ الخالصةِ، فعلى قَدرِ ذلك تكونُ الحياةُ الطيبةُ، وأخَسُّ الناس حياةً أخسُّهُم همَّةً، وأضعفُهم محبةً وطلبًا، وحياةُ البهائمَ خير من حياتِهِ، كما قيل:
نَهارُكَ يا مَغْرورُ سَهوٌ وَغَفْلَة
…
وَلَيْلُكَ نومٌ والرَّدى لَكَ لازِمُ
وَتَكْدَح فيما سَوْفَ تُنْكِرُ غِبَّهُ
…
كَذلكَ في الدُّنيا تعيشُ البهائمُ
تُسَرُّ بما يَفْنى، وَتَفرَحُ بالْمُنَى
…
كما غُرَّ باللَّذاتِ في النومِ حالمُ (*)
لماذا يستبدلون الذي هو أدني بالذى هو خيرٌ
؟
(والسبب الذي يجعل كثيرًا من الناس يطلبون الأدنى من الأمور، ويقصدون ما لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا -فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمَّة، فكلَّما صحَّ العلم، وانتفى الجهل، وصحَّت العزيمة، وعظمت الهمَّة؛ طلب الِإنسان معالي الأمور، فبعض الناس همُّه لقمة يسدُّ بها جوعته، وشَربة روية تذهب ظمأه، ولباس يواري سوأته- وهو مذهبٌ ذمَّ أهل الجاهلية أصحابه، وفي مثل هؤلاء يقول حاتم طيىء
(*)"تهذيب مدارج السالكين"(2/ 945).
لَحَى (1) اللَّهُ صُعْلُوكًا (2) مُنَاهُ وَهَمُّهُ
…
مِنَ الْعَيْشِ أنْ يَلْقَى لُبُوسًا وَمَطْعَمًا
يَرَى الْخُمْص (3) تَعْذِيبًا وَإِنْ يَلْقَ شَبْعَةً
…
يَبِتْ قَلْبُهُ مِنْ قِلَّةِ الهَمِّ مُبْهَمًا (4)
ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا كحال طَرَفَة بن العبد)، فقد قيل له: ما أطيب عيش الدنيا؟ فقال: "مطعمٌ شهيٌّ، وملبسٌ دفيٌّ، ومركب وطيٌّ" وقال أيضًا مبينًا غايته من الحياة:
(وَلولا ثَلَاثُ هُنَّ مِن عِيشَةِ الفتى
…
وَجَدِّكَ (5) لَمْ أحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي (6)
فَمِنْهُنَّ سَبْقي العَاذِلَاتِ (7) بِشَرْبَةٍ
…
كُمَيْتٍ (8) مَتَى مَا تُعْلَ بالمْاء تُزْبِدِ (9)
وَكَرِّي (10) إذَا نَادَى المُضَافُ مُحَنَّبًا (11)
…
كَسِيد (12) الْغَضَا (13) نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِ
(1) قَبَّحَةُ.
(2)
فقيرًا.
(3)
خلو البطن.
(4)
خاليًا.
(5)
الجدُّ: الحظ والبخت.
(6)
جمع عائد من العيادة.
(7)
جمع عاذلة، والعذل: الملامة.
(8)
الكميت: اسم من أسماء الخمر فيها حمرة وسواد.
(9)
الزَّبَد: الرغوة.
(10)
الكر: العطف.
(11)
المحنب: الذى في يده انحناء.
(12)
السيد: الذئب.
(13)
الغضا: الشجر.
وَتَقْصِيرُ (1) يَوْمِ الدجنِ (2) وَالدَّجْنُ مُعْجِبٌ
…
بِبَهْكَنَةٍ (3) تَحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعَمَّدِ (4)
كثير من الناس همُّه من دنياه همُّ هذا الشاعر المسكين (5)، شَربة خمر، والتمتع بامرأة حسناء، وقليل من النَّاس تنهض همته إلى الدفاع عن الخائف المستجير.
وقد يكون مسعى الناس ومطلبهم أمورًا يعدُّ طالبها سامي الهمَّة عالي القصد كحال امرىء القيس، عندما أفاق من سكره وعبثه على زوال ملك أبيه، فانقلب جادًّا طالبًا إعادة هذا الملك:
فَلَوْ أنَّ مَا أسْعَى لأدْنَى مَعِيشَةٍ
…
كَفَانِي وَلَمْ أطْلُبْ قَلِيلاً مِنَ الْمَالِ
وَلَكِنَّمَا أسْعَى لِمَجْدٍ مؤثَّل
…
وَقَدْ يدْرِكُ الْمَجْدَ المؤَثَّل أمْثَالِي
ولقد طال تطلابه للملك، حتى قضى نحبه في طلبه:
بَكَى صَاحِبي لَما رَأى الدَّرْبَ دونَهُ
…
وَأيقَنَ أنَّا لَاحِقَانِ بِقَيْصَرَا
(1) قصرت الشيء: جعلته قصيرًا.
(2)
الدجن: إلباس الغيم آفاق السماء.
(3)
البهكنة: المرأة الحسنة الخَلْق السمينة.
(4)
المعمد: المرفوع بالعمد.
(5)
وقد اقتدى به أبو نواس فقال:
إنما العيش سماع
…
ومدامٌ ونِدامُ
فإذا فاتك هذا
…
فعلى العيش السلامُ
وهذا جميل بثينة شاعر قصر همته على ملاحقة النساء يجيب من أمره بالجهاد في سبيل الله:
يقولون جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ
…
وأي جهاد غيرهن أريدُ
لكل حديثٍ بينهن بشاشةٌ
…
وكلُّ قتيل عندهن شهيدُ
فَقلت لَه لَا تَبكِ عَينكَ إنَّمَا
…
نُحَاوِل مُلْكًا أو تَمُوتَ فَنُعْذَرا
لقد ضيَّع حياته أولاً في المتع والشهوات، وقضى شطر عمره الثاني في طلب الملك الضائع، وانتهت حياته، ولم يحصِّل مطلوبه، ومات كما مات المتنبي من بعده، طلبًا الملك والإمارة، فأعياهما الطلب) اهـ (1). بتصرف.
وما أكثر الذين طلبوا الملك للرياسة، وألحوا في طلبه، فحامت حوله همتهم، وطافت به عزيمتهم: كان "الأبيوردي" يدعو عقب كل صلاة: "اللهم مَلِّكني مشارق الأرض ومغاربها"(2)، وله في ذلك الأشعار الفائقة، التي تكشف عن شخصية ونفسية شديدة الشبه بشخصية المتنبي.
وقيل ليزيد بن المهلب: "ألا تّبني دارًا؟ "، فقال:"منزلي دار الإمارة أو الحبس".
وقال آخر:
وعِش مَلِكًا أو مُت كريمًا، وإن تمت
…
وسيفُك مشهور بكفِّك تُعْذَرِ
…
(1)"مقاصد المكلفين" للدكتور عمر الأشقر ص (366 - 368)، وهو من نفائس الكتب الجديرة بالمدارسة، لا يكاد يستغني عنه مسلم.
(2)
"فكر ومباحث" للشيخ علي الطنطاوي ص (196).