الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَالي الهمةِ شِريف النفسِ يَعُرِف قَدْرَ نَفسِهِ
أُثِر عن العرب أخبار كثيرة فيها إعظامهم شرف النفس، فمنها:
ما حكاه العُتبيُّ عن أبيه قال:
أهدى ملك اليمن عشر جزائر (1) إلى مكة، وأمر أن ينحرها أعزُّ قرشي، فقدِمَتْ، وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة، فقالت له:"أيها الرجل، لا يَشغلنَّك النساء عن هذه المكرمة التى لعلها أن تفوتك"، فقال لها:"يا هذه، دَعي زوجَك وما يختاره لنفسه! والله ما نحرها غيرى إلا نحرتُه! "، فكانت في عُقُلِها (2)، حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع، فنحرها.
ومن شرف النفس وعلو الهمة ما قالته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية رضي الله عنهم حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان، وقال لها بعض المُعَزِّين:"إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد"، فقالت هند:"أو مثل معاوية يكون خَلَفًا من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها، ثم رُمَي به فِيها، لخرج من أي أعراضها شاء".
(1) جزائْر وجُزُر: جمع جَزُور، ما يصلُح لأن يُذبح من الإبل.
(2)
العُقُل: جمع العِقال، الحبل الذي يُعقل به البعير، يقال: عَقَلَ البعير إذا ضم رسغ يده إلى عَضُده، ورَبَطهما معًا بالعقال ليبقى باركًا.
وقيل لها -ومعاوية وليدٌ بين يديها-: "إن عاش معاوية، ساد قومه"، فقالت:"ثكِلْتُه إن لم يَسُدْ إلا قومه".
وكان معاوية رضي الله عنه يقول: "إني لآَنَفُ من أن يكون في الأرض جهلٌ لا يسعه حِلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يَسَعها جودي".
وقال الأحوص في الفخر (1):
ما من مُصيبةِ نكبةٍ أُرْمَى بها
…
إلا تُشَرِّفُنِي وترفعُ شاني
وإذا سألتَ عن الكرام وجدتني
…
كالشمس لا تخفى بكل مكان
ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المُرِّيُّ، وكان أعرابيًّا يسكن البادية، وكان يُصهر إليه الخلفاء، وخطب إليه "عبد الملك بن مروان" ابنته لأحد أولاده، فقال له:"جَنِّبْني هُجَناءَ (2) ولدكِ".
وعالي الهمة يعرف قدر نفسه، في غير كبر، ولا عجب، ولا غرور، وإذا عرف المرء قدر نفسه، صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تُهان، ونزَّهها عن دنايا الأمور، وسفاسفِها في السر والعلن، وجنَّبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق، أو يضعها فيما لا يليق بقدرها، فتبقى نفسه في حصن حصين، وعز منيع لا تعطى الدنية، ولا ترضى بالنقص، ولا تقنع بالدون.
ألم تر إلى شرف نفس الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم نبي الله
(1) وقد زعم صاحب "العقد الفريد" أنه أفخر بيت قالته العرب، والصحيح أن أفخره قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وبيوم بدرٍ إذ يَرُدُّ وجوهَهم
…
جبريلُ تحت لوائنا ومحمدُ
(2)
الهُجَناء: الذين أُمُّهم غير عربية.
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- حين دعا ربه {ربِّ السجن أحب إلَّي مما يدعونني إليه} ، وحين قال لرسول المَلِك:{ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهنَّ إن ربي بكيدهن عليم} ، ولا عجب فإن من يصبر فيما له ألا يصبر فيه، وهو الخروج من السجن، مع توفر الدواعي على الخروج منه، فأولى به أن يصبر فيما يجب عليه أن يصبر فيه من الهم بامرأة العزيز.
قيل لرجل: "لي حُوَيْجَة"، فقال:"اطلبوا لها رُجَيلًا".
وقيل لآخر: جئناك في حاجة لا ترزؤك (1)، فقال:"هلا طلبتم لها سفاسف الناس؟ "(2).
وقد قيل لبعض العلماء: لي سؤال صغير، فقال:"اطلب له رجلًا صغيرًا".
ومن علو الهمة وشرف النفس ماروي عن "قطب السخاء""عبد الله بن جعفر بن أبي طالب" فقد سألته امرأة، فأعطاها مالًا عظيمًا، فقيل له:
"إنها لا تعرفك، وكان يرضيها اليسير"، فقال:"إن كان يرضيها اليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي".
وسأله سائل بينا يهم بركوب ناقتِه، فنزل له عنها، وعما فوقها،
(1) يقال: رَزَأهُ ماله: إذا أصاب منه شيئًا، فنقصه.
(2)
فإذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا، فكيف لا يطمع أهل الدين في فضل الجواد الكريم؟!
وكان عليها أربعة آلاف درهم، وسيف من سيوف على بن أبي طالب. وعن سعيد بن عبد العزيز أن الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما سمع رجلًا إلى جنبه يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف، فبعث بها إليه.
وعن أبي سعيد عن شيخ له قال: رأيت ابن المبارك يَعَضُّ يد خادم له، فقلت له:"تعض يَدَ خادِمِكَ؟ " قال: "كم آمره أن لا يَعُدَّ الدراهم على السُّؤال (1)، أقول له: اُحث لهم حَثْوًا".
ومن شرف النفس ومعرفة قدرها، قول "الأبيوردي":
رأت أميمة أطماري (2) وناظرها
…
يعوم في الدمع منهلا بوادِرُه
وما درت أن في أثنائها رجلًا
…
ترخى على الأسد الضارى غدائره (3)
أغر في ملتقى أوداجه صيد
…
حمر مناصله (4) بيض عشائره (5)
إن رَثَّ بردي (6) فليس السيف محتفلاً
…
بالغمد (7) وهو وميض الغرب باتره (8)
(1) السُّؤال: طالبو الصدقة.
(2)
أطمار: جمع طِمْر، الثوب الخلَق البالي.
(3)
غدائر: جمع غديرة، الذؤابة المضفورة من الشعر.
(4)
مناصل: جمع مُنْصُل، وهو السيف.
(5)
عشائر: جمع عشيرة، وعشيرة الرجل: بنو أبيه الأقربون، وقبيلته، ويقال: فلان أبيض أي: نقيُّ العِرض.
(6)
رَثَّ: بَلي، والبُرْدُ: كساء مخطط يُلْتَحَفُ به.
(7)
الغِمْد: غِلاف السيف.
(8)
الغربُ: أول كل شيء وحَدُّه، يقال: غرب السيف، والسكين، والفأس،
ونحو ذلك، وسيف غرب: قاطع، حاد، والوميض: اللمعان، والباتر:
القاطع.
وهمتي في ضمير الدهر كامنة
…
وسوف يَظهر ما تُخفي ضمائرُه
ومن هذا الباب قول الشافعي رحمه الله:
عَلَيَّ ثيابٌ لو يباع جميعها
…
بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تقاس بها
…
نفوس الورى كانت أعز وأكبرا
وما ضَرَّ نَصْلَ السيفِ إخلاقُ غِمدِه
…
إذا كان عَضْبًا (1) حيث وجَّهْتَه فَرَى (2)
وقال الشافعي رحمه الله أيضًا:
إذا المشكلات تصدَّين لي
…
كشفت حقائقها بالنظر
لسان كشِقْشِقة الأرحبي (3) أو كالحسام اليماني الذكر
ولست بإمَّعةٍ (4) في الرجا
…
لِ أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكننى مِدْره (5) الأصغرين (6)
…
جلَّابُ خير، وفرَّاجُ شر
وقال الحريري رحمه الله:
وفضيلة الدينار يَظهر سرُّها
…
من حَكِّهِ لا من مَلاحَة نقشهِ
ومن الغباوة أن تُعظم جاهلًا
…
لِصِقال ملبَسه ورونق رقشِه
أو أن تُهين مُهَذبًا في نفسه
…
لِدُروس بَزَّتهِ وَرَثَّةِ فرشِه
(1) السيف العاضب: الحاد القاطع.
(2)
فَرَى: شق وقطع، والشافعي رحمه الله هو القائل:"ما رفعتُ أحدًا فوق منزلته؛ إلا حَطَّ مني بمقدار ما رفعتُ منه".
(3)
الشِّقْشِقَةُ: شيء كالرئةُ يخرجه البعير من فيه إذا هاج، وتستعمل في التعبير عن القدرة على الخطابة والبيان، والأرحبُّي: نسبة إلى قبيلة "أرحب"، وهي بطن من "همدان"، وإليها تُنْسَبُ الإبل الأرحبيات.
(4)
الإمَّعة، والإمَّع: الرجل يتابع كل أحد على رأيه، لا يثبت على شيء.
(5)
المِدْرَةُ: السيد الشريف، والمُقْدِمُ عند الخصومة والقتال.
(6)
الأصغران: القلب واللسان.
وقال أبو هلال العسكري رحمه الله:
جلوسي في سوق أبيع وأشتري
…
دليل على أن الأنام قرود
ولا خير في قوم تَذِلُّ كرامُهم
…
ويعظم فيهم نذلهم ويسود
ويهجوهم عني رثاثة كسوتي
…
هجاءً قبيحًا ما عليه مزيد
…
وكره بعض العلماء أن يتحول عن بلده، مع إيثاره الخمول والانقباض عن الناس، خشية أن يعامله من لا يعرف قدره؛ بما لا يليق به:
كان الِإمام سفيان الثوري رحمه الله شديد التواضع (1) في غير ذل ولا استصغار، ومن كلامه رحمه الله:
"أحِبُّ أن أكونَ في موضعٍ لا أُعْرَفُ، ولا أُسْتَذَلُّ"، وقال ابن مهدي: سمعت سفيان الثوري يقول: "وددتُ أني أخذتُ نعلي هذه، ثم جلست حيث شئت، لا يعرفني أحد"، ثم رفع رأسه، ثم قال:"بعد أن لا أُسْتَذَلُّ".
ولشدة حذره من الذلة، كان يسكن بين معارفه من الناس الذين يعرفون قدره، وقال رحمه الله:"لولا أن أُسْتَذَلَّ" لسكنتُ بين قوم لا يعرفونني" (2).
(1) وقد رؤي مرة في مكة، وقد أكثر عليه الناس من حوله، فقال:"ضاعت الأمة حين احتيج إليَّ"، وكان يقول:"لو لم يأتني أصحاب الحديث، لأتيتهم في بيوتهم"، ويقول:"لو أني أعلم أن أحدًا يطلب الحديث بنية، لأتيته في بيته حتى أحدثه"، وكان لا يتصدر مجلسًا، ولكنه يجلس بين عامة الناس، حتى قال في ذلك علي بن ثابت:"ما رأيت سفيان في صدر مجلس قط، كان يقعد إلى جنب الحائط، ويجمع بين ركبتيه"، انظر "حلية الأولياء"(6/ 367 - 382).
(2)
ولا يرد على هذا ما حكاه الحسن قال (كنت مع ابن المبارك يومًا فأتينا على =
لما قدم المدينة الخليفةُ المهديُّ، أقبل الناسُ عليه مسَلِّمين، فلما أخذوا مجالسهم جاء مالك، فقالوا:"اليوم يجلس مالكٌ آخر الناس"، فلما دنا، ونظر ازدحام الناس، وقف، وقال:
"يا أمير المؤمنين! أين يجلس شيخك مالك؟ "، فناداه المهدي:"عندي يا أبا عبد الله! "، فتْخطَّى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى، وأجلسه بحانبه.
…
وبهذه العزة أجاب العالم الضرير المحدِّثَ أبو معاوية محمد بن خازم هارون الرشيد، لما صَّب الماء على يديه، وأعلمه بذلك بعد أن فرغ:"إنما أكرمتَ العِلمَ يا أمير المؤمنين".
…
عزل الإمام "ابن دقيق العيد" رحمه الله نفسه عن القضاء في بعض المرات، ثم طُلب ليُوَلِّى، وقام السلطان الملك المنصور "لاجين" له واقفًا لما أقبل، فصار يمشى قليلًا قليلًا، وهم يقولون له:"السلطان واقف"، فيقول:"أديني بأمشى!! "، وجلس معه على الجوخ حتى لا يجلس دونه، وقبَّل السلطان يده، فقال ابن دقيق العيد:"تنتفع بهذا"!
= سقاية، والناس. يشربون منها، فدنا منها ليشرب، ولم يعرفه الناس، فزحموه، ودفعوه، فلما خرج قال لي:"ما العيش إلا هكذا"، يعني حيث لم نُعرف ولم نُوقَّر)، فإن غاية ما فيه أنه لم يُعْرَف، فعُومل كسواد الناس، لا أنه ذُلَّ، وهذا عين ما حرص عليه أويس القرني رحمه الله حين قال له عمر -رضى الله عنه-:"أين تريد؟ "، قال:"الكوفة"، قال:"ألا أكتب لك إلى عامِلها؟ "، قال:"أكون في غَبراء الناس أحَبُّ إلَيَّ" رواه مسلم، و "غبراء الناس": ضعافهم، وصعاليكهم وأخلاطهم الذين لا يُؤبه لهم.
وقال ابن حزم- رحمه الله: (ومن أعظم ما يُحكى من المكارم التى لم نَسمع لها أختًا:
أن أبا غالب تمام بن غالب التَّيَّاني (ت 436) ألَّف كتابا في اللغة (1)، فوجَّه إليه أبو الجيش مجاهد العامريُّ صاحب الجزائر ودانية ألف دينارٍ أندلسية، ومركوبًا وأكسية، على أن يزيد في ترجة الكتاب -أي: في اسمه-: "مما ألَّفه أبو غالب لأبي الجيش مجاهد" فردَّ الدنانيرْ وغيرها، وقال:"كتاب ألَّفْتُه لينتفع به الناس، وأُخلِّدَ فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري، وأصرف الفخر له! والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلتُ، ولا استجزتُ الكذب، لأنني لم أجمعه له خاصة، بل لكل طالب "فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها!) (2) اهـ.
…
وعن أبي سعيد بكر بن منير قال:
(بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل
البخاري: "أن احمل إليَّ كتاب "الجامع"، و"التاريخ"، وغيرهما
لأسمع منك"، فقال محمد بن إسماعيلَ لرسوله:
"أنا لا أُذِلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كنت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضرني في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا؛ فأنت سلطان، فامنعني من الجلوس، ليكون في عذر عند الله يوم القيِامة، لأني لا أكتم العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه، أُلجم بلجام من نار"، قال: فكان سبب الوحشة بينهما هذا) اهـ.
(1) واسم الكتاب "تلقيح العين".
(2)
انظر: "نفح الطيب" للمقري (3/ 172، 190).
وقال أبو بكر بن أبي عمرو: (كان سبب مفارقة أبي عبد الله البخاري البلد أن خالد بن أحمد خليفة ابن طاهر سأله أن يحضر منزله، فيقرأ "التاريخ"، و"الجامع" على أولاده، فامتنع من ذلك، وقال: "لا يسعني أن أخص بالسماع قومًا دون قوم آخرين"، فاستعان خالد بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل بخارى، حتى تكلموا في مذهبه، فنفاه عن البلد، وقال: فدعا عليهم) إلخ (1).
…
جاء في ترجمة الخطيب البغدادي رحمه الله أنه (دخل عليه بعض العلوية، وفي كُمِّه دنانير، فقال للخطيب:"فلان يُسَلِّم عليك، ويقول لك: اصرف هذا في بعض مهماتك"، فقال الخطيب:"لا حاجة لي فيه"، وقطب وجهه، فقال العلوي:
"كأنك تستقله؟ "، ونفض كُمَّه على سجادة الخطيب، وطرح الدنانير عليها، فقال:"هذه ثلاثمائة دينار"، فقام الخطيب محمرًّا وجهه، وأخذ السجادة، وصَبَّ الدنانير على الأرض، وخرج من المسجد)، قال أحد تلامذة الخطيب:
(ما أنسى عِزَّ خروج الخطيب، وذُلَّ ذلك العلوي، وهو قاعد على الأرض، يلتقط الدنانير من شقوق الحصير، ويجمعها)(2) اهـ.
وفي عزة العالم وشرف نفسه، قال القاضي أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجاني:
(1) أنظر: "هدي السارى" ص (493).
(2)
"طبقات الشافعية"(3/ 14).
يقولون لي: فيك انقباض، وإنما
…
رأوا رجلًا عن موقف الذل أحجما
أرى الناسَ من داناهمُ هان عندهم
…
ومن أكرَمته عزة النفس أُكْرِما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما
…
بدا طمع صيرته في سُلَّمَا
وما زلتُ منحازًا بعرضي جانبًا
…
من الذل أعتد الصيانة مَغنما
وما كل برق لاح لي يستفزني
…
ولا كل من في الأرض أرضاه مُنِعما
إذا قيل: "هذا منهل"، قلت: قد أرى
…
ولكن نفسَ الحُرِّ تحتمل الظما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
…
لأخدُمَ من لاقيتُ لكن لأُخْدَما
أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة
…
إذًا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
…
ولو عظموه في النفوس لعظَّما
ولكن أذلوه فهان، ودنَّسوا
…
مُحَيَّاهُ بالأطماع حتى تجهَّما (1)
…
وقال الذهبي في ترجمته للإمام على بن أبي الطيب: إنه حمل إلى السلطان محمود بن سبكتكين ليسمع وعظه، فلما دخل جلس بلا إذن، وأخذ في رواية حديث بلا أمر، فتنمر له السلطان، وأمر غلامًا، فلكمه لكمة أطرشته، فعرفه بعضُ الحاضرين منزلته في الدين والعلم، فاعتذر إليه، وأمر له بمال، فامتنع، فقال:"يا شيخ! إن للمُلْكِ صَولةً، وهو محتاج إلى السياسة، رأيتُ أنك تعدَّيتَ الواجب، فاجعلني في حِلٍّ"، قال: "الله بيننا بالمرصاد، وإنما أحضرتني للوعظ، وسماع
(1)"الآدب الشرعية" لابن مفلح (2/ 50)، وانظر "أدب الدنيا والدين" للماوردي ص (47).
أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وللخشوع، لا لإقامة قوانين الرئاسة"، فخجل الملك، واعتنقه.
* وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبدًا أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلَّاة (1)، قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه، وهو يصلي، فلما صلى، انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه:"قوما"، فقاما، فقال:"يا ابنَيَّ لا تَنِيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسود".
* ومن لطائف شرف النفس، والمبالغة في تنزيهها عن الدنية، أن الشيخ "عز الدين" كانْ إذا قرأ القارئ عليه من كتاب، وانتهى إلى آخر باب من أبوابه لا يقف عليه، بل يأمره أن يقرأ من الباب الذي بعده؛ ولو سطرًا، ويقول:"ما أشتهي أن أكون ممن يقف على الأبواب".
* وهذا آخَرُ من العلماء يشمخ على الفقر والسؤالِ حتى ولو كان فيه نيلُ العلياء، فينَهى عن السؤال ومَدِّ اليد، ولو للعلياء، فَمدُّ اليد من العالم ذِلَّة وانكسارُ نفس، والعالمُ داعية الحق، فكسر نفسه بالسؤال إضعاف للحق الذي يدعو إليه، فيقول ذلك الفقيرُ الشامخُ الأبيُّ:
لا تمُدَّن للعلياء منك يدًا
…
حتى تقولَ لك العلياءُ: هاتِ يَدَك
…
وقيل: أنفذ الخليفة بمائة دينار إلى عالم، وقال لغلامه:"إن قبل ذلك، فأنت حُرٌّ"، فحملها إليه، فلم يقبل، فقال: "اقبل،
(1) الباقِلَّاء: نبات عشبي حولي، تؤكل قرونه مطوخة، وكذلك بذوره.
ففيه عتقي"، فقال: "إن كان فيه عتقُكَ، ففيه رِقِّي".
…
وكان الشيخ "سعيد الحلبي" -عالم الشام في عصره- في درسه مادًّا رجليه، فدخل عليه جبَّار الشام "إبراهيم باشا" ابن "محمد علي" صاحب مصر، فلم يتحرك له، ولم يقبض رجليه، ولم يبدل قعدته، فتألم الباشا، ولكنه كتم ألمه، ولما خرج، بعث إليه بصُرَّة فيها ألف ليرة ذهبية، فردَّها الشيخ، وقال للرسول الذي جاءه بها:"قل للباشا: إن الذي يمد رجليه، لا يمد يده".
ومن شرف النفس، ومعرفة قدرها في الصِّغار:
* ما قال زياد بن ظبيان -وهو يجود بنفسه- لابنه عُبيد الله: "ألا أوصي بك الأمير زيادًا؟ "، قال:"يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصيةُ الميِّت؛ فالحيُّ هو الميت"، وقال الشاعر في نحوه:
إذا ما الحيُّ عاش بعظم ميتٍ
…
فذاك العظمُ حَيٌّ وهو مَيْتُ
* وقال معاوية لعمرو بن سعيد، وهو صبي:"إلى من أوصى بك أبوك؟ "،
قال: "إن أبي أوصى إلَي، ولم يوص بي"،
قال: "وبم أوصى إليك؟ "،
قال: "ألَاّ يفقد إخوانُه منه إلا وجهَه".
* كان الشيخ "عبد الوهاب الفارسي" رحمه الله يسِير يومًا برفقة صديقه الشيخ "محمد الجراح"، فصدمتهما سيارة، فسقطا في حفرة وجُرحا، ولما علما أن السائق كان سكران؛ صفحا عنه، وامتنعا
من مقاضاته، أنفة من أن يقفا في موقف واحد مع سكران.
ونختم هذا الفصل بمثال فَذٍّ، بذل حياته لإعلاء كلمة الله، وهو الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- وأعلى درجته في الشهداء، ذلك البطل الذي ارتضع منذ طفولته معاني العزة والكرامة والأنفة وشرف النفس، والذي عاش حياته "سيدًا"، وغادر الدنيا سيدًا، رافعًا رأسه، والذي عاش حياته "قطبًا"، وغادرها قطبًا في الدعوة والجهاد، ونتوقف فقط عند ساعاته الأخيرة في الدار الفانية، وقد طُلب إليه أن يعتذر للطاغية مقابل إطلاق سراحه، فقال:"لن أعتذر عن العمل مع الله"، وعندما طُلب منه كتابةُ كلمات يسترحم بها عبد الناصر قال:"إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة، ليرفض أن يكتب حرفًا يُقِرُّ به حكم طاغية"، وقال أيضًا:"لماذا أسترحم؟ إن سُجِنتُ بحق، فأنا أقبل حكم الحق! وإن سُجنت بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل! ".
وفي إحدى الجلسات اقترب أحد الضباط منه، وسأله عن معنى كلمة "شهيد"، فردَّ عليه رحمه الله قائلًا:"شهيد: يعني أنه شهد أن شريعة الله أغلى عليه من حياته":
لعمركْ إني أرى مَصرعي
…
ولكنْ أغُذُّ إليه الخُطا
لعمرك هذا ممات الرجالِ
…
فمن رام موتًا شريفًا فذا (1)
…
(1) انظر: "سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" ص (61 - 62)، (462)، (474)، (481)، ومن نماذج الشموخ والاستعلاء على الجاهلية حتى في=