الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعالج أمرًا لا يُعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصُح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينًا لا يرون الحقَّ غيرَه"؟! من منكم -ممن يعرف قدر نفسه بلا وَكْسٍ ولا شطط- يراها أهْلًا لهذه الوظيفة المقدسة؟
من منكم "يوسف" هذه الأحلام
الذي يضرب صدره في ثقة وشموخ قائلًا: "أنا لها .. أنا لها"؟ فإن كنت -عن جدارة واستحقاق- حُزْتَ "مُسَوِّغات" هذا الترشيح، فامض على بصيرة،
"ولا تلتفت إلى الوراء حتى يفتح الله عليك"، وحذار أن تغفل ولو "لحظة":
لحظةً يا صاحبي إن تغفلِ
…
ألفَ ميلٍ زاد بُعْدُ المنزلِ
رام نقش الشوك حينًا رجلُ
…
فاختفى عن ناظريه المحْمَلُ (1)
وزاحم بكتفيك وساعديك قوافل العظماء المجددين من السلف والخلف، ولا تؤجل فـ (ليس من تأجيل، فإن مرور الزمن ليس من صالحك، وإن الطغيان كلما طال أمده، كلما تأصَّلت في نفوس المتميعين معاني الاستخذاء، ولا بد من مبادرة تنتشل، ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق ينبض، وبذرة فطرة كامنة)(2).
(1) ومناسبة هذا الشعر (أن إنسانًا كان تائهًا في مفازة يمشي على قدميه، فشهد على بعد منه محملاً أمَّل فيه أسباب النجاة، فأسرع متعجلًا يقصده حافيًا، فأصاب الشوك قدميه، فصرف بصره عن المحمل لحظة لنزع الشوكة من قدمه، فغاب عنه المحمل! ومات أمله ولبسته الحسرات) اهـ. من "رسالة المسترشدين" للمحاسبي، بتحقيق أبي غدة ص (115).
(2)
"المنطلق" ص (59).
قد هيَّأوك لأمرٍ لو فطنت له
…
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَل
ولا يظننَّ ظانٌّ أن حديثنا عن علو همة أسلافنا العظام يعني الانطواء في الماضي وقطع الصلة بالحاضر والمستقبل، وإلا صرنا كالترجُمان الذي يتوقف أمام الآثار ويشيد بالماضي فحسب، دون أن يقدم شيئًا للحاضر بَلْهَ المستقبل.
ولا يظننَّ ظانٌّ أننا بهذا الحديث عن علو همة السلف الصالح نرجع إلى الوراء في زمن تتسابق فيِه الأم نحو المستقبل، فإن اقتداءنا بخير أمة أخرجت للناس هو ترقّ وصعود وارتفاع إلى مستوى ذلك الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له نظيرًا، وإن إبراز هذه النماذج الحية أقرب طريق إلى إيقاظ الهمم نحو إصلاح هذه الأمة التى لا يصلح آخِرها إلا بما صلح به أولها {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون} ، وباب المجد والمكرمات لم يزل مفتوحًا يرحب بكل راغب:
إذا أعجبتك خصالُ امرئٍ
…
فكُنْهُ يَكُنْ منه ما يُعجبكْ
فليس لدى المجدِ والمكرُما
…
تِ إذا جِئْتَها حاجبٌ يَحْجُبُكْ
فيا من يروم ولوج هذا الباب واجه الحقائق، وتبصر موقع قدمك، ولا تفزع إلى انتظار خراب العالم على أمل أن ينهض المسلمون على أنقاضه، ولا تهرب إلى افتراض حصول خوارق للسنن التي لا تحابي من لا يحترمها، قال تعالى:{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} ، وتذكر يوم بدر حين (خرج الثلاثة من كفار قريش يطلبون المبارزة، فأخرج لهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الأنصار، فقالوا:"والله لا نطعن في أحسابهم ولا أنسابهم، ولكن أخرج لنا أكفاءنا من قريش"، فأخرج لهم عليًّا وحمزة وأبا سفيان بن الحارث، فقتلوهم،
وكذلك الناس دومًا، تحب المكافأة حتى إذْ هم يُقتلون، والقرشية اليوم تتمثل في الصروح العلمية، والمجامع الأدبية، .. والمؤسسات الصحافية، والمعاهد السياسية، والدور الوثائقية، والشركات الصناعية، والقاعات المصرفية، وعلى دعاة الإسلام اليوم أن ينطلقوا منها للمبارزة) (1).
هذا زمان لا توسُّط عنده
…
يبغي المغامر عاليًا وجليلا
كن سابقًا فيه أو ابق بمعزل
…
ليس التوسط للنبوغ سبيلا
وأنت أنت أيها المصلح المرتقب، والمجدد المنتظر، ستخرج إلى الحياة بإذن الله مهما حاول الفرعون أن يتقيك، ومهما وأد من الصبية كي يبدل وعد الله الذي لا يُخْلَف، قد تكون الآن كامنًا في ضمير الغيب، أو حقيقة في عالم الشهادة، قد تكون رضيعًا في المهد، أو لعلك نشءٌ تقرأ الآن هذه السطور:
أنت نشءٌ وكلامي شُعَلٌ
…
عَلَّ شدوي مُضْرِمٌ فيك حريقا
ليس في قلبى إلا أن أرى
…
قطرةً فيك غدت بحرًا عميقا
لا عَرَى الروحَ هدوءٌ، ولتكن
…
بحياة الكدِّ والكدح خليقا (2)
إن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة "عُمَرِيِّة" توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر منك صيحة "أيوبية" تغرس بذرة الأمل، في بيداء اليأس، وعلى قدر المئونة؛ تأتي من الله المعونة، فاستعن بالله ولا تعجز.
(1)"صناعهّ الحياة" ص (51)(بتصرف).
(2)
"المنطلق" ص (38).
قد نهضنا للمعالي ومضى عنا الجمود
ورسمناها خطًى للعِزِّ والنصر تقود
فتقدم يا أخا الإسلام قد سار الجنود
ومَضَوا للمجدِ إن المجدَ بالعزمِ يعود (1)
قال تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل أمتي مثل المطر، لا يُدْرَى آخِرُه خير أم أوَّلُه"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا، يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة (3)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الأرضَ، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها" (4)، وقال صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يبقى بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعِزٍّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلامَ، وذُلاًّ يذل به الكفرَ" (5). ولتكن هذه المبشرات مسك الختام، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
الإسكندرية في السابع من ربيع الآخر 1416هـ
الموافق 3 سبتمبر 1995م
(1)"الرقائق" ص (149).
(2)
رواه الإمام أحمد والترمذي، وحسنه، وكذا حسنه الحافظ.
(3)
رواه الإمام أحمد، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(6/ 231).
(4)
صدر حديث رواه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(5)
رواه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير"، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وكذا صححه ابن حبان.