الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُخاطرتهمْ بأَنفُسِهِمْ في نُصْرَةِ الدِّينِ
إن الداعية الكبير الهمة يفاصل الباطل مفاصلة حاسمة، ويرفض الالتقاء به في منتصف الطريق، لسان حاله يقول: كان العيش المتصالح ممكنًا لي:
ولكنهم ركبوا مَسْلَكًا
…
يَحيد عن الجَدَدِ المشرقِ
وقد ملك الأمرَ منهم رجالٌ
…
يخالف منطقهُم منطقي
نأوا عن هدى الله في نهجهم
…
وساروا، وسرت، فلم نلتقِ (1)
إنه على بصيرة من دينه، واثق من منهجه، موقن برسالته، ولو خالفه أهل الأرض قاطبة:
قال سليمان الداراني: "لو شك الناس كلهم في الحق، ما شككت فيه وحدي" إنه يفترض حينئذ أنه خلق وحده، وكُلِّف بالحق وحده، وأنه سيحاسب عليه وحده.
وعن حزم بن أبي حزم قال: قال عمر بن عبد العزيز في كلام له: "فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي، كان في الله يسيرًا".
إنه يعلم أن طريق الدعوة (طويل وشاق، مملوء بالأشواك والصعاب، لا تتحمله إلا نفوس الرجال، ولا تقوم به إلا همم الصادقين الأبطال، ولا تقدر على مواصلة السير فيه النفوس المريضة المترهلة ممن أصابها وهن العزيمة ونضب وقود الإيمان فيها .. هذا الطريق هو طريق
(1)"المنطلق" ص (177).
الأنبياء، فيه تعب آدم، وناح لأجله نوح، ورُمِيَ في النار الخليل، وأضْرِجَ للذبح إسماعيلُ، وبيع يوسف بثمن بخس، وقاسى المرضَ أيوب، وكذا سيرة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين) (1).
إن من خصائص الداعية الكبير الهمة أنه لا يترخص في السكوت عند قوة أهل الفجور وأذاهم، لأنه يرى أن الترخيص هنا من شأن العامة من المستضعفين، وأما الدعاة، والقادة، والعلماء، فيتمسكون بالعزيمة، ويصدعون بالحق، وإن لحقهم الأذى والعذاب والموت، وقد تجسَّد هذا المعنى جليًّا في موقف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله تعالى من محنة القول بخلق القرآن، وهاك طرفًا منها كما يحكيه ابنه صالح:
قال صالح: قال أبي: (لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم، وقال: ائتوني بغيِرها، ثم قال للجلادين:"تقدموا"، فجعل يتقدم إليَّ الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له:"شد، قطع الله يدك! "، ثم يتنحى، ويقوم الآخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك:"شد، قطع الله يدك! "، فلما ضُربت تسعة عشر سوطًا قام إليَّ، يعني المعتصم: وقال: "يا أحمد علام تقتل نفسك؟ إني والله عليك لشفيق"، قال: فجعل عُجيْف ينخسني بقائمة سيفه، وقال:"أتريد أن تغلبَ هؤلاء كلهم؟ "، وجعل بعضهم يقول:"ويلكَ، الخليفة على رأسك قائم! "، وقال بعضهم:"يا أمير المؤمنين، دمُه في عنقي، اقتله! "، وجعلوا يقولون:"يا أمير المؤمنين، أنت صائم، وأنت في الشمس قائم! "، فقال لي:"ويحك يا أحمد، ما تقول؟ "، فأقول:"أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول به"، فرجع
(1)"بصائر تربوية" ص (135).
وجلس، وقال للجلَّاد:"تقدم وأوْجِع، قطع الله يدكَ! "، ثم قام الثانية، فجعل يقول:"ويحك يا أحمد، أجبني"، فجعلوا يقبلون علي ويقولون:"يا أحمد، إمامك على رأسك قائم! " وجعل عبد الرحمن يقول: "مَن صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ " وجعل المعتصم يقول: "ويحك، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أُطْلِقَ عنك بيدي"، فقلت:"يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله"، فيرجع، وقال للجلادين:"تقدموا"، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول:"شد، قطع الله يدك! " قال أبي: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أطلقتْ عني، فقال لي رجل ممن حضر:"إنا كَببْناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية ودُسْناك! "، قال أبي: فما شعرت بذلك، وأتوني بسَوِيق فقالوا لي:"اشرب وتقيأ"، فقلت:"لا أفْطِر"، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سَمَاعة فصلَّى، فلما انفتل من الصلاة قال لي:"صليتَ والدم يسيل في ثوبك؟ "، فقلت:"قد صلى عمر وجرحه يَثْعَبُ دمًا".
قال صالح: ثم خُلي عنه فصار إلى منزله، وٍ كان مكثه في السجن، منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخُلي عنه، ثمانية وعشرين شهرًا. ولقد أخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه، قال: يا ابن أخي، رحمة الله على أبي عبد الله، والله ما رأيت أحدًا يشبهه، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يُوَجه إلينا بالطعام:"يا أبا عبد الله، أنت صائم، وأنت في موضع تَقِيَّةٍ"(1)، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب:
(1) علَّق العلامة أحمد شاكر رحمه الله هنا قائلًا: (التقية إنما تجوز للمستضعفين الذين=
"ناولني"، فناوله قدحًا فيه ماء وثلج، فأخذه ونظر إليه هنيَّةً، ثم ردَّه ولم يشرب! فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش، وهو فيما هو فيه من الهول! (1)، وعلَّق الإمام أبو الفرج بن الجوزي على موقف الإمام أحمد رحمه الله قائلاً: (هذا رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى فبذلها، كما هانت على بلال نفسه، وقد روينا عن سعيد بن المسيب:"أنه كانت نفسه عليه في الله تعالى أهون من نفس ذباب"، وإنما تهون أنفسهم عليهم لتلمحهم العواقب، فعيون البصائر ناظرة إلى
=يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس، هؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة. أما أولوا العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون. ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذا تقية. وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق، لا يصدعون بما يؤمرون، يجاملون في دينهم وفي الحق، لا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعًا، أو خافوا منه ضرًّا، في الحقير والجليل من أمر الدنيا. وكل أمر الدنيا حقير. فكان من ضعف المسلمين بضعف علمائهم ما نرى. ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين، فيما كتب إلى أبي رحمه الله، من خطاب سياسي عظيم، في جمادى الأولى سنة 1337، قال:"كأن المسلمين لم يبلغهم من هداية كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك، ولست أدري وقد فهموا منها ما فهموا، كيف يقولون بوجوب الجهاد، وهو إتلاف للنفس والمال؟! وكيف يفهمون تعرضه صلى الله عليه وسلم لصنوف البلاء والإيذاء؟! ولماذا يؤمنون بكرامة الشهداء والصابرين في البأساء والضراء على الله"؟!) اهـ. من "ترجمة الإمام أحمد" للذهبي هامش ص (49 - 50).
(1)
"ترجمة الإمام أحمد" للحافظ الذهبى، ص (48 - 50).
المآل، لا إلى الحال، وشدة ابتلاء أحمد دليل على قوة دينه، لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يبتلى المرء على حسب دينه"، فسبحان من أيده وبصَّره وقواه ونصره) اهـ.
قال ابن طاهر المقدسي الحافظ:
سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول:
"عُرِضْتُ على السيف خمس مرات، لا يقال لي: ارجع عن مذهبك، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت"(1).
إن الداعية الكبير الهمة لا ينكر المنكر فحسب، بل ينكر على أهل النكر منكرهم، أي أنه لا يعرف التعميم، ولا التورية إنه يمد أصبعه يشير إلى الطاغوت بالاتهام، ويرفع صوته يعلن فضيحة الكفر الذي أمامه، باسمه، ورقمه، وعنوانه، ثم لا يلبث الإصبع الواحد حتى تنفتح معه بقية الخمس، فتكون يد التغيير من بعد إصبع الاتهام (2).
وقال الذهبى في ترجمته لأبي بكر النابلسي: قال أبو ذر الحافظ: سَجَنه بنو عُبيد، وصلبوه على السنَّة، سمعتُ الدارقطنَّي يذكره ويبكي، ويقول: كان يقول، وهو يُسْلَخ:{كان ذلك في الكتاب مسطورًا} قال أبو الفرج بن الجوزي: أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرةُ أسهم، وجب أن يرميَ في الروم سهمًا، وفينا تسعة،
(1)"الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 207).
(2)
"المنطلق" ص (198).
قال: ما قلت هذا، بل قلت. إذا كان معه عشرةُ أسهم، وجب أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضًا، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية فشهَرهُ ثم ضربه ثم أمير يهوديًّا فَسلخَه، وقال ابن الأكفاني:"سُلِخ، وحُشِي تِبْنًا، وصُلِب"، وقيل:(سُلِخ من مفرِقِ رأسه حتى بلغ الوجه، فكان يذكر الله، ويصبر حتى بلغ الصدر، فرحمه السَّلَّاخ، فوكزه بالسكين موضع قلبه، فقضى عليه، وقيل، "لما سُلِخ كان يسمع من جسده قراءة القرآن" (1).
الداعية الكبير الهمة (ينظر إلى غالبه من علٍ ما دام مؤمنًا، ويستيقين أنها فترة وتمضي، وأن للإيمان كرة لا مفر منها، وهبها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأسًا، إن الناس كلهم يموتون، أما هو فيستشهد .. )(2).
وقال الشيخ العمرى الزاهد: (إن من غفلتك عن نفسك، وإعراضك عن الله، أن ترى ما يُسِخطُ الله فتتجاوزه، ولا تأمر فيه، ولا تنهى عنه، خوفًا ممن لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا (3))، وحكى الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن الحُبُلي قاضي برقة أنه (أتاه الأمير، فقال:"غدًا العيد"، قال:"حتى نرى الهلال، ولا أُفَطِّرُ الناسَ، وأتقلَّدُ إثمهم"، فقال:"بهذا جاء كتاب المنصور" -وكان هذا من رأي العبيدية، يُفَطِّرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية- فلم يُرَ هلال، فأصبح الأمير بالطول والبنود وأهْبَةَ العيد، فقال القاضي: "لا
(1)"سير أعلام النبلاء"(96/ 148).
(2)
"معالم في الطريق" ص (168).
(3)
"الجواب الكافي" ص (44).
أخرج، ولا أصلي"، فأمر الأمير رجلًا خطب، وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه، فَأُحْضِرَ، فقال له: "تَنَصَّلْ، وأعفو عنك"، فامتنع، فأمر، فَعُلِّقَ في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث العطش، فلم يُسْقَ، ثم صلبوه على خشبة، فلعنة الله على الظالمين) اهـ (1).
يقول إقبال:
ليس يدنو الخوفُ منه أبدًا
…
ليس غيرَ الله يخشى أحدا
لحنه في القلب نارًا أشعلا
…
من قيود الزوج والولد خلا
معرض عما سوى الله الأحد
…
يضع السكين في حلق الولد
وهذا الشاعر "وليد الأعظمي" ينشد في "أغاني المعركة":
مهما تمطى ليلنا الأسودُ
مهما استبد الظالم "السيد"
مهما عتا الأقزام والأعبدُ
ولوَّحوا بالقيد أو هددوا
عن نصرة الإسلام هل نقعدُ
كلا، سنبقى دائمًا ننشدُ
بفجره لابد أن يأتي الغدُ
…
آخر:
نحن عصبة الإله
…
دينُه لنا وطن
نحن جند مصطفاه
…
نستخف بالمحن
الداعية المسلم: لا أرض تحده، ولا العذاب يرهبه.
(1)"سير أعلام النبلاء"(5/ 374).
إنه يعمل أني هاجر وطرد، لا يعشق ترابًا، ولا يضيق ضمن حدود أوهم الاستعمارُ غيرهم أنها حدودهم، ويتآخى مع كل بني الإسلام، فإن لم تكن الهجرة وكان السجن، كان سجنه سياحة لروحه وفكره، وإذا شنق كان هبوط الحبل به علوًّا ينقله إلى منزل جميل كريم (1).
خذوا كل دنياكم واتركوا
…
فؤادي حرًّا وحيدًا غريبا
فإني أعظمكم دولة
…
وإن خلتموني طريدًا سليبا
…
(1) انظر: "المنطلق" ص (221 - 222).