المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(3) علو همة الشيخ أبي محمد الترجمان الميورقي(756 - 832 هـ) "القسيس انسلم تورميدا" سابقا أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري - علو الهمة

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌البَابُ الُأوَل المقدمَاتُ

- ‌ما هي الهَمَة

- ‌الهمةُ مولودةٌ مع الآدمي

- ‌لابُدَّ للسالِكِ مِن همةٍ تُسيَّرهُ، وتُرقَِّيهِ، وعلم يُبصِّرُه، وَيهدِيهَ

- ‌أقسَامُ الناس من حيث القوتان العلمية والعملية

- ‌الهمَّة مَحَلهَا القلب

- ‌همة المؤمن أبلغ من عمله

- ‌قوَّةٌ المؤًمِن في قَلُبهِ

- ‌حياة القلب بالعلم والهمة

- ‌لماذا يستبدلون الذي هو أدني بالذى هو خيرٌ

- ‌تَفَاوتُ الِهمَّم ِحَتَّى بَين الحيواَنَاتَ

- ‌تَفَاضُل الناس ِبتفاوفت هِمَمهم

- ‌الباب الثاني خصائصُ كبِير الِهمة

- ‌يَا عَالي الهمَّة بِقَدر ِمَا تتعَنَّى، تنالُ مَا تتمنى

- ‌كبير الهمة لا ينقض عزمه

- ‌عَلَامَ يندَم ُكبَيرُ الهِمَّةَ

- ‌يا كبير الهمة: لا يضرك التفرد فإن طرق العلاء قليلة الإيناس

- ‌أحَوالُ خَسِيس الِهمَّةَ

- ‌أصدق الأسماء حارِث، وَهَمَّام

- ‌عُلوِيَّةُ الرَّوحَ وَسُفِليَّةُ البدَنِ

- ‌عَالِي الِهمَةِ لَا يَقنعَ بِالدوَنِ ولَا يُرضيه إلَا معالي الأمُورِ

- ‌نَدْرَةُ كبيري الِهمَّة فَى الناسِ

- ‌عَالي الهمة لَا يَرضَي بِمَا دُونَ الجنَّةَ

- ‌الدُّنيَا جيفَةٌ، وَالأَسدُ لَاَ يقعُ على الجيَفِ

- ‌لِمَاذَا لَا يوصَفُ الكافِرُ بعلو الِهمَةَ

- ‌استِخفَافُ السَّلَف الصاِلح بِأَعَراض الدنيَا

- ‌عالي الهمة عصامي، لَا عِظَامي

- ‌عَالي الهمةِ شِريف النفسِ يَعُرِف قَدْرَ نَفسِهِ

- ‌خَسيسُ الهِمَّة دَنيءُ النَّفْسِ

- ‌فرُوق تمسُّ الحَاجَة إِلَى بَيَانِهَا

- ‌الفَرْق بَينَ شَرفِ النَّفْسِ وَالتيه

- ‌الفَرق بَين صِيانَةِ النفسِ وَالتكبُّر

- ‌الفَرْقُ بَيْنَ "التَّواضُعِ" وَالمَهَانَةِ

- ‌الفَرْقُ بَينَ المنَافَسَةَ والحَسَدِ

- ‌الفَرُقُ بَينَ حُبِّ الرِّياسَةِ، وَحُبِّ الِإمَامَةِ فِي الدِّينِ

- ‌البابُ الثَّالِثالحَثُّ عَلَى عُلُوِّ الِهمَّةِ في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ

- ‌الصَّحَابَة رضي الله عنهم أَعْلَى الأُمَمِ هِمَّةً

- ‌الباب الرابع مجَالَاتُ عُلُوِّ الهِمَّةِ

- ‌الفَصْلُ الأَوَل عُلُوُّ هِمَّةِ السَّلَفِ الصَّالِح فِي طَلَبِ العِلْمِ

- ‌(1) حِرْصُهُم عَلَى طَلَبِ العِلْمَ الشَّريفِ

- ‌(2) عُلُوّ هِمَّتِهِم فِي قِرَاءَةِ كُتبِ الحَدِيثِ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ

- ‌(3) عُلُوُّ هِمَّتِهِم فِي الرِّحْلَةِ لطِلَب العِلْمِ

- ‌(4) مُعانَقَتهم الفَقْر فِي سَبيل ِالطَّلبِ

- ‌(5) مُعَانَاتهم الجُوع وَالمرَض والشَّدَائِدِ وَالمخاطَرة بِالنفسِ في طَلَبِ العلم

- ‌(6) مُعَانَاتهم والسَّهَر فى طَلَبِ العِلمِ

- ‌(7) حِرصهم على مَجَالِسِ العُلَمَاءِ

- ‌(8) مُبَادَرتهم الأَزمَان حِرصًا عَلى العِلمِ

- ‌(9) عُلُوّ هِمَّتهم فِي مُذَاكَرَةٍ العِلْمِ وَمُدَارَسَتهِ

- ‌(10) عُلوّ هِمِّتِهِم فِي حِفْظِ العلْمِ الشَّريفِ

- ‌(11) شِدَّة محبتهِم للِكتبِ

- ‌(12) عُلُوّ همَّتِهِم فَي نَشْرِ العِلْمِ وَتَعلِيمه

- ‌(13) عُلُوّ هِمَّتِهِم في التَّصنِيفِ

- ‌(14) هِمَمٌ لَمْ تَعْرِف الشيبَ

- ‌(15) عُلُوّ هِمَّتِهِمْ في طَلَبِ العِلْم ِوَتَعْلِيمه حتَّى آخرِ رَمَقٍ

- ‌الفَصلُ الثَّانَىعُلُوّ هِمَّةِ السَّلَفِ فِي العِبَادَةِ والاستقَامَةَ

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثعُلُوّ الهِمَّةَ فِي البَحثِ عَنِ الحَقِّ

- ‌(1) سلَمَانُ الفَارِسيّ .. أنموذج ِمِثَالي لِلبَاحث عَن الحَقيقَةَ

- ‌(2) عُلُوّ هِمَّةَ أبيِ ذرٍّ رضي الله عنه فِي البَحْثِ عَن الحَقِّ

- ‌(3) عُلُوّ هِمَّةَ الشَّيْخ أَبِي مُحَمَّد التّرجُمَان الميُورْقي(756 - 832 هـ) "القسيس انسلم تورميدا" سابقًا أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري

- ‌(4) عُلُوّ هِمَّة الأَخِ "رحمة بورنومو" في بَحْثِهِ عَنِ الدّينِ الحَقِّ

- ‌الفصل الرابععُلُوّ الهِمَّة فِي الدَّعوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كبيرُ الهِمَّة يَحْمِل هَمَّ الأُمَّةِ

- ‌حَرَكة الدَّاعِيةِ

- ‌الحَرَكة قِيَامَة وَبَعثٌ لِلرُّوحِ

- ‌نمَاذِج مِن حَرَكةِ السَّلَفِ فِي الدَّعَوةِ إلَى اللهِ تَعَالى وَحِرْصِهِم عَلَى هِدَايَةِ الخَلْقِ

- ‌وَمِنْ نمَاذِج حِرْصِهِمْ عَلَى تَعْلِيم النَّاسِ العِلْمَ الشَّرِيف:

- ‌مُخاطرتهمْ بأَنفُسِهِمْ في نُصْرَةِ الدِّينِ

- ‌البَرَكة .. في السَّعْي وَالحَركةِ

- ‌الفَاسِقُ ضَالَّة الداعيَةِ

- ‌وَللآخِرينَ حَرَكة في نُصرَةِ البَاطَلِ

- ‌هَلُمَّ فَلنَستَحي مِنَ الله

- ‌الفَصل الخامس

- ‌عُلُوّ الهِمَّة في الجِهَادِ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى

- ‌عُلُوّ هِمَّةِ فَارسِ الإسلَامِ السُّرمَارِي

- ‌عُلُوّ هِمَّة "اللؤلؤ العَادِلي

- ‌الباب الخامس

- ‌الفَصْل الأولحَال الأمَّةِ عندَ سقوطِ الِهمَّةِ

- ‌الفصَل الثانيأسَبابُ انحطَاطِ الهِمَمِ

- ‌ منها: الوهن

- ‌ ومنها: الفتور

- ‌ ومنها: إهدار الوقت الثمين

- ‌ ومنها: العجز والكسل

- ‌ ومنها الغفلة

- ‌ ومنها: التسويف والتمني:

- ‌ ومنها: ملاحظة سافل الهمة من طلاب الدنيا

- ‌ ومنها: العشق

- ‌ ومنها: الانحراف في فهم العقيدة

- ‌ ومنها: الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد

- ‌ ومنها: المناهج التربوية والتعليمية الهدَّامة التى تثبط الهمم

- ‌ ومنها: توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام

- ‌الفَصْل الثالِثمِن أسبَابِ الارتقاءِ بالهِمَّةِ

- ‌ العلم والبصيرة

- ‌ ومنها: إرادة الآخرة، وجعل الهموم همًّا واحدًا:

- ‌ ومنها: كثرة ذكر الموت:

- ‌ ومنها: الدعاء؛ لأنه سنة الأنبياء

- ‌ ومنها: الاجتهاد في "حصر" الذهن

- ‌ ومنها: التحول عن البيئة المثبطة:

- ‌ صحبة أولي الهمم العالية

- ‌ ومنها: نصيحة المخلصين:

- ‌ المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف

- ‌الفَصْل الرابعأطفَالنَا…وَعلُوّ الهِمَّةِ

- ‌الأطفال هم المستقبل:

- ‌ذُو الهِمَّة العَالِية لَا يخْفَى مِنْ زمَانِ الصِّبَا

- ‌سِيمَاهُم في كَلَامِهِم كَمَا هِيَ في وجُوهِهِمُ

- ‌كِبارُ الهِمَّةَ النَّاِبغُونَ .. مُختَصَرُ الطَّرِيقِ إِلَى المَجْدِ

- ‌التَّشجِيِعُ وَأَثَره في النّهُوضِ بِالِهمَّةِ

- ‌اغْتَنِم شَبَابكَ قَبلَ هَرَمِكَ

- ‌الفَصْل الخامِسْأثر عُلُوّ الِهمَّةِ في إصْلَاحَ الفَرْدِ والأُمَّةِ

- ‌من منكم "يوسف" هذه الأحلام

الفصل: ‌(3) علو همة الشيخ أبي محمد الترجمان الميورقي(756 - 832 هـ) "القسيس انسلم تورميدا" سابقا أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري

كان يُطعمك؟ "، قال: قلت: "ما كان لي طعام إلا ماءُ زمزم، فَسَمِنْتُ حتى تكسّرَتْ عُكَنُ بطني، وما أجدُ على كبِدي سُخفَةَ جوع"، قال: "إنها مباركة إنها طَعامُ طُعْم" -أي هي تُشبع شاربَها كما يُشبعه الطعام-.

فقال أبو بكر: "يا رسول الله ائذن لي في طعامه الليلة"، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وانطلقتُ معهما، ففتح أبو بكر بابًا فجعل يَقبض لنا من زَبيب الطائف، وكان ذلك أوَّلَ طعام أكلتُه بمكة، الحديث (1).

(3) عُلُوّ هِمَّةَ الشَّيْخ أَبِي مُحَمَّد التّرجُمَان الميُورْقي

(756 - 832 هـ)"القسيس انسلم تورميدا" سابقًا أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري

في الوقت الذي كان الصليبيون يكرسون جهودهم في نشر النصرانية المحرفة في ربوع الأندلس بعد نفي المسلمين منها، شرح الله صدر رجل من أكبر علمائها للإسلام، فأسلم وجهه لله، واستقام على طاعة الله، وجاهد بيده ولسانه وقلمه في سبيل الله عز وجل، ذلكم هو الشيخ "أبو محمد عبد الله بن عبد الله الترجمان الميورقي"، الذي كان قسيسًا يدعى "انسلم تورميدا"، والذي اشتهر بالترجمان لأنه لما مضى خمسة أشهر على إسلامه، قدَّمه السلطان في الديوان لقيادة البحر، وكان يقصد من ذلك أن يتعلم اللغة العربية،

(1) رواه مسلم.

ص: 226

لتكرر عمل الترجمة هناك بين النصارى والمسلمين، فأتقن اللغة العربية في سنة واحدة، وعيَّنه الأمير رئيسًا لشئون الترجمة.

ومن ألقابه عند العوام: "سيدى تحفة" وذلك نسبة إلى كتابه الشهير: "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" ذلك الكتاب الذي كان بمثابة ضربة قوية على بنيان النصرانية، كتبه عالم من أكبر علماء النصرانية في عصره باعتراف أهلها وشهادتهم، والذى افتتحه بذكر قصة إسلامه التي نختصرها فيما يلي، فَلْنُصْغِ إليه الآن وهو يحكي لنا بداية هدايته، وكيف حَرَّرَ الله قلبه من رق الشرك والكفران، وشرح صدره للإسلام، فكان على نورٍ من ربه:

[اعلموا -رحمكم الله- أن أصلي من مدينة "ميُورْقَة"(1) -أعادها الله للإسلام - وهي مدينة كبيرة على البحر بين جبلين، يشقها وادٍ صغير، وهي مدينة متجر، ولها مرساتان -اثنان- عجيبتان، ترسو بهما السفن الكبيرة للمتاجر الجليلة، والمدينة في جزيرة تسمى باسم المدينة "ميورقة" وأكثر غاباتها زيتون وتين، ....

وكان والدى محسوبًا من أهل حاضرة "مَيورقة"، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين، قرأت عليه الإنجيل، حتى حفظت أكثر من شطره في مدة سنتين، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل، وعلم المنطق، في ست سنين.

ثم ارتحلت من بلدي "مَيورقة" إلى مدينة "لاردة" من أرض

(1) مَيُورقة: جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، جنوب شرقي أسبانيا اليوم، فتحها المسلمون سنة (290 هـ)، إلى أن تغلب عليها العدو البرشلوني، وخربها سنة (508 هـ).

ص: 227

"القسطلان"(2)، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر.

وبهذه المدينة تجتمع طلبة العلم من النصارى، وينتهون إلى ألف رجل أو ألف وخمسمائة، ولا يحكم فيهم إلَاّ القسيس الذى يقرؤون عليه، فقرأت فيها علم الطبيعيات، والنجامة مدة ست سنين، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازمًا لذلك مدة أربع سنين، ثم ارتحلت إلى مدينة "بلونية" من أرض "الأنبردية"، وهي مدينة كبيرة جدًّا، وهي مدينة علم عند جميع أهل ذلك القطر، ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلَّا الملف (3)(الذي هو صباغ الله)(4)، ولو يكون طالب العلم منهم سلطانًا أو ابن سلطان فلا يلبس إلَّا ذلك ليمتاز الطلبة عن غيرهم، ولا يحكم فيهم إلَّا القسيس الذي يقرؤون عليه.

فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم، كبير القدر اسمه:"نقلاو مرتيل" وكانت منزلته فيهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جدًّا، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم تَرِدُ عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، وصحب الأسئلةَ من الهدايا الضخمة -ما هو الغاية في بابه، ويرغبون في التبرك به، وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك.

فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه؛ حتى صَيَّرَني من أخص

(2) وهي تدعى اليوم: "كاستيلون" و"قسطلة" مدينة بالأندلس.

(3)

الملف: كمقص، لحاف يلتحف به.

(4)

لعله زي مصبوغ بصباغ له قداسة عندهم، والله أعلم.

ص: 228

خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إليَّ مفاتيح مسكنه، وخزائن مأكله ومشربه، وصَيَّرَ جميعَ ذلك كله عَلَى يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، الظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تُهْدَى إليه، والله أعلم.

فلازمتُه على ما ذكرتُ من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يومًا من الدهر، فتخلَّف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلامُ إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل:(إنه يأتي من بعده نبي اسمه "البارقليط" (5))، فبحثوا في تعيين هذا النبي مَن هو مِن الأنبياء؟، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالُهم، وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل

(5) وردت هذه الكلمة في الأناجيل مرة بلفظ (المعزي) ومرة بلفظ آخر هو (بارقليط)، و"بارقليط" تعريب لكلمة (بريكلتوس) وقد حصل نقاش بين الأستاذ "عبد الوهاب النجار" ود. "كارلو نلينو" حول هذه الكلمة، فقال: (

ثم قلت له -وأنا أعلم أنه حاصل على شهادة الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة- "ما معنى (بريكلمَوس)؟ " فأجابني بقَوله: "إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها: (المعزي)،" فقلت: "إني أسأل الدكتور (كارلو نلينو) الحاصل على الدكتوارة في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيسًا،" فقال: إن معناها: (الذي له حمد كثير)، فقلت: هل ذلك يوافق افعل التفضيل من حمد؟ فقال: نعم، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه "أحمد"، فقال: يا أخي أنت تحفظ كثيرًا .... ) .. انظر: "قصص الأنبياء" عبد الوهاب النجار، ص (397 - 398).

ص: 229

فائدة في تلك المسألة، فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور، فقال لي:"ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ "، فأخبرته باختلاف القوم في اسم "البارقليط" وأن فلانًا قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا وسردت له أجوبتهم، فقال لي:"وبماذا أجبت أنت؟ "، فقلت:"بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل"، فقال لي:"ما قَصَّرْتَ، وقَرُبْتَ، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلافُ هذا كله، لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلَاّ القليل"، فبادرت إلى قدميه أقبلهما، وقلت له:"يا سيدي قد علمتَ أني ارتحلت إليك من بلدٍ بعيد، ولي في خدمتك عشرُ سنين"، حَصَّلْتُ عنك فيها من العلوم جملةً لا أحصيها فلعلَّ من جميل إحسانكم أن تمنوا عَلي بمعرفة هذا الاسم" .... فبكى الشيخ، وقال لي: "يا ولدي .. والله أنت لَتَعُزُّ على كثيرًا في أجل خدمتك لي، وانقطاعك إليَّ، في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين"، فقلت له: "يا سيدي والله العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تُسِرُّهُ إلَيَّ إلَّا عن أمرك"، فقال لي: "يا ولدى إني سألتك في أول قدومك عَلَيَّ عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام، فاعلم يا ولدى أن "البارقليط" هو اسم من أسماء نبيهم محمد (6) صلى الله عليه وسلم وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور

(6) من الواضح أن هذا القسيس يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إذ إنه يعرف أوصافه الموجودة في التوراة والإنجيل، وقد تحدث العلماء المسلمون عن معرفة علماء=

ص: 230

على لسان دانيال (7) عليه السلام وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل"، قلت له: "يا سيدي وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ "، فقال لي: "يا ولدى لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله، لأن عيسى وجميع الأنبياء دينُهم دين الله، ولكن بَدَّلوا وكفروا".

فقلت له: "يا سيدي وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ "، فقال:"يا ولدي بالدخول في دين الإسلام"، قلت له:"وهل ينجو الداخل فيه؟ "، قال لي:"نعم ينجو في الدنيا والآخرة"، فقلت:

=أهل الكتاب للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقد نقل الإمام الجويني رحمه الله ما تناولته الآية الكريمة من قوله تعالى:{فاسئل الذين يقرؤون الكتاب} [يونس: الآية 94] وما يتعلق بها من معانٍ، وأشار إلى قول صاحب الكشاف الذي قال: (والمعنى أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قراء الكتاب، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم، لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم

) وخلص إلى القول: (فالغرض: وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله

) انظر: "شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل"، للإمام عبد الملك بن عبد الله الجويني، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 147).

(7)

نقل الشيخ رحمة الله الهندي (في البشارة الحادية عشر) في الباب الثاني من كتاب دانيال حال الرؤيا التي رآها بختنصر ملك بابل ونسي، وهي رؤيا طويلة. انظر: دانيال (2: 1 - 46)، وخلص إلى أن تلك الأوصاف تنطبق على الرسول صلى الله عليه وسلم انظر:"إظهار الحق" لرحمة الله الهندي، ترجمة عمر الدسوقي (2/ 267)، "محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس" للبروفيسور عبد الأحد داود ص (86 - 94)، ص (133 - 144).

ص: 231

"يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلَّا أفضل ما يعلم، فإذا علمتَ فضلَ دين الإسلام فما يمنعك منه؟ "، فقال لي:"يا ولدى إن الله تعالى لم يُطْلِعْني على حقيقة ما أخبرتُك به من فضل الإسلام، وشَرَفِ نبي أهل الإسلام إلَّا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركتُ كلَّ شيء، ودخلت في دين الحق، وحبُّ الدنيا رأسُ كُلِّ خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز والترف، وكثرة عَرَض الدنيا، ولو أني ظهر عَلَيَّ شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وَهَبْ أني نجوتُ منهم، وخَلُصْتُ إلى المسلمين، فأقول لهم: إني جئتكم مسلمًا، فيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق، فلا تَمُنَّ علينا بدخولك في دين خلَّصْتَ به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخًا كبيرًا فقيرًا ابن تسعين سنة، لا أفقه لسانهم ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعًا (1)، وأنا والحمد لله على دين عيسى وعلى ما جاء به، يعلم الله ذلك مني"، فقلت له:"يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ "، فقال لي: "إن كنت عاقلا طالبًا للنجاة فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن،

(1) هذا خيال فاسد، وسوء ظن بخير أمة أخرجت للناس، وجهل بسماحة الإسلام، ونظامه الاجتماعي الرائع المبني على التكافل والرحمة والإحسان إلى الخلق، وحفظ حقوقهم، ورعاية قدرهم، هذا إذا كانوا باقين على دينهم، فكيف بمن انضم إليهم مسلمًا لله عز وجل، شاهدًا شهادة الحق؟، وتأمل ما حكاه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو يكتب إلى عدي بن أرطاة بالبصرة قائلًا له:

( .. وانظر مَن قِبَلَكَ مِن أهل الذمة قَد كبر سنه، وضعفتَ قوته، وولت=

ص: 232

فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني، فإني أجحده، وقولي مُصَدَّق عليك، وقولُك غير مُصَدَّق عَلَيَّ، وأنا بريء من ذلك إن فُهْتَ بشيء من هذا"، فقلت: "يا سيدي أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا"، وعاهدتُه بما يرضيه.

ثم أخذت في أسباب الرحلة وودَّعتُه، فدعا لي عند الوداع بخير، وزودني بخمسين دينار ذهبًا، وركبتُ البحر منصرفًا إلى بلدي مدينة "ميورقة"، فأقمت بها مع والدي ستة أشهر، ثم سافرت منها إلى جزيرة صقلية، وأقمت بها خمسة أشهر، وأنا أنتظر مركبًا يتوجه لأرض المسلمين.

فحضر مركب يسافر إلى مدينة "تونس"، فسافرت فيه من "صقلية"، وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق، فوردنا مرسى "تونس". قرب الزوال.

فلما نزلت بديوان "تونس"، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى، أتوا بمركب، وحملوني معهم إلى ديارهم، وصَحِبَتْهُم بعضُ

=عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه، وضعفت قوته، وولَّت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يقوته، حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مَرَّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال:"ما أنصفناك إن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك، ثم ضيعناك في كبرك"، قال: ثم أجري عليه من بيت المال ما يصلحه) اهـ من "كتاب الأموال" للإمام أبيِ عبيد القاسم بن سلام، وأقوى رَدٍّ على هذا الخيال الفاسد هو ما حظى به تلميذه الترجمان لما آوى إلى المسلمين من الاحترام والتقدير والتكريم".

ص: 233

التجار الساكنين أيضًا بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرعد عيش أربعة أشهر، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد رحمه الله فذكر لي النصاري أن بدار السلطان المذكور رجلًا فاضلًا من أكبر خُدَّامه اسمه "يوسف الطبيب" وكان طبيبه، ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحًا شديدًا .. وسألت عن مسكن هذا الرجل الطيب، فدُلِلْتُ عليه، واجتمعت به، وذكرت له شرح حالي، وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فَسُر الرجلُ بذلك سرورًا عظيمًا بأن يكون تمام هذا الخير على يديه، ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي، واستأذنه لي، فأذن لي.

فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمرى، فقلت له:"خمسة وثلاثون عامًا"، ثم سألني عما قرأت من العلوم، فأخبرته، فقال لي:"قدمتَ قدوم خير، فَأسْلِمْ على بركة الله، فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور-: "قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد منه دين إلَاّ ويُكْثِرُ أهلُه القولَ فيه، والطعنَ فيه، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم، وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسْلِمُ إن شاء الله تعالى"، فقال لي بواسطة الترجمان: "أنت طلبت ما طلب "عبد الله بن سلام" من النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم" (1).

(1) (تشابهت قصة إسلام "الترجمان" بقصة إسلام الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهو من بني إسرائيل من ولد يوسف بن يعقوب نبي الله عليهما السلام، وقد روى أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى=

ص: 234

ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعضِ تجارهم، وأدخلنى في بيت قريب من مجلسه، فلما دخل النصارى عليه، قال لهم:"ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ "، قالوا له:"يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا: إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا"، فقال لهم:"وما تقولون فيه إذا أسلم؟ "، قالوا:"نعوذ بالله من ذلك هو ما يفعل هذا أبدًا"، فلما سمع ما عند النصارى بعث إليَّ، فحضرتُ بين يديه، وشَهِدْتُ شهادتي الحق

=المدينة، قالوا: جاء نبي الله، فاستشرفوا ينظرون، إذ سمع به عبد الله بن سلام، وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه، فعجل أن يضع التي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله، قال: فلما خلى نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام، فقال:"أشهد أنك رسوله الله حقًّا، وأنك جئت بحق، ولقد علمت اليهود أني سيدهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم، فادعهم، فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ما ليس في".

فأرسله نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فدخدوا عليه، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًّا، وأني جئتكم بحق: أسلموا"، قالوا:"ما نعلمه"، فأعادها عليهم ثلاثًا، وهم يجيبونه كذلك. قال:"فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: "ذاك سيدنا، وابن سيدنا، وأعلمنا، وابن أعلمنا"، قال:"أفرأيتم إن أسلم؟ "، قالوا:"حاشا لله! ما كان ليسلم"، فقال:"يا ابن سلام، اخرج عليهم، فخرج إليهم، فقال: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقًّا، وأنه جاء بالحق"، فقالوا: "كذبتَ"، فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم) اهـ من "عيون الأثر" لابن سيد الناس (1/ 250)، وانظر: "فتح البارى" (7/ 272).

ص: 235

بمحضر النصارى، فَصَلَّبوا (1) على وجوههم، وقالوا:"ما حمله على هذا إلَّا حُبُّ التزويج، فإن القسيس عندنا لا يتزوج"(2)، وخرجوا مكروبين محزونين.

فرتَّب لي السلطان رحمه الله ربع دينار كل يوم في دار المختص، وزوَّجني ابنةَ الحاج محمد الصفَّار.

فلما عزمت على البناء بها أعطاني مائة دينار ذهبًا، وكسوة جيدة كاملة، فبنيت بها، ووُلِد لي منها ولدٌ سميته "محمدًا" على وجه التبرك باسم نبينا صلى الله عليه وسلم

] اهـ.

(1)(صَلَّبوا)، وهذا أمر ثابت عند النصارى لأنهم إذا أرادوا التعوُّذ من شيء رفعوا أصابعه مضمومة على جبهتهم، ثم أشاروا بعلامة الصليب مرورًا بالكتف الأيمن فالأيسر فالوسط، وقد تتعدى هذه الإشارة من التعوذ إلى البركة، حيث إن البابا يرسم هذه الإشارة حينما يظهر لعامة الناس.

(2)

(حَرمت الكنيسهَ الكاثوليكية على القسس والرهبان والراهبات الزواج، فأدى ذلك التحريم إلى انتشار الفسق والفجور بين رجالها ونسائها، حتى لقد كان القسس والرهبان يتصلون بالراهبات أنفسهن، ويبررون ذلك بأنه ضرب من المساكنة الروحية)"الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام" د. علي عبد الواحد وافي، ص (122).

ولهذا السبب قام مارتن لوثر البروتستانتي في القرن السادس عشر بثورة على الكنسية، وكان من ضمن آرائه في الإصلاح:(أن جزءًا من فساد الدين يرجع إلى عدم الزواج، ورأى أن المنع منه لم يكن في المسيحية في عصورها الأولى، فقرر حقهم فِي الزواج، وتزوج هو فعلاً مع أنه من رجال الدين، وكان زواجه من راهبة)"محاضرات في النصرانية" لأبي زهرة، ص (16).

ص: 236

ثم شرع الشيخ عبد الله الترجمان في ذكر طرف من أخبار الدولة الحفصية التي خدم في ديوانها، ثم أردفه بأبواب تسعة كشف فيها هوية كُتَّاب الأناجيل الأربعة "متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا"، وأكَّد أنهم ليسوا من حوارى المسيح عليه السلام بأدلة علمية دقيقة، ثم ناقش قضايا التعميد "التغطيس"، والتثليث، والأقانيم، والخطيئة الأولى، والعشاء الرباني، وصك الغفران، وقانون الإيمان، وفَنَّدَها كلَّها بنصوص الأناجيل، وبأدلة العقل الصريح.

ثم أثبت بشرية المسيح عليه السلام ونفى ألوهيته المزعومة، ثم عرض التناقضات في نصوص الأناجيل المحرفة، ثم تعرض لما يعيبه النصارى على المسلمين؛ كزواج العلماء والصالحين، والختان، والنعيم الحسي في الجنة، ثم ختم كتابه بإثبات نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان فضله ومنزلته بنصوص من التوراة والإنجيل (1).

وبعد: فهذا طرف من سيرة الشيخ الميورقي وجهاده بقلمه ولسانه في سبيل الله عز وجل، أما جهاده بيده فقد اشترك رحمه الله في جهاد بني جلدته من الكافرين، وفي حملة الأسطول الحفصي على جزيرة صقلية (سنة 796 هـ تقريبًا) كان يتولى منصب القائد البحري.

فإن صحت رواية استشهاد الترجمان أثناء الغارة الصليبية على تونس، فهذا شرف عظيم يضاف إلى سجله الناصع في خدمة دين الحق والجهاد

(1) وقد طبع الكتاب "دار البشائر الإسلامية" - بيروت - لبنان - ص. ب: 5955 - 14 بتحقيق وتعليق الأستاذ عمر وفيق الداعوق - الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988م، ومن مقدمته نقلنا هذه القصة تصرف.

ص: 237

في سبيله.

إن سيرة الشيخ الترجمان منار ينير الدرب للتائهين في لجج الظلام، ودياجير الجهل، ويحرر عقولهم من أسر التقليد الأعمى لمن لا يملكون لهم رزقًا ولا أجلًا، ويهدي الحائرين الباحثين عن الحقيقة التي هي أقرب لأحدهم من حبل الوريد، إنها حجة على الجاحدين المعاندين الذين غلَّقوا أعينهم، وجعلوا أصابعهم عليها ليقنعوا أنفسهم أن الشمس غائبة، وأن الدنيا ظلام .. {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} .

رحم الله الشيخ الترجُمان، وأعلى درجته في المهديين، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، والحمد لله رب العالمين.

***

ص: 238