الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحَرَكة قِيَامَة وَبَعثٌ لِلرُّوحِ
قال تعالى: {يا أيها المدثر* قم فأنذر} ، وقال تعالى:{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا} ، وقال عز وجل في شأن أصحاب الكهف:{وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض} ، فهذه القيامة الروحية، واليقظة القلبية من أوائل منازل الطريق، التي تستدعي الحركة في سبيل الدعوة:
قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} .
قال الكلبي: "حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه"، وتلا الحسن البصري قوله تعالى:{ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين} ثم قال: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله.
وقال الوزير ابن هبيرة في قوله تعالى: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} وقوله عز وجل: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} :
(تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعدٍ في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق).
[لا يكون المؤمن العامر القلب إلا متحركًا محركًا، أما المتباطئ
الذي يعد بالالتحاق بعد ما تظهر بوادر النجاح، فإنما يعد وعد الضعاف.
صاح ما الحر من يثور على الظلم
…
وقد ثارت لحقها الأقوام
إنما الحر من يسير إلى الظلـ
…
ـم فيصميه والأنام نيام
فلا تؤجل الانضواء تحت لواء الحق، وإلا عضضت أسنة الندم:
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الجوشن الضبابي إلى الإسلام بعد بدر فقال له: (هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك كذبوك، وأخرجوك، وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك"، فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الِإسلام حين دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)] (1).
فكن رائدًا، وأجب داعي الله، بلا تلكؤ، ولا تلعثم، ولا تردد، فهذا هو شأن المؤمنين:
قال إبراهيم عليه السلام: "يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر"، قال:"فاصنع ما أمرك ربك"، قال:"وتعينني؟ "، قال:"وأعينك"(2).
وقد كان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ينادي في موسم الحج: "من يحملني حتى أبلغ رسالة ربي؟ "، وها هو صلى الله عليه وسلم يناشدك:"بلِّغوا عني، ولو آية"، ويدعو لمن يبلغ عنه: "نضَر الله امرءًا سمع منا شيئًا،
(1) انظر "المنطلق" ص (191).
(2)
رواه البخاري.
فبلَّغه كما سمعه، فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامع"، ورُوي أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم في دعائه: "اللهم زينا بزينة الِإيمان، واجعلنا هداة مهتدين"، وقد أثنى الله عز وجل على عباد الرحمن الذين كان من دعائهم إياه: {واجعلنا للمتقين إمامًا} أي: نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا مَن بعدنا، سئل وهب بن منبه عن صفة المسلم فقال رحمه الله: "يقتدي بمن قبله، وهو إمام لمن بعده".
نحن في ذي الحياة ركب سفار
…
يصل اللاحقين بالماضينا
قد هدانا السبيلَ من سبقونا
…
وعلينا هداية الآتينا
وهذا الغزالي رحمه الله يقول:
(اعلم أن كل قاعدٍ في بيته أينما كان فليس خاليًا في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق.
وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه -فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية- أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم) (1) اهـ.
وهذا شيخ الِإسلام ابن تيمية رحمه الله، يفسر قوله تعالى: {يا أيها
(1)"الإحياء"(2/ 342).
المدثر * قم فأنذر} فيقول:
(فواجب على الأمة أن يُبَلِّغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر، قال الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون} .. والجن لما سمعوا القرآن: {ولَّوا إلى قومهم منذرين} (1) اهـ.
وهذا تلميذه الِإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله يقول: (وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء، وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه)(2) اهـ.
إن سناء الهمة في نشدان الكمال الممكن، ومنَ أراد المنزلة العليا القصوى من الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة الدنيا، واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن (3).
إذا ما علا المرء رام العلا
…
ويقنع بالدون من كان دونا
وليست هذه المنزلة العليا في الدنيا إلا منزلة الدعوة إلى الله، ووراثة وظائف النبوة، التي ليس أشرف منها إلا منزلة النبوة نفسها، وهذا الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى يناديك:
(1)"مجموع الفتاوى"(16/ 327).
(2)
"التفسير القيم" ص (431).
(3)
انظر: "المنطلق" ص (121).
(ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم) و (هل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر) اهـ.
وها هو رحمه الله يقارن بين الشجعان الذين يخالطون الناس لدعوتهم، ويصبرون على أذيتهم، وبين المتخاذلين المعتزلين القاعدين عن الدعوة إلى الله تعالى، فيقول:
(الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض.
إلا أنها حالة الجبناء. فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام.
وهذا الشيخ الداعية القدوة عبد القادر الكيلاني الذي [تكلم كثيرًا، وصاح بأهل العراق صيحات بليغة رفيعة المعنى والمبنى، وينتشل لنا أحد تلامذته من تلك الصيحات كلمات يدونها سريعًا والإمام يخطب خطبه الأسبوعية سنة 545 هـ، ويودعها كتابًا سماه (الفتح الرباني والفيض الرحماني) قد تجد فيه ما يجب رده، لكنه مملوء بصيحات الحق، والالتفاتات القيمة، والتشديد على وجوب الدعوة والأمر والنهي.
فاسمع من صيحات الحق هذه قول عبد القادر رحمه الله أن:
(المتزهد المبتدي في زهده يهرب من الخلق، والزاهد الكامل في زهده لا يبالي منهم، لا يهرب منهم، بل يطلبهم، لأنه يصير عارفًا لله عز وجل، ومن عرف الله لا يهرب من شيء، ولا يخاف من شيء سواه.
المبتدي يهرب من الفساق والعصاة، والمنتهي يطلبهم، كيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟
ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليه: لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف.
من كملت معرفته لله عز وجل صار دالاًّ عليه، يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا، يعطى القوة حتى يهزم إبليس وجنده، يأخذ الخلق من أيديهم.
يا من اعتزل بزهده مع جهله: تقدم واسمع ما أقول، يا زهاد الأرض تقدموا.
خربوا صوامعكم واقربوا مني، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل، ما وقعتم بشيء، تقدموا)
…
قال هذا رحمه الله وهو في الشيخوخة.
وكذلك فهم العالم العامل، وإن كلماته ليهتز لها القلب اهتزازًا.
تأمل قوله: (يا زهاد الأرض تقدموا، خربوا صوامعكم) خرب صومعتك أيها الهارب الذى ترزح تحت نير الأفكار الأرضية، وآراء طواغيت القرن العشرين.
خذ مكانك في صفوف دعوة الإسلام] اهـ (1).
ويستطرد الداعية المبدع الراشد محمد أحمد الراشد حفظه الله قائلًا:
(1)"المنطلق" ص (114 - 115).
(ولا ينبغي للداعية أن يبتئس إن لم يجد فضل وقت لقيام الليل يوميًّا، والإكثار من ختمات القرآن، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خير وأجزل أجرًا، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها، ويبادئون الناس بالكلام، ويحتكون بهم احتكاكًا هادفًا، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم.
هكذا كان شأن الدعاة دومًا، وعلى داعية اليوم أن يكون رحالة سائحًا في محلات مدينته، ومدن قطره، ييلغ دعوة الإسلام.
انظر مثلًا كيف كانت رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الِإسلام، وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، ألا ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الِإسلام، فلما أخبره بها وقال:(لا أزيد عليهن ولا أنقص) كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
"يا محمد، أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ "(1).
أتاهم رسوله داعيًا، وكذلك الناس تُؤتَى، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية، ولو فصَّلت كلمة هذا الأعرابى لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقوم هذا، وكيف فارق أهله وبيته وأولاده، وكيف اجتاز المفاوز وصحراء من بعد صحراء، وكيف تعرض للمخاطر والحر أو البرد، ليبلغ دعوة الِإسلام.
وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها، لا بد من تحرك
(1) رواه مسلم.
ومبادأة وغدو ورواح وتكلم وزعم، ليس القعود والتمني من الطرق الموصلة، فافقه سيرة سلفك وقلدهم، تصل، وإلَّا، فراوح في مكانك، فإنك لن تبرحه .... ] (1)
ويروي لنا التابعي الكوفي، الفقيه النبيل عامر الشعبي، أن رجالًا (خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبًا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: "ما حملكم على ما صنعتم؟ "، قالوا: "أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد"، فقال عبد الله: "لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا")(2).
(كان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد، أو قيام بحق، أو اتباع للأمر: سأل عنه، وأحب أن يجرى بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله)(3).
لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس، فالداعية يفتش عن الناس، ويبحث عنهم، ويسأل عن أخبارهم، ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجيء الناس إليه في مسجده أو بيته، فإن الأيام تبقيه وحيدًا، ويتعلم فن التثاؤب (4).
قالوا في التعريف بموسى بن حزام شيخ البخاري والترمذي:
(إنه كان ثقة صالحًا، لكنه كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم أعانه الله تعالى بأحمد بن حنبل، فانتحل السنة، وذبَّ عنها، وقمع من خالفها، مع لزوم الدين، حتى مات)(5).
(1)"المنطلق" ص (119 - 120).
(2)
"كتاب الزهد" لابن المبارك ص (390).
(3)
"مناقب الإمام أحمد" ص (218).
(4)
"المنطلق" ص (127).
(5)
"تهذيب التهذيب"(10/ 341).