الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(7) حِرصهم على مَجَالِسِ العُلَمَاءِ
إن من رحمه الله تعالى بهذه الأمة أن ألقى في قلوب سلفنا الصالح الشغف بالعلم والحرص على مجالسه ليحفظ بهم دينه، ويكونوا أسوة لمن بعدهم، فمن ثم تبوأوا مناصب الِإمامة في الدين.
فقد كانوا يزدحمون على مجالس العلم حتى قال جعفر بن درستويه: (كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليومَ لمجلس غدٍ، فنقعد طول الليل، مخافة أن لا نلحق من الغد موضعًا نسمع فيه، ورأيت شيخًا في المجلس يبول في طيلسانه، ويدرج الطيلسان، حتى فرغ مخافة أن يؤخذ مكانه إن قام للبول".
وقال يحيى بن حسان: (كنا عند سفيان بن عيينة، وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محل شيخٍ ضعيفٍ، فانتهبوه، ودَقُّوا يد الشيخ، فجعل الشيخ يصيح: "سفيانُ لا جعلتك مما عمِلوا بي في حِل"، وسفيانُ لا يسمع، حتى نظر إلى رجل من أولئك الذين صنعوا بالشيخ ما صنعوا، فقال له: "ما يقول الشيخ؟ "، قال: يقول (1): "زدنا في السماع").
وهشيم -رحمه الله تعالى- كان سبب موته ازدحام طلبة العلم
(1) اللائق بحال طلبة العلم الشريف أن يكون ذلك الرجل قد أجابه بقوله: "زدنا في السماع"، دون أن يكون قال:"يقول زدنا" فعسى أن تكون لفظة "يقول" مزيدة في الرواية.
عليه، فقد قال الخطابي:(ازدحم أصحاب الحديث على هشيم، فطرحوه عن حماره، فكان سبب موته).
وكان أبو بكر بن الخياط النحوي -رحمه الله تعالى- يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جُرْفٍ، أو خبطته دابة! وحكي عن "ثعلب" أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة، شرط عليه أن يُوسِع له مقدار مِسْوَرة -وهي المتكأ من الجلد- يضع فيها كتابًا، ويقرأ.
وكان سببُ وفاته أنه خرج من الجامع يوم الجمعة، بعد العصر، وكان قد لحقه صَمَمٌ، لا يَسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرسٌ فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلِط، فحُمل إلى منزله على تلك الحال، وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم، رحمه الله تعالى.
وهذا الإمام "بَقيٌّ بن مَخْلَد الأندلسي" الذي رحل إلى بغداد ماشيًا على قدميه، وكان جُلُّ بغيته أن يلقى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، ليأخذ عنه العلم، حُكي عنه أنه قال: (لما قَرُبتُ من بغداد اتصل بي خبرُ المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل، وأنه ممنوع من الاجتماع إليه والسماع منه، فاغتممتُ بذلك غمًّا شديدًا، فاحتَللتُ الموضع، فلم أعرج على شيء بعد إنزالي متاعي في بيت اكتريتُه في بعض الفنادق أن أتيتُ المسجد الجامع الكبير، وأنا أريد أن أجلس إلى الخَلْق وأسمع ما يتذاكرونه.
فدُفِعتُ إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال، فيُضعِّفُ ويُقوِّي، فقلت:"من هذا"؟ لمن كان قربي، فقال: "هذا يحيى بن
معين"، فرأيتُ فرجة قد انفرجت قُرْبَه، فقمت إليه فقلت له: "أبا زكريا رحمك الله، رجل غريب نائي الدار، أردتُ السؤال فلا تَستخفَّني"، فقال لي: "قُلْ"، فسألته عن بعض من لقيتُ من أهل الحديث، فبعضًا زكَّى، وبعضًا جرَّح.
فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار، وكنتُ قد أكثرت من الأخذ منه، فقَال:"أبو الوليد هشام بن عمار صاحبُ صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر وتقلد كبرًا ما ضرَّه شيئًا لخيرِه وفضلِه"، فصاح أهلُ الحلقة:"يكفيك رحمةُ الله عليك، غيرُك له سؤال".
فقلت: وأنا واقف على قدمي: "أكشِفُك عن رجل واحد: أحمد بن حنبل؟ "، فنظر إليَّ يحيى بن معين كالمتعجِّب وقال لي:"ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل؟! إنَّ ذاك إمامُ المسلمين، وخيرُهم، وفاضلهم".
ثم خرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل، فدُللتُ عليه، فقرعتُ بابه، فخرج إليَّ وفتَح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه، فقلت:"يا أبا عبد الله رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالبُ حديث ومُقَيِّدُ سُنَّة -أي: جامعُ سُنَّة-، ولم تكن رحلتي إلا إليك"، فقال لي:"ادخل الأسطوان، ولا تقع عليك عين".
فقال لي: "وأين موضعك؟ "، قلت:"المغرب الأقَصى"، فقال لي:"إفريقية؟ " فقلت: "أبعَدُ من ذلك، أجوزُ من بلدي البحرَ إلى إفريقية، الأندلس"، فقال لي: "إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحبَّ إليَّ من أن أحسن عَونَ مثلِك على مطلبه، غير أني في حيني
هذا ممتحَن بما لعله قد بلغك"، فقلت له: "بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبلٌ نحوك".
فقلت له: "أبا عبد الله هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنتَ لي أن آتي في كل يوم في زِيِّ السُّؤَّال، فأقولَ عند باب الدار ما يقولون، فتَخرُجَ إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه كفاية"، فقال لي:"نعم، على شرط أن لا تظهر في الخَلْق، ولا عند أصحاب الحديث"، فقلت:"شَرْطك".
فكنتُ آخذ عُودًا بيدي، وألُفُّ رأسي بخرقة، وأجعل كاغدي -أي: ورقي- ودَواتي في كُمِّي، ثم آتي بابه فأصيح:"الأجْرَ رحمكم الله"، والسُّؤَّالُ هنالك كذلك، فيَخرج إليَّ، ويغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر.
فالتزمتُ ذلك، حتى مات الممتحِنُ له، ووَلَي بعده من كان على مذهب السُّنَّة، فظهر أحمد بن حنبل، وسَمَا ذكره، وعظُمَ في عيون الناس، وعلَتْ إمامتُه، وكانت تُضرَب إليه آباط الإبل، فكان يَعرفُ لي حقَّ صبري.
فكنت إذا أتيتُ حَلْقَتَهُ فسَحَ لي وأدناني من نفسه، ويقول لأصحاب الحديث:"هذا يقع عليه اسمُ طالب العلم"، ثم يقص كليهم قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة، ويقرأه عليَّ، وأقرأه عليه.
فاعتللتُ أشفيتُ منها، ففقَدَني من مجلسه فسأل عني، فأعلم بعِلَّتي، فقام من فوره مقبلًا إليَّ عائدًا لي بمن معه، وأنا مضطجع في البيت الذي كنت اكتريت، ولِبْدي تحتي، وكسائي عليَّ، وكتبي عند رأسي.
فسمعتُ الفندقَ قد ارتَجَّ بأهله وأنا أسمعهم -يقولون-: "هو ذاك، أبصروه، هذا إمام المسلمن مقبلًا"، فبَدَر إليَّ صاحبُ الفندق مسرعًا فقال لي:"أبا عبد الرحمن! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلًا إليك عائدًا لك".
فدخل، فجلس عند رأسي، وقد احتَشَى البيتُ من أصحابه، فلم يسعهم، حتى صارَتْ فرقة منهم في الدار وقوفًا وأقلامُهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات؛ فقال لي:"يا أبا عبد الرحمن أبشِرْ بثواب الله، أيامُ الصحة لا سقَمَ فيها، وأيامُ السقم لا صحة فيها، أعلاك الله إلى العافية، ومَسَحَ عنك بيمينه الشافية"، فرأيت الأقلام تكتب لفظه.
ثم خرج عني، فأتاني أهلُ الفندق يَلطُفون بي، ويخدمونني ديانةً وحِسبةً، فواحدٌ يأتي بفراش، وآخر بلحافٍ، وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثرَ من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم، لعيادة الرجل الصالح.
وتوفي بقي بن مخلد سنة 276 بالأندلس -رحمه الله تعالى).
* واجتهد كثير من الحفاظ في لقيا المشايخ والتلقي عنهم، حتى بلغ عدد شيوخ الِإمام أبي سعد عبد الكريم السمعاني المروزي سبعة آلاف شيخ وأستاذ، ولكثرة البلدان التي رحل إليها، ألف "معجم البلدان" التي سمع فيها، وصنف "معجم شيوخه" في عشر مجلدات.
وقال القاسم بن داود البغدادي: "كتبت عن ستة آلاف شيخ"، وبلغ عِدَّةُ شيوخ الإمام الحافظ ابن عساكر رحمه الله ألفًا وثلاثَ مائة شيخ، ومن النساء بضع وثمانون امرأة.
***
ولما مات "زيد بن ثابت" رضي الله عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يا هؤلاء من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، وأيْمُ الله لقد ذهب اليوم علمٌ كثيرٌ، يموت الرجل الذي يعلم الشيء لا يعلمه غيره، فيذهب ما كان معه -ويشير إلى قبر زيد ويقول:- لقد دفن اليوم علمٌ كثيرٌ".
قال يحيى بن القاسم: كان "ابن سُكَيْنَة" عالمًا عاملًا، لا يُضيِّعُ شيئًا من وقته، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: "لا تزيدوا على: (سلامٌ عليكم) مسألة، لكثرة حرصه على المباحثة، وتقرير الأحكام.
***