الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصلُ الثَّانَى
عُلُوّ هِمَّةِ السَّلَفِ فِي العِبَادَةِ والاستقَامَةَ
لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف، فلا تراهم إلا صوَّامين قوامين، باكين والهين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة. والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم:
قال الحسن: "من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره".
وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل"، وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني:
"ما بلغني عن أحدٍ من الناس أنه تعبَّد عبادة إلا تعبَّدتُ نظيرها وزدت عليه".
وقال أحد العباد: "لو أن رجلًا سمع برجل هو أطوع لله منه فمات ذلك الرجل غمُّا، ما كان ذلك بكثير".
وقيل لنافع: "ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ "،
قال: "الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما".
"وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يومًا، وأحيا ليلة، وأعتق رقبة".
واجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له:"لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ "، فقال:"إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك"، قال: فلم يزل على ذلك حتى مات.
وعن قتادة قال: قال مورق العجلي: (ما وجدت للمؤمن في الدنيا مثلًا إلا مثل رجل على خشبة في البحر، وهو يقول: "يا رب، يا رب"، لعل الله أن ينجيه).
وعن أسامة قال: (كان من يرى "سفيان الثوري" يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق أكثر ما تسمعه يقول: "يا رب سَلِّمْ سلِّم").
وعن جعفر قال: (دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: "والله إنه لينبغي للرجل المسلم أن يزيده ما يرى في الناس من التهاون بأمر الله أن يزيده ذلك جدًّا واجتهادًا"، ثم بكى).
عن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله قالت: "ما رأيت أحدًا أكثر صلاة ولا صيامًا منه، ولا أحدًا أشد فَرَقًا من ربه منه، كان يصلي العشاء، ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمير الآخرة، فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف".
وعن المغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: "يا مغيرة! قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر بن عبد العزيز، ولكني لم أر من الناس أحدًا قط كان أشد خوفًا من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي، ويدعو، حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ، فيفعل مثلَ ذلك ليلته أجمع".
عن أبي عُبيدة بن عقبة بن نافع أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال: "ألا تخبريني عن عمر؟ " قالت: "ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استُخِلف".
وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، ويصوم في الحر حتى يخضر
جسده ويصفر، فكان علقمة بن قيس يقول له:"لم تعذب نفسك؟ "، فيقول "كرامتَها أريد" -وكان يصوم حتى يخضر جسده، ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له:"إن الله عز وجل لم يأمرك بكل هذا"، فقال:"إنما أنا عبد مملوك، لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئت به".
وقيل لعامر بن عبد الله: "كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر؟ "، فقال:"هل هو إلا أني صرفتُ طعام النهار إلى الليل، ونومَ الليل إلى النهار؟ وليس في ذلك خطيرُ أمرٍ". وكان إذا جاء الليل قال: "أذهب حَرُّ النارِ النومَ"، فما ينام حتى يصبح.
وعن الحسن قال: (قال عامر بن قيس لقوم ذكروا الدنيا:
"وإنكم لتهتمون؟ أما والله لئن استطعت لأجعلنهما همًّا واحدًا" قال: ففعل والله ذلك، حتى لحق بالله).
وعن أحمد بن حرب قال: "يا عجبًا لمن يعرف أن الجنة تُزَيَّنُ فوقه، والنار تُسَعَّرُ تحته، كيف ينام بينهما؟ ".
وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطًا في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه:"قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا حتى يكون الكلل منكِ لا مني"، فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه، "أنت أولى بالضرب من دابتي"، وكان يقول:"أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لنزاحمهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالًا".
وكان منصور بن المعتمر إذا رأيتَه قلتَ: "رجل أصيب بمصيبة"، منكسر الطرف، منخفض الصوت، رطب العينين، إن حركته جاءت عيناه بأربع -ولقد قالت له أمه: "ما هذا الذي تصنع بنفسك؟
تبكي الليل عامته لا تسكت لعلك لِا بني أصبتَ نفسًا، لعلك قتلت قتيلًا"، فيقول: "يا أمه أنا أعلم بما صَنَعَتْ نفسي".
وقال هشيم تلميذ منصور بن زاذان: "كان لو قيل له: إن ملك الموت على الباب، ما كان عنده زيادة في العمل".
وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له:"القيامة غدًا" ما وجد متزيدًا.
…
وكان يقول: "اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي"، وقال أنس بن عياض:(رأيت صفوان بن سليم، ولو قيل له: "غدًا القيامة" ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: (لو قيل لحماد بن سلمة: "إنك تموت غدًا"، ما قدر أن يِزيد في العمل شيئًا).
وعن موسى بن إسماعيل قال: (لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا قط صدقتكم، كان مشغولًا بنفسه: إما أن يُحدِّث، وإما أن يقرأ، وإما أن يُسبح، وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال).
وكانت ابنة الربيع بن خثيم تقول له: "يا أبت مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ "، فيقول:"يا ابنتاه، إن أباك يخاف البيات"، وعن إبراهيم قال:(قال فلان: ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعَدُ)، وعن بعضهم قال:"صحِبت الربيع عشرين عامًا ما سمعتُ منه كلمة تُعاب".
وقال مالك: "رأيت أيوب السَّختيانيَّ بمكة حَجَّتين، فما كتبتُ عنه، ورأيته في الثالثة قاعدًا في فناء زمزم، فكان إذا ذُكِر النبي صلى الله عليه وسلم -
عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيتُ ذلك كتبتُ عنه".
وقال سلمة بن علقمة: "جالست يونس بن عبيد فما استطعت أن آخذ عليه كلمة".
وعن أبي هارون موسى قال: "كان عون يحدثنا، ولحيته ترتش بالدموع".
وقال أبو علي بن شهاب: سمعت أبا عبد الله بن بطة يقول: (أستعمل عند منامي أربعين حديثًا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن القاسم بن راشد الشيباني: كان زمعة نازلًا عندنا بالمحصب، وكان له أهل وبنات وكان يقوم فيصلي ليلًا طويلًا، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: أيها الركب المعرسون أكُلَّ هذا الليل ترفدون، أفلا تقومون فترحلون؟ فيتواثبون، فيسمع من هاهنا باكٍ، ومن هاهنا داعٍ، ومن هاهنا قارئ، ومن هاهنا متوضئ - فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى.
وعن وكيع قال: (كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة).
وعن أبي حيان، عن أبيه، قال:(كان الربيع بن خثيم يُقاد إلى الصلاة وبه الفالج -الشلل-، فقيل له: "قد رُخِّصَ لك"، قال: (إني أسمع "حيَّ على الصلاة"، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حَبوًا).
وعن حماد بن سلمة قال: (ما أتينا سليمان التيمي في ساعةٍ يُطاعُ اللهُ عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعةِ صلاةٍ، وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة، وجدناه إما متوضئًا، أو عائدًا،
أو مشيعًا لجنازة، أو قاعدًا في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يُحسن يعصي الله عز وجل.
وعن عيسى بن عمر قال: (كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلًا، فيقف على القبور فيقول: "يا أهل القبور! قد طويت الصحف، وقد رفعت الأعمال"، ثم يبكي، ويصف بين قدميه حتى يصبح، فيرجع، فيشهد صلاة الصبح).
وقال أبو المواهب بن صَصْرَى في شأن الإمام أبي القاسم بن عساكر: (لم أر مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عُرِضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم).
وكان المحدث الثقة "بشر بن الحسن" يقال له: "الصَّفِّي" لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.
وكان "إبراهيم بن ميمون المروزي" أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن أبى رباح، وكانت مهنته الصياغة، وطرق الذهب والفضة، قالوا:(كان فقيهًا فاضلًا، من الأمَّارين بالمعروف، وقال ابن معين: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يَرُدَّها).
وقيل للأحنف بن قيس رضي الله عنه: "إن فيك أناة شديدة"، فقال:"قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها".
وقيل لكثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط، وقد أمَّ أهل حمص ستين سنة كاملة، فقال:"ما دخلتُ من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله".
وقال كبير قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي وهو من ذرية ابن قدامة صاحب "المغني": "لم أصل الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلهما قط" مع أنه قارب التسعين رحمه الله.
وقال شرف الدين بن محمد رحمه الله تعالى: كان ابن دقيق العيد يقيم في منزلنا بمصر في غالب الأوقات، فكنا نراه في الليل إما مصليًا وإما ماشيًا في جوانب البيت وهو مفكر إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر صلى الصبح ثم اضطجع إلى صحوه.
وقال الصاحب شرف الدين: وسمعت الشيخ شهاب الدين أحمد بن إدريِس القرافي المالكي يقول: "قام الشيخ تقي الدين أربعين سنة لا ينام الليل إلا أنه كان إذا صلى الصبح اضطجع على جنبه إلى حيث يضحى النهار".
وروى ابن عماد الحنبلي في "شذرات الذهب" أنه كان يقول: "ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلًا إلا أعددت له جوابًا بين يدي الله"، كما نقل ذلك السبكي.
وقال الحافظ قطب الدين الحلبي عن الشيخ تقي الدين ( .... وكان لا ينام من الليل إلا قليلاً، ويقطعه فيما بين مطالعة وتلاوة وذكر وتهجد حتى صار السهر له عادة، وأوقاته كلها معمورة لم يُرَ في عصره مثله).
ومن علو همتهم في النفقة والإيثار، ما وقع من عبد الله بن طالب حين جاءه رجل يشكو إليه أنه لا يجد لابنته جهازًا لزواجها، وكان لابن طالب ابنة تخرج إليه، من عيد إلى عيد، فقال لأمها:"أحب أن تزيني ابنتي، وتُلبيسها ثيابها وحليها"، ففعلت، وأخرجت إليه فرحب بها، واستبشر، ثم قال لها ولأمها:"إن فلانًا شكا إليَّ كذا، وأنا أحب أن أدفع له جميع ما على ابنتي من حلي وثياب، يجهز به ابنته، وعليَّ أنا عِوضُ ابنتي منه بما هو أكثر".
هم الرجال وعيبٌ أن يُقا
…
لَ لمن لم يكن مثلهم رجلُ
…
واحسرتاه تقضي العمر وانصرمت
…
ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد
…
ساروا إلى المطلب الأعلى على مَهَل
***