الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نوح، إني لأرجو أن يكون قد خُتِم له بخير، قال لي ذات يوم:"يا أبا عبد الله! اللهَ اللهَ، إنك لست مثلي؛ أنت رجل يُقتدى بك، قد مَدَّ الخلق أعناقهم إليك؛ لما يكون منك، فاتق الله، واثبت لأمر الله"، فمات، وصليت عليه، ودفنته) (1).
بل إن من لم يتصل مباشرة بالِإمام كان معه بوجدانه، يتحسر لعدم مشاركته إياه العذاب والآلام: (قيل لبشر بن الحارث الحافي يوم عُذِّب الِإمام أحمد:
"قد ضُرِب أحمد بن حنبل إلى الساعة سبعة عشر سوطًا،، فمدَّ بشر رجله، وجعل ينظر إلى ساقيه، ويقول: "ما أقبح هذا الساق أن لا يكون القيد فيه نصرة لهذا الرجل! ") (2).
وقال الذهبي: إن الحافظ القاسم بن محمد البِرْزالي رحمه الله (هو الذي حبَّب إليَّ طلب الحديث، فإنه رأى خَطِّي، فقال: "خطك يُشبه خَطَّ المحدثين"، فأثر قوله فيَّ، وسمعت منه، وتخرَّجْت به في أشياء).
* ومن أسباب الارتقاء بالهمة:
المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف
، قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} ، وقال عز وجل:{وجاهدوا في الله حق جهاده} ، وقال سبحانه:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} .
فكبير الهمة لا يستنيم للأمر الواقع، بل يبادر ويبادئ في أقسى الظروف حماية لهمته من أن تهمد، ووقاية لها من أن تضمر، واستثمارًا
(1)"السابق"(11/ 242).
(2)
"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (119).
لأول فرصة متاحة:
ليس في كل حال وأوانِ
…
تتهيا صنائع الإحسانِ
فإذا أمكنت فبادِرْ إليها
…
حَذَرًا من تعذر الإمكانِ
ومن أخَّرَ الفرصة عن وقتها، فليكن على ثقة من فوتها:
إذا هبَّت رياحك فاغتنمها
…
فعقبى كل خافقة سكون
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الأسوة، فإنه لما خرج مهاجرًا إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقيا في طريق الهجرة بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا (1)، فلم يشغله مطاردة قريش إياه عن واجب الدعوة إلي الله.
وهذا يوسف الصديق عليه السلام يبادر إلى استثمار الفرصة فيغتنم سؤال السجينين عن رؤياهما ليبث إليهما دعوة التوحيد من وراء الأسوار: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار} الآيات.
وأملى شمس الأئمة السَّرَخْسِي كتابه "المبسوط" نحو خمسة عشر مجلدًا، وهو في السجن بـ "أوزجند"، كان محبوسًا فِي الجُبِّ بسبب كلمة نصح بها الخاقان، وكان يملي من خاطره من غير مطالعة كتاب وهو في الجبِّ، وأصحابه في أعلى الجب، وقال عند فراغه من شرح العبادات:"هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجمع والجماعات".
وقال في آخر شرح الإقرار: "انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني
(1) انظر: "البداية والنهاية"(8/ 216 - 217).
على ما هو من الأسرار، إملاء المحبوس في محبس الأشرار".
وله كتاب في "أصول الفقه"، وشرح "السير الكبير" أملاه وهو فِي الجبِّ، ولما وصل إلى باب الشروط حصل له الفرج فأُطلق، فخرج في آخر عمره إلى "فرْغانة" فأنزله الأمير "حسن" بمنزله، ووصل إليه الطلبة، فأكمل الِإملاء (1).
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يكتب فتاواه وهو سجين ويرسلها إلى تلاميذه، ولما أصدر السلطان أمرًا بإخراج ما عنده من الكتب والأقلام والأوراق، ظل يكتب فتاواه ورسائله بالفحم، وعلى جدار السجن.
…
(1)"الفوائد البهية في تراجم الحنفية" ص (158) نقلاً من "من أخلاق العلماء" ص (202 - 203).