المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التشجيع وأثره في النهوض بالهمة - علو الهمة

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌البَابُ الُأوَل المقدمَاتُ

- ‌ما هي الهَمَة

- ‌الهمةُ مولودةٌ مع الآدمي

- ‌لابُدَّ للسالِكِ مِن همةٍ تُسيَّرهُ، وتُرقَِّيهِ، وعلم يُبصِّرُه، وَيهدِيهَ

- ‌أقسَامُ الناس من حيث القوتان العلمية والعملية

- ‌الهمَّة مَحَلهَا القلب

- ‌همة المؤمن أبلغ من عمله

- ‌قوَّةٌ المؤًمِن في قَلُبهِ

- ‌حياة القلب بالعلم والهمة

- ‌لماذا يستبدلون الذي هو أدني بالذى هو خيرٌ

- ‌تَفَاوتُ الِهمَّم ِحَتَّى بَين الحيواَنَاتَ

- ‌تَفَاضُل الناس ِبتفاوفت هِمَمهم

- ‌الباب الثاني خصائصُ كبِير الِهمة

- ‌يَا عَالي الهمَّة بِقَدر ِمَا تتعَنَّى، تنالُ مَا تتمنى

- ‌كبير الهمة لا ينقض عزمه

- ‌عَلَامَ يندَم ُكبَيرُ الهِمَّةَ

- ‌يا كبير الهمة: لا يضرك التفرد فإن طرق العلاء قليلة الإيناس

- ‌أحَوالُ خَسِيس الِهمَّةَ

- ‌أصدق الأسماء حارِث، وَهَمَّام

- ‌عُلوِيَّةُ الرَّوحَ وَسُفِليَّةُ البدَنِ

- ‌عَالِي الِهمَةِ لَا يَقنعَ بِالدوَنِ ولَا يُرضيه إلَا معالي الأمُورِ

- ‌نَدْرَةُ كبيري الِهمَّة فَى الناسِ

- ‌عَالي الهمة لَا يَرضَي بِمَا دُونَ الجنَّةَ

- ‌الدُّنيَا جيفَةٌ، وَالأَسدُ لَاَ يقعُ على الجيَفِ

- ‌لِمَاذَا لَا يوصَفُ الكافِرُ بعلو الِهمَةَ

- ‌استِخفَافُ السَّلَف الصاِلح بِأَعَراض الدنيَا

- ‌عالي الهمة عصامي، لَا عِظَامي

- ‌عَالي الهمةِ شِريف النفسِ يَعُرِف قَدْرَ نَفسِهِ

- ‌خَسيسُ الهِمَّة دَنيءُ النَّفْسِ

- ‌فرُوق تمسُّ الحَاجَة إِلَى بَيَانِهَا

- ‌الفَرْق بَينَ شَرفِ النَّفْسِ وَالتيه

- ‌الفَرق بَين صِيانَةِ النفسِ وَالتكبُّر

- ‌الفَرْقُ بَيْنَ "التَّواضُعِ" وَالمَهَانَةِ

- ‌الفَرْقُ بَينَ المنَافَسَةَ والحَسَدِ

- ‌الفَرُقُ بَينَ حُبِّ الرِّياسَةِ، وَحُبِّ الِإمَامَةِ فِي الدِّينِ

- ‌البابُ الثَّالِثالحَثُّ عَلَى عُلُوِّ الِهمَّةِ في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ

- ‌الصَّحَابَة رضي الله عنهم أَعْلَى الأُمَمِ هِمَّةً

- ‌الباب الرابع مجَالَاتُ عُلُوِّ الهِمَّةِ

- ‌الفَصْلُ الأَوَل عُلُوُّ هِمَّةِ السَّلَفِ الصَّالِح فِي طَلَبِ العِلْمِ

- ‌(1) حِرْصُهُم عَلَى طَلَبِ العِلْمَ الشَّريفِ

- ‌(2) عُلُوّ هِمَّتِهِم فِي قِرَاءَةِ كُتبِ الحَدِيثِ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ

- ‌(3) عُلُوُّ هِمَّتِهِم فِي الرِّحْلَةِ لطِلَب العِلْمِ

- ‌(4) مُعانَقَتهم الفَقْر فِي سَبيل ِالطَّلبِ

- ‌(5) مُعَانَاتهم الجُوع وَالمرَض والشَّدَائِدِ وَالمخاطَرة بِالنفسِ في طَلَبِ العلم

- ‌(6) مُعَانَاتهم والسَّهَر فى طَلَبِ العِلمِ

- ‌(7) حِرصهم على مَجَالِسِ العُلَمَاءِ

- ‌(8) مُبَادَرتهم الأَزمَان حِرصًا عَلى العِلمِ

- ‌(9) عُلُوّ هِمَّتهم فِي مُذَاكَرَةٍ العِلْمِ وَمُدَارَسَتهِ

- ‌(10) عُلوّ هِمِّتِهِم فِي حِفْظِ العلْمِ الشَّريفِ

- ‌(11) شِدَّة محبتهِم للِكتبِ

- ‌(12) عُلُوّ همَّتِهِم فَي نَشْرِ العِلْمِ وَتَعلِيمه

- ‌(13) عُلُوّ هِمَّتِهِم في التَّصنِيفِ

- ‌(14) هِمَمٌ لَمْ تَعْرِف الشيبَ

- ‌(15) عُلُوّ هِمَّتِهِمْ في طَلَبِ العِلْم ِوَتَعْلِيمه حتَّى آخرِ رَمَقٍ

- ‌الفَصلُ الثَّانَىعُلُوّ هِمَّةِ السَّلَفِ فِي العِبَادَةِ والاستقَامَةَ

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثعُلُوّ الهِمَّةَ فِي البَحثِ عَنِ الحَقِّ

- ‌(1) سلَمَانُ الفَارِسيّ .. أنموذج ِمِثَالي لِلبَاحث عَن الحَقيقَةَ

- ‌(2) عُلُوّ هِمَّةَ أبيِ ذرٍّ رضي الله عنه فِي البَحْثِ عَن الحَقِّ

- ‌(3) عُلُوّ هِمَّةَ الشَّيْخ أَبِي مُحَمَّد التّرجُمَان الميُورْقي(756 - 832 هـ) "القسيس انسلم تورميدا" سابقًا أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري

- ‌(4) عُلُوّ هِمَّة الأَخِ "رحمة بورنومو" في بَحْثِهِ عَنِ الدّينِ الحَقِّ

- ‌الفصل الرابععُلُوّ الهِمَّة فِي الدَّعوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كبيرُ الهِمَّة يَحْمِل هَمَّ الأُمَّةِ

- ‌حَرَكة الدَّاعِيةِ

- ‌الحَرَكة قِيَامَة وَبَعثٌ لِلرُّوحِ

- ‌نمَاذِج مِن حَرَكةِ السَّلَفِ فِي الدَّعَوةِ إلَى اللهِ تَعَالى وَحِرْصِهِم عَلَى هِدَايَةِ الخَلْقِ

- ‌وَمِنْ نمَاذِج حِرْصِهِمْ عَلَى تَعْلِيم النَّاسِ العِلْمَ الشَّرِيف:

- ‌مُخاطرتهمْ بأَنفُسِهِمْ في نُصْرَةِ الدِّينِ

- ‌البَرَكة .. في السَّعْي وَالحَركةِ

- ‌الفَاسِقُ ضَالَّة الداعيَةِ

- ‌وَللآخِرينَ حَرَكة في نُصرَةِ البَاطَلِ

- ‌هَلُمَّ فَلنَستَحي مِنَ الله

- ‌الفَصل الخامس

- ‌عُلُوّ الهِمَّة في الجِهَادِ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى

- ‌عُلُوّ هِمَّةِ فَارسِ الإسلَامِ السُّرمَارِي

- ‌عُلُوّ هِمَّة "اللؤلؤ العَادِلي

- ‌الباب الخامس

- ‌الفَصْل الأولحَال الأمَّةِ عندَ سقوطِ الِهمَّةِ

- ‌الفصَل الثانيأسَبابُ انحطَاطِ الهِمَمِ

- ‌ منها: الوهن

- ‌ ومنها: الفتور

- ‌ ومنها: إهدار الوقت الثمين

- ‌ ومنها: العجز والكسل

- ‌ ومنها الغفلة

- ‌ ومنها: التسويف والتمني:

- ‌ ومنها: ملاحظة سافل الهمة من طلاب الدنيا

- ‌ ومنها: العشق

- ‌ ومنها: الانحراف في فهم العقيدة

- ‌ ومنها: الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد

- ‌ ومنها: المناهج التربوية والتعليمية الهدَّامة التى تثبط الهمم

- ‌ ومنها: توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام

- ‌الفَصْل الثالِثمِن أسبَابِ الارتقاءِ بالهِمَّةِ

- ‌ العلم والبصيرة

- ‌ ومنها: إرادة الآخرة، وجعل الهموم همًّا واحدًا:

- ‌ ومنها: كثرة ذكر الموت:

- ‌ ومنها: الدعاء؛ لأنه سنة الأنبياء

- ‌ ومنها: الاجتهاد في "حصر" الذهن

- ‌ ومنها: التحول عن البيئة المثبطة:

- ‌ صحبة أولي الهمم العالية

- ‌ ومنها: نصيحة المخلصين:

- ‌ المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف

- ‌الفَصْل الرابعأطفَالنَا…وَعلُوّ الهِمَّةِ

- ‌الأطفال هم المستقبل:

- ‌ذُو الهِمَّة العَالِية لَا يخْفَى مِنْ زمَانِ الصِّبَا

- ‌سِيمَاهُم في كَلَامِهِم كَمَا هِيَ في وجُوهِهِمُ

- ‌كِبارُ الهِمَّةَ النَّاِبغُونَ .. مُختَصَرُ الطَّرِيقِ إِلَى المَجْدِ

- ‌التَّشجِيِعُ وَأَثَره في النّهُوضِ بِالِهمَّةِ

- ‌اغْتَنِم شَبَابكَ قَبلَ هَرَمِكَ

- ‌الفَصْل الخامِسْأثر عُلُوّ الِهمَّةِ في إصْلَاحَ الفَرْدِ والأُمَّةِ

- ‌من منكم "يوسف" هذه الأحلام

الفصل: ‌التشجيع وأثره في النهوض بالهمة

‌التَّشجِيِعُ وَأَثَره في النّهُوضِ بِالِهمَّةِ

رفع الإسلام شأن التشجيع إلى حَدِّ أنه جعله فريضة على غير القادر علي إقامة فروض الكفايات مثل الأمر بالعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، والولاية والِإمامة، وعبارة الفقهاء في مثل هذه الفروض:"أنها واجب على الكفاية، فإن قام بها البعض سقط الوجوب عن الآخرين، وإن لم يقم بها أحد أثموا جميعًا، القادرُ: لأنه قصَّر، وغيرُ القادر: لأنه قصَّر فيما يستطيعه، وهو التفتيش عن القادر وحَمْله على العمل، وحثه وتشجيعه، وإعانته على القيام به، بل إجباره على ذلك"(1).

ولقد تسابق المسلمون في شتى العصور على تشجيع الموهوبين وكبيري الهمة، بكافة صور التشجيع، فكانوا ينفقون الأموال الجزيلة لنفقة النابغين من طلاب العلم، الذين حبسوا أنفسهم على طلبه، كي يغنوهم عن سؤال الناس، أو الاشتغال عن العلم بطلب المعاش.

وهذا الإمام أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي، قال فيه الصفدي:(لم أره قط إلا يسمع أو يكتب أو ينظر في كتاب، ولم أره على غير ذلك، وكان له إقبال على أذكياء الطلبة يعظمهم ويُنَوَّه بقدرهم)(2).

(1) انظر: "الموافقات" للشاطبي (1/ 114).

(2)

"الدرر الكامنة"(5/ 70).

ص: 394

وكان المعلمون في الكتاتيب والمساجد والأزهر الشريف إذا لمسوا في طفل النجابة وسرعة التعلم، احتضنوه، وساعدوه على طلب العلم، وزودوه بالمال من مالهم الخاص، أو من الأوقاف.

وكان في طليعة المشجعين لطلبة العلم الخلفاء والأمراء، روى البخاري في "صحيحه" أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدُخل ابن عباس رضي الله عنهما -وهو غلام حدث- مع أشياخ بدر، قاله أبن عباس:(فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: "لِم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ " فقال عمر: "إنه من حيث علمتم"، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رُؤيت أنه دعاني يومئذ إلا ليرِيهم، قال: ما تقولون في قوله الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}؟ فقال بعضهم: "أمِرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نُصِرنا، وفتِح علينا"، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا: فقال لي: "أكذاك تقول يا أبن عباس؟ " فقلت: "لا"، قال: "فما تقول؟ "، قلت: "هو أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: {إذا جاء نصر الله والفتح} وذلك علامهّ أجلك، {فسبح بحمد ربِّك واستغفره إنه كان توابًا} "، فقال عمر: "ما أعلم منها إلا ما تقول").

وهكذا كان أمير المؤمنين يقَوِّي ثقته بنفسه، ويغذي همته، ويربأ به عن احتقار الذات أو الشعور بالدونية والنقص، وقد روى البخاري في "صحيحه" أيضًا أنه رضي الله عنه سأل بعض الصحابة عن آية في القرآن الكريم فلم يعرفوا الإجابة، وكان بينهم عبد الله بن عباس، وهو صغير السن، فقال:"فِي نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين"، قال عمر:"يا ابن أخي قل، ولا تحقر نفسك"، فأجابه.

ص: 395

على هذا السنن سار ابن عباس منذ طفولته، غير مبالٍ بتثبيط من هو أقصر منه همة، قال رضي الله عنه:(لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: "هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير"، فقال: "واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ فيهم؟ "، قال: "فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليَّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: "يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك؟ "، فأقول: "لا، أنا أحق أن آتيك" فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصارى حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فيقول: "هذا الفتى كان أعقل مني").

فحيهلا إن كنت ذا همةٍ فقد

حدا بك حادي الشوق فاطوِ المراحلا

ولا تنتظر بالسير رُفْقَةَ قاعدٍ

ودعه، فإن العزم يكفيك حاملا

* وقد كان ابن شهاب رحمه الله يشجع الأولاد الصغار، ويقول لهم:"لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإنْ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل، دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم"(1).

[وكان الخليفة "هارون الرشيد" رحمه الله يغدق العطايا والصلات لطلبة العلم والعلماء، حتى قال ابن المبارك: (فما رأيت عالمًا ولا قارئًا

(1)"جامع بيان العلم وفضله"(1/ 85).

ص: 396

للقرآن ولا سابقًا للخيرات ولا حافظًا للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عَشَرةَ سنة.

وقد بلغ حب بعض الأمراء للعلم والعلماء إلى الحد الذىٍ جعله يعتبر العلماء في رعايته الخاصة، من هؤلاء الأمراء "المعز بن باديس" -أحد أمراء دولة الصهاجين في المغرب الِإسلامي- كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره إلى حضرته، وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعوَّل على آرائه، ومنحه أسمى الرواتب ....

وكذلك فعل الخليفة الموحدي الثالث "المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن" الذي أنشأ "بيت الطلبة"، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه حَسَدُ بعضِ حاشيته على موضع الطلبة النابغين عنده، فزع منهم، وخاطبهم قائلًا:"يا معشر الموحدين أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته .. وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجأهم، إليَّ فزعهم، وإليَّ يُنْسَبون".

وقد بلغت عناية المنصور بالطبيب "أبي بكر بن زهر" حدًّا عجيبًا؛ فقد كان أبو بكر يقيم عند الخليفة مددًا طويلة، ولا يرخص له بالسفر إلى أهله، حتى قال شعرًا في شوقه إلى ولده الصغير، فلما سمع المنصور هذا الشعر، أرسل المهندسين إلى "أشبيلية"، وأمرهم بدراسة بيت أبي بكر وحارته، وتشييد مثله في "مراكش"، ففعلوا ما أمرهم، ونقلوا عيال أبي بكر إليه، فلما رآها ابن زهر اندهش، وحصل عنده من

ص: 397

السرور ما لا مزيد عليه، ولا يستطاع التعبير عنه، فهل سُمع بمثل هذا في إكرام العلم والعلماء؟!

وفي القرن السادس عشر قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتجميع النابغين من جميع الأمصار والقرى، وتوفر الرعاية التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فن وعلم، مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضاريًّا وعسكريًّا حتى باتت تهدد بغزو أوربا] (1).

(1) انظر: "رعاية النابغين في الإسلام وعلم النفس" ص (171 - 172).

تنبيه:

(من الجدير بالذكر أن رعاية النابغين أُهملت في أوربا وأمريكا حتى بداية القرن العشرين، بسبب سوء فهم هذه المجتمعات للنابغين، ولعل سبب ذلك كان كتاب " man of Genius" أي:"الرجل العبقري"، لمؤلفه " Iambroso، وكتاب " Insanity of Genius" أي: "جنون العبقرية" لمؤلفه Nisbet، وقد نشر الكتابان في لندن ونيويورك في أواخر القرن التاسع عشر، وأثبتا فيهما العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون، وقدَّما البراهن على أن النابغين مجانين.

ثم بدأت فكرة الغربيين عن النابغين تتحسن بعد أن نشر terman كتابه " The gifted children grown up" أي: "الطفل النابغة يرشد" سنة 1947، وقدم فيه البراهين على أن الأطفال الأذكياء أصحاء نفسيًّا، وجسميًّا، واجتماعيًّا، مما ساعد على تكوين "رأي عام". مع النابغين.

وحتى منتصف القرن العشرين كان الأمريكيون يعتبرون رعاية النابغين ترفًا تربويًّا، ولم يبذلوا جهودًا جادة في الكشف عنهم إلا بعد أن أطلق الروس أول مركبة فضاء سنة 1957، وشعروا بالخطر من تفوق الروس عليهم، فاتجهوا إلى رعاية النابغين، واعتبروها "مسألة حياة أو موت"، وجندوا علماء التربية وعلم النفس والاجتماع، وعقدوا المؤتمرات والندوات لتخطيط وتنظيم رعاية فئات النابغين، وتشجيعها على إظهار نبوغها في جميع المجالات، وأنشأت كل ولاية العديد من المعاهد والفصول المتخصصة في رعاية النابغين في جميع=

ص: 398

* يقول الأستاذ علي الطنطاوي أحسن الله عاقبته:

(قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نموُّ العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيِّمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: "إنه التشجيع! "، وقالت: "إنها في تلك السنِّ، بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الإمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير") اهـ.

* ثم ذكر الشيخ أثر التثبيط في خنق المواهب، وحرمان الأمة من عبقرية أصحابها وإبداعهم، وضرب مثالًا لذلك فقال: [إن الشيخ محمد أمين "ابن عابدين" لما نشأ، وأنس المثبطون (1) منه الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقِّد، والعقل الراجح، خافوا منه فذهبوا يقنعون أباه -وكان أبوه امرأ تاجرًا- ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكَّب به طريق العلم، وجعلوا يكلِّمونه، ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيرًا، فثبت الوالد فكان من هذا الولد المبارك، ابن عابدين صاحب "الحاشية"، أوسِع كتاب في فروع الفقه الحنفي.

=المجالات، حتى بلغ عدد المعاهد حوالي 700 معهدًا تشرف عليها حوالي 300 جامعة في أمريكا، كما أسهمت المؤسسات التجارية والصناعية والعلمية في تمويل برامج الكشف عن النابغين ورعايتهم) اهـ من "رعاية النابغين" ص (173 - 174) بتصرف.

(1)

وهؤلاء المثبطون كانوا -كما قال الشيخ الطنطاوى-: أبناء عائلات معينة احتكرت الوظائف العلمية، فكانوا يخشون تحولها عنهم إلى غيرهم، والله أعلم بسرائر عباده.

ص: 399

بل أرادوا أن يصرفوا أستاذنا العلَّامة "محمد بن كرد علي" عن العلم، فبعثوا إليه بشقيقين من آل

بشقيقين قد ماتا فلستُ أسميهما، على رغم أنهما قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالبًا -فما زالا بأبيه- ولم يكن أبوه من أهل العلم -ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع، ولا منه فائدة

ويُلِحَّان عليه ويلازمانه، حتى ضجر فصرفهما فكان من ولده هذا، الأستاذ "كرد علي" أبو النهضة الفكرية في الشام وقائدها، ووزير معارف سورية الأسبق، ومفخرتها، والذى من مصنَّفاته: خطط الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإدارة الإسلامية، والإسلام والحضارة العربية

والمقتبس

ومن مصنفاته: "المجمع العلمي العربي بدمشق"، ومن مصنفاته هؤلاء "الشعراء والكتَّاب من الشباب"!

ولعل في الناس كثيرين كانوا لولا الاحتكار والتثبيط كابن عابدين وككرد علي، وها هو ذا العلامة الشيخ "سليم البخاري" رحمه الله مات وما له مصنَّف رسالة فما فوقها، على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه؛ وسبب ذلك أنه صنَّف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلةٍ عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه، فسخر منه وأنَّبه، وقال له:

"أيها المغرور! أبلغَ مِن قدرك أن تصنف، وأنت

وأنت

" ثم أخذ الرسالة فسجَّر بها المدفأة .. فكانت هي أول مصنفات العلامة البخاري وآخرها.

ص: 400

وأول من سَنَّ سنةَ التشجيع في بلدنا هو العلامة مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله الفيلسوف المؤرخ الجدلي، الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية، والأستاذ "محمد كرد على بك"، وخالي الأستاذ "محب الدين الخطيب"

ومما كتب في ذم التثبيط:

"

وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم، في هذا الوقت الذي يتنبَّه فيه الغافل

وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم، ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولم يُرَ أحد من المثبطين قديمًا أو حديثًا أتى بأمرٍ مهم، فينبغي للجرائد الكبيرة، أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة والتحذير منها، ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم".

وكان الشيخ في حياته يشجِّع كل عامل، ولا يَثني أحدًا عن غاية صالحة، حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له:(إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام، فلا تقل له: "إن هذا غير ممكن"، فتفلَّ عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه وحبِّب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته).

* ثم إن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها؛ ورُبَّ ولدٍ من أولاد الصُنَّاع أو التجار يكون إذا شُجِّع وأُخذ بيده عالمًا من أكابر العلماء، أو أديبًا من أعاظم الأدباء!

وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة، إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس تحت القبَّة.

ص: 401

نشأ الشيخ "محمد إسماعيل" الحائك عاميًّا، ولكنه محبٌّ للعلم، محب للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس لا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه، ويلطف به لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشدَّ ذلك من عزمه، فاشترى الكتبَ يُحيي ليلَه في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، وأستمر على ذلك دهرًا حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحدَ زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها؛ وصار الناس يأتونه في محلِّه يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحولة العلماء، وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي، فساء ذلك العمادين وآلمهم، فترَّبصوا بالشيخ وأضمروا له الشرِّ، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلًا، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في "القيمرية" وهو على أتانٍ (1) له بيضاء، فيسلِّم فيردون عليه السلام، فمر يومًا كما كان يمر، فوجد على الباب أخًا للمفتي، فردَّ عليه السلام، وقال له ساخرًا:

- "إلى أين يا شيخ، أذاهبٌ أنت إلى اسطنبول لتأتي بوِلاية الإفتاء؟ " وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال:

- "إن شاء الله! " وسار في طريقه حتى إذا أبتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله، وأعطاهم نفقتهم، وسافر!

وما زال يفارق بلدًا، ويستقبل بلدًا، حتى دخل القسطنطينية فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في

(1) الأتَان: الحِمارة.

ص: 402

كتاب، أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيِّه أنه عربي فيحترمونه ويُجِلُّونه، ولم يكن الترك قد جُنُّوا الجِنَة الكبرى بعدُ

فكانوا يعظمون العربي، لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناسًا

واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يومًا رجل منهم:

- "إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيَّرت علماءها، ولم يجدوا لها جوابًا، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعلَّ الله يفتح عليك بالجواب؟ "

قال: "نعم".

قال: "سر معي إلى المشيخة".

قال: "باسم الله".

ودخلوا على ناموس المشيخة (سكرتيرها)، فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة فرفع رأسه فقلَّب بصره فيه بازدراء، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي تُرضِي، ثم ألقاها إليه وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظارته فوضعها على عينه فقرأ المسألة ثم أخرج من مِنطقته هذه الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة وللدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأحذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل حتى سوَّد عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب، فلما حملها الناموس إلى شيخ الِإسلام وقرأها، كاد يقضي دهشة وسرورًا.

ص: 403

- وقال له: "ويحك! من كتب، هذا الجواب؟ ".

- قال: "شيخ شامي من صفته كَيْتَ وكَيْتَ

".

- قال: "عليَّ به".

فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلِّم على شيخ الِإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعًا يده على صدره، منحنيًّا، ثم يمشي متباطئًا حتى يقوم بين يديه

إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ، ولم يحفظ منها شيئًا.

ودخل على شيخ الإسلام، فقال له:

- "السلام عليكم ورحمة الله"، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه، وعجب الحاضرون من عمله، ولكن شيخ الِإسلام سُرَّ بهذه التحية الإسلامية، وأقبل عليه يسأله حتى قال له:

- "سلني حاجتك؟ ".

- قال: "إفتاء الشام وتدريس القبَّة".

- قال: "هما لك، فاغْدُ علَيَّ غدًا! ".

فلما كان من الغد ذهب إليه، فأعطاه فرمان التولية، وكيسًا فيه ألف دينار.

وعاد الشيخ إلى دمشق فركب أتانه، ودار حتى مَرَّ بدار العماديين فإذا صاحبنا على الباب، فسخر منه كما سخِر، وقال:

- "من أين يا شيخ؟ ".

- فقال الشيخ: "من هنا، من اسطنبول، أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني".

ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، وسلَّم الشيخَ عمله في

ص: 404

حفلة حافلة.

همم الرجالِ إذا مضت لم يثنِها

خِدَعُ الثناء ولا عوادي (1) الذامِ (2)

* ومن هذا الباب قصة الشيخ "على كزبر"، وقد كان خياطًا في سوق المسكية على باب الجامع الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب فجلس في الحلقة التي تحت القبة فاستمع إلى الشيخ حتى يقوم فيلحق به فيخدمه، وكان الشيخ يعطف عليه لما يرى من خدمته إياه، فيشجعه ويحثه على القراءة، فقرأ ودأب على المطالعة، حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك أمدًا وهو لا يفارق دكَّانه، ولا يدع عمله، حتى صار مقدمًا في كافة العلوم.

فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس للمدرِّس الجديد، فافتقدوا المعيد فلم يجدوه، ففتشوا عليه فإذا هو في دكانه يخيط، فجاؤوا به، فقرأ الدرس، وشرحه شرحًا أُعجب به الحاضرون وطربوا له، فعيَّن مدِّرسًا، ولبث خمسة عشر عامًا يدرس تحت قبة النسر، وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم] (3).

(1) العوادي: جمع عادية، وعوادي الدهر: نوائبه، وعادية فلان: ظلمه وشره.

(2)

الذَّأم: العيب، يقال: ذَأمه ذأمًا: عابه وحقَّره.

(3)

من "فِكَر ومباحث" ص (128 - 134) بتصرف.

ص: 405