الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا كبير الهمة: لا يضرك التفرد فإن طرق العلاء قليلة الإيناس
إن كبير الهمة على الإطلاق من يتحرى الفضائل، لا للذة، ولا لثروة، ولا لاستشعار نخوة، واستعلاء على البرية، بل يتحرى مصالح العباد شاكرًا بذلك نعمة الله، وطالبًا به مرضاته غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قلَّ المساعد، وطرق العلاء قليلة الِإيناس.
أَهُمُّ بشيء والليالي كأنها
…
تطاردني عن كونها وأُطارِدُ
فريدٌ عن الخِلَّان في كل بلدة
…
إذا عَظُم المطلوبُ قلَّ المساعِدُ
عن ابن جدعان قال: (سمع عمر رجلًا يِقول: "اللهم اجعلني من الأقلين"، فقال: "يا عبد الله! وما الأقلون؟ "، قال: سمعت الله يقول. {وما آمن معه إلا قليل}، {وقليل من عبادي الشكور}، وذكر آيات أخر، فقال عمر: "كل أحد أفقه من عمر").
وقال سفيان بن عيينة: "اسلكوا سبل الحق، ولا تستوحشوا من قلة
أهلها".
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين".
وقال سليمان الداراني: "لو شك الناس كلهم في الحق، ما شككت فيه وحدي".
وقال بعض الصالحين: "انفرادك في طريق طلبك، دليل على صدق الطلب".
فعالي الهمة ترقى في مدارج الكمال بحيث صار لا يأبه بقلة السالكين، ووحشة الطريق لأنه يُحَصِّل مع كل مرتبة يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة (1)، وإلا انقطع به السبيل.
[إن أول ثمرات العزة الإيمانية التي يحسها المؤمن: إدراكه ما في الإسلام من قوة الحقيقة التي يكفي لكي تعلن عن نفسها أن تتمثل في فرد واحد، وما في الآراء الجاهلية المخالفة من زيف الباطل، واحتياجها إلى سواد كثير، وعدد كبير من الأفراد، يأسر منظرهم كل ساذَج، فيغتر، وينطلي زيف الباطل عديه، دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال.
(1) وتوضيح ذلك بمراتب الدين فهي ثلاثة كما جاء في حديث جبريل: "الإسلام، والإيمان، والإحسان، فالإسلام أخص من الإيمان من حيث المعنى، لكنه أعم من حيث الأفراد، والإيمان أخص من الإحسان من حيث المعنى، لكنه أعم من حيث الأفراد، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا، وليس كل مؤمن محسنًا، وفي هذه المراتب درجات ودرجات، فكلما ارتفع السالك درجة شعر بقلة في السالكين، فإذا لم يكن قد حصل مع ارتفاع كل درجة من الأنس بالله بقدر شعوره بقلة السالكين في هذه الدرجة، لاستولى عليه الشعور بالوحشة، فأحسن أحواله حينئذ أن ينقطع عن الرقي أو يمله وهو بذلك مغبون، وإما أن يعود القهقرى، وهو في هذه الحالة خاسر مردود، فلا ييأس، وليعاود السير عساه أن يربح فلا يخسر أبدًا.
ومن ها هنا رأينا تمثل الأمة الإسلامية أكثر من مرة بمؤمن واحد فقط، كما قال الله تعالى:{إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفا} قال ابن تيمية: "أي: كان مؤمنًا وحده، وكان الناس كفارا جميعًا") (1) وفي "صحيح البخاري" أنه قال لزوجه سارة: "يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك".
ثم كما تمثلت حينًا بمحمد صلى الله عليه وسلم وحده] (2)، وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد أوذيتُ في الله وما يؤذى أحد، وأخِفْتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عَليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة، ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال". [صحيح].
فمن ثم (انسدَّ باب شعور المؤمن بالغربة، فهو -لأنه يمثل الإيمان والحقيقة- يشعر بأن الناس حميعًا، وهم في ضلالهم هم الغرباء التائهون، ولذلك، فإنه لما توهم واهم، فوصف عبد الوهاب عزام بالغربة، كان جوابه سريعًا، فقال:
قال لي صاحب: أراك غريبًا
…
بين هذا الأنام دون خليلِ
قلت: كلا، بل الأنام غريب
…
أنا في عالمي، وهذي سبيلي) (3)
(1)"مجموع الفتاوى"(11/ 436).
(2)
"المنطلق" ص (235).
(3)
"المنطلق" ص (236)، وقال مؤلفه الأستاذ الفاضل محمد أحمد الراشد -حفظه الله-:(أما غربة الغرباء الذين ذكروا في الحديث الشريف "طوبى للغرباء"، فهى غربة بالنسبة للواقع، أي: لندرتهم وقلتهم بين غثاء ضال، أما في عالم الضمير والشعور، فإن للمؤمن الفرد من إيمانه أنيسًا ورفيقًا وخليلًا يبعد الغربة) اهـ.
وكبير الهمة -كما يقول الامام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالي-:
(لا يكترث بمخالفه الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرًا، وإن كانوا الأكثرين عددًا، كما قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين" وكلما استوحشت في تفردك؛ فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغُضَّ الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئًا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك، وعاقوك)(1) اهـ.
والملتفت لنعيق الباطل كالظبي، و "الظبي أشد سعيًا من الكلب، ولكنه إذا أحسَّ به؛ التفت إليه، فيضعف سعيه، فيدركه الكلبُ، فيأخذه"(2).
وقال الأستاذ سيد قطب رحمه الله في هذا المعنى:
أخي فامضِ لا تلتفت للوراءْ
…
طريقك قد خَضبَّتْهُ الدماءْ
ولا تلتفت ها هنا أو هناك
…
ولا تتطلع لغير السَّماء
…
(1)"مدارج السالكين"(1/ 21).
(2)
"السابق"(1/ 22).