الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع مجَالَاتُ عُلُوِّ الهِمَّةِ
الفَصْلُ الأَوَل عُلُوُّ هِمَّةِ السَّلَفِ الصَّالِح فِي طَلَبِ العِلْمِ
العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجَدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكُميل:"احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة، فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل نجاة، وهمج رَعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال يُنقصه النفقة، ومحبة العالم دين يُدانُ بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة".
الحديث عن فضل العلم، وما يناله طالبه من مجد وكرامة حديث لا يكشف عن غامض، ولا يطرق السمع بجديد، ومقصودنا شيء غير هذا، ألا وهو لفت الأنظار إلى "القوة العملية" وهي الوسيلة التي صعدت بعلمائنا، فخدموا الدين، ونشروا العلم.
***
قال الإمام أبو الفرج بن الجوزىِ -رحمه الله تعالى-:
(تأملت عجبًا، وهو أن كل شىء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله.
فإن العلم لما كان أشرف الأشياء، لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء:"بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر، لأن وقعت بيعها وقت سماع الدرس"
…
) اهـ.
ولذلك قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (وأما سعادته فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية.
وقد أحسن القائل في ذلك:
فقل لمرجي معالي الأمور
…
بغير اجتهاد: رجوتَ المحالا
وقال الآخر:
لولا المشقة ساد الناسُ كلُّهم
…
الجود يُفْقِر والإقدام قَتَّالُ
ومن طمحت همته إلى الأمور العالية؛ فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية، وهي السعادة، وإن كانت في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وأنها متى أكرهت النفس عليها، وسيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها أفضت منها إلى رياض مونقة، ومقاعد صدق، ومقام كريم، تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها كما قيل:
وكنت أرى قد تناهى بي الهوى
…
إلى غاية ما بعدها لي مذهبُ
فلما تلاقينا وعاينت حسنها
…
تيقنت أني إنما كنت ألعبُ
فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة، فلا نقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد.
قال مسلم في "صحيحه": قال يحيى بن أبي كثير: "لا يُنال العلم براحة الجسم"، وقد قيل:"من طلب الراحة، ترك الراحة".
فيا واصل الحبيب أما إليه
…
بغير مشقة أبدًا طريق؟!
ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّتْ بحجاب من المكاره، وحُجِبوا عنها بحجاب من الجهل، ليختص الله لها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم) اهـ.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-:
(حق على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًّا واستنباطًا، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه).
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكِلُه
…
لا تبلغ المجدَ حتى تلعقَ الصبرا
وقد كان أهل العلم -رحمهم الله تعالى- يلاقون المصاعب. والشدائد في تحصيلهم للعلم، نصح الإمامُ ابنُ هشام النحوي، صاحبُ كتاب "القطر" و"المغني" وغيرهما، طَلَبةَ العلم بالصبر على مَشاقِّ العلم والتحصيل، إذ هو شَرْطٌ في نيل المراد العزيز الغالي، فيقول:
ومن يَصطبرْ للعلِم يَظفَرْ بنَيلِهِ
…
ومن يَخْطُبِ الحسناءَ يَصبرْ على البَذْلِ
ومن لم يُذِلِّ النَّفْسَ في طَلَب العُلى
…
يسيرًا يَعِشْ دهرًا طويلًا أخا ذُلِّ
إنما يقطع السفر وبصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام الليل كله، فمتى يصل إلى مقصده؟
الجد بالجد والحرمان في الكسلِ
…
فانْصبْ تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ
فعليك يا طالب العلم أن تجد في التحصيل، فإن الأمر كما قال ابن الجنيد:"ما طلب أحد شيئًا بجد وصدق إلا ناله، فإن لم ينله كلَّه نال بعضه".
فهذا هو علو الهمة في طلب العلم:
- غيرة على الوقت أن ينفق في غير فائدة،
- وعزم يبلي الجديدان وهو صارم صقيل،
- وحرص لا يشفى غليله إلا أن يفترق من موارد العلوم بأكواب طافحة،
- وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورةُ المسلك، ولا طولُ مسافةِ الطريق،
- وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ومهاترة، كيف لا وقد شغلت بالحق، فأشغلها عن الباطل.
لقد كان حالُ سلف الأمة في طلب العلم، ونشره، والتصنيف فيه حالًا عجيبًا، استثمروا فيه أوقاتهم، وأفنَوْا شبابهم، فحصَّلوا ما يدهش العقول، ويبهر الألباب، ويستنهض الهمم، فهيا إلى مطالعة أحوالهم، والاقتداء بهديهم، والسير على سننهم.
وحدثتني عنهم يا سعد فزدتني
…
بهم غرامًا، فزدني من حديثك يا سعدُ!
آخر:
كَرِّرْ عليَّ حديثهم يا حادي
…
فحديثهم يُجلي الفؤادَ الصادي