الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصل الخامس
عُلُوّ الهِمَّة في الجِهَادِ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى
علم الرعيل الأول من صفوة المسلمين أن في الجهاد فضلًا لا يُضاهَى، وخيرًا لا يتناهى، وأيقنوا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الريَّ الأعظم في شرب كئوس الحتوف، فشمروا للجهاد عن ساق الاجتهاد، ونفروا إلى ذوي الكفر والعناد من شتى أصناف العباد، وجهزوا الجيوش والسرايا، وبذلوا في سبيل الله العطايا، وأقرضوا الأموال لمن يضاعفها ويزكيها، ودفعوا سلع النفوس من غير مماطلةٍ لمشتريها، وضربوا الكافرين فوق الأعناق، واستعذبوا من المنية مُرَّ المذاق، وباعوا الحياة الفانية بالعيش الباق، ونشروا أعلام الإسلام في الآفاق.
فِمن ثَمَّ كان في الإشارة إلى بعض مناقبهم، وحسن بلائهم ما عساه يوقظ الهمم الرُّقَّد، ويُنهِضُ العزمَ المُقْعَد، ومن لم تروه الإشارة، وطمحت نفسه إلى الاستزادة، فليطلب ذلك من مظانه المبسوطة، وبالله المستعان.
لقد كان إمامهم الأوحد، ورائدهم الأول في ذلك -بل في كل باب من أبواب الخير- خير من وطئ الحصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم
الآخر وذكر الله كثيرًا}، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى البشر همة على الإطلاق، وكان أشجع الناس، وأقواهم قلبًا، وأثبتهم جَنانًا، وقد حضر المواقف الصعبة المشهورة، وفرَّ الكماة والأبطال عنده غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة أو فترة، سواه، فإنه لم يفر قط، وحاشاه من ذلك، ثم حاشاه، قال الله تعالى:{وإنك لعلى خلق عظيم} .
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف، وهو يقول: "لم تراعوا
…
لم تراعوا") (1).
وقال على رضي الله عنه: (كنا إذا اشتد البأس، واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا)(2)، وقيل:"كان الشجاع هو الذي يقرب منه صلى الله عليه وسلم إذا دنا العدو لقربه منه"، وقال عمران بن حصين:"ما لقي صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب".
وكذلك الشجعان في أمته والأبطال لا يُحْصَوْنَ عدة، ولا يحاط بهم كثرة، سيما أصحابه المؤيدين الممدوحين في التنزيل بقوله تعالى:{محمد رسول الله والذين معه أشِدَّاءُ على الكفار رحماءُ بينهم} .
(1) متفق عليه.
(2)
رواه مسلم.
* فأشجع الصحابة -وكلهم رضي الله عنهم شجعان- وأفضلهم، بل أفضل البشر جميعًا بعد الأنبياء، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، هكذا شهد له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أشجع الناس، وصدق رضي الله عنه فقد كان أثبتهم قلبًا، وأقواهم جَنانًا، وحسبك من ذلك ثبات قلبه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، ويوم حنين، بل ثبات قلبه وتثبيته المسلمين عند الخطب الأعظم، والأمر الأفخم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا عزمه في قتال من ارتد حينئذ، فتلك الشجاعة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمة التي تنازلت لها أعالي الهمم.
* ومنهم الفاروق ناصر الدين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي بلغ من الشجاعة والهمة الكبرى أقصى الغايات وأعلى النهايات، والأخبار في قوته في الدين وشدته على المشركين كثيرة مشهورة.
* وهذا الليث الحصَّار، والغيث المدرار، ومفرق كتائب المشركين، والآتي من أنواع الشجاعة بما أوجب في المتعجبين أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه (كان درعه صدرًا لا ظهر له، فقيل له:"ألا تخاف أن تؤتى مِن قبل ظهرك؟ "، فقال:"إن أمكنت عدوي من ظهري، فلا أبقى الله عليه، إن أبقى عليَّ" رواه ابن عساكر، وذكر ابن عبد البر في صفته أنه:"كان إذا أمسك بذراع رجل، لم يستطع أن يتنفس"، وأخبار شجاعته وعلو همته كثيرة مشهورة.
* ولما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم فِي القتال في
غزوة بدر الكبرى، قال له المقداد بن الأسود رضي الله عنه:"يا رسول الله امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون".
وقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: " .. فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لَخُضْناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غدًا، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُق عند اللقاء، لعل الله يُريك ما تقر به عينك، فسر على بركة الله".
وعن أنس رضي الله عنه قال: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركِين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه"، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، قال عمير بن الحمام: "يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض" قال: "نعم"، قال: "بخ بخ" (1)، فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم:"ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ "، قال:"لا والله، إلا رجاء أن أكون من أهلها"، قال:"فإنك من أهلها"، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال:"إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتل"(2).
(1) كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء.
(2)
رواه مسلم.
* عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (غاب عمي أنس بن النضر، عن قتال بدر، فقال: "يا رسول الله! غبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئنِ اللهُ أشهدني قتال المشركين، ليرين الله ما أصنع"، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: "اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: "يا سعد بن معاذ! الجنة وربِّ النضر، إني أجد ريحها دون أحد"، قال سعد: "فما استطعت يا رسول الله ما صنع"، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتل، ومَثَّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، فقال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه، وفي أشباهه: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} الآية)(1).
* ورُوي أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه -في سرية مؤتة- فقُطِعت، فأخذه بشماله، فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قُتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ويقال: إن رجلًا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين .. فلما قُتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم قال:
أقسمتُ يا نفس لَتنزِلنهْ
…
لتنزلن أو لتُكرَهِنَّهْ
(1) متفق عليه.
أن أجلب الناس وشدُّوا الرنَّه
…
ما لي أراكِ تكرهين الجنه
وقال:
يا نفس إن لا تُقتلي تموتي
…
هذا حِمام الموت قد صَليتِ
وما تمنيتِ فقد أعطيتِ
…
إن تفعلِي فعلهما هُديتِ
وإن تأخَّرتِ فقد شقيتِ
يريد صاحبيه زيدًا وجعفرًا، ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عمٍّ له بِعَرْق لحمٍ، فقال:"شُدَّ بهذا صُلبك، فإنك قد لقيتَ يومك هذا"، فأخذه من يده، فانتهش منه نهشة، ثم سمع الحَطْمَة في ناحية الناس، فقال:"وأنتَ في الدنيا؟! "، فألقاه من يده، ثم تقدم فقاتل حتى قُتِل (1).
* وعن شداد بن الهادِ رضي الله عنه أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه، ثم قال:"أهاجر معك"، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غَزاة، غَنِم النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فقسم، وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال:"ما هذا؟!، قالوا: "قِسْمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما هذا؟ "، قال:"قسمتُه لك"، قال:"ما على هذا اتبَّعْتُك، ولكن اتبعتك على أن أرْمَى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموتَ، فأدخلَ الجنة، فقال: "إن تَصْدُقِ اللهَ يصدقك"، فلبثوا قليلًا، ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتِىَ به النبُّي صلى الله عليه وسلم يُحْمَل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال
(1)"سيرة ابن هشام"(4/ 13 - 14).
النبي صلى الله عليه وسلم: "أهو هو؟ " قالوا: "نعم"، قال:"صدق اللهَ فصدقه"، ثم كفَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جُبَّتِهِ، ثم قَدَّمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته:"اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرًا في سبيلك، فقُتِل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك"(1).
* وعن جعفر بن عبد الله بن أسلم، قال:(لما كان يوم اليمامة، واصطف الناس كان أولَ من جُرح أبو عقيل، رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده في غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن له شقه الأيسر في أول النهار، وُجرَّ إلى الرَّحْل، فلما حمي القتال، وانهزم المسلمون، وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: "يا للأنصار! اللهَ اللهَ والكرَّةَ على عدوكم! " قال عبد الله بن عمر: "فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: "ما تريد؟ ما فيك قتال! "، قال: "قد نَوَّه المنادى باسمي"، قال ابن عمر: فقلت له: "إنما يقول: يا للأنصار، ولا يعني الجرحى"، قال أبو عقيل: "أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْوًا"، قال ابن عمر: فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار! كرةً كيوم حُنين! فاجتمِعوا رحمكم الله جميعًا، تقدَّموا فالمسلمون دَريئة (2) دون عدوهم"، حتى أقحموا عدوهم الحديقة، فاختلطوا، واختلفت السيوف بيننا وبينهم.
قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطِعت يده المجروحة من المنكب فوقعتْ إلى الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلها قد خلصت إلى مقتل، وقُتل عدوُّ الله مسيلمة.
(1)"صحيح سنن النسائي" ص (420).
(2)
الدريئة: ما يستتر به الصائد لِيَختِلَ الصيدَ، وحَلْقَة أو دائرة يُتَعَلَّمُ عليها الطعنُ والرمي.
قال ابن عمر: فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل! قال: "لبيك -بلسان ملتاث- لمن الدَّبْرَة؟ "(1) قلت: "أبشر قد قُتل عدو الله"، فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله) (2).
* ومنهم البراء بن مالك أخو أنس بن مالك رضي الله عنهما: عن ابن سيرين: (أن المسلمين انتهوا إلى حائط فيه رجال من المشركين، فقعد البراء على ترس، وقال: "ارفعوني برماحكم، فألقوني إليهم"، فألقوه وراء الحائط، قال: فأدركوه وقد قتل منهم عشرة، وجُرح البراء يومئذ بضعًا وثمانين جراحة، ما بين رمية وضربة، فأقام عليه خالد بن الوليد شهرًا حتى برأ من جراحته)(3).
* وعن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري قال: (لما انكشف المسلمون يوم اليمامة، قال سالم مولى أبي حذيفة: "ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فحفر لنفسه حفرة، وقام فيها، ومعه راية المهاجرين يومئذ، فقاتل حتى قُتل يوم اليمامة شهيدًا سنة اثنتي عشرة)(4).
* وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: (مررت يوم اليمامة
(1) الدَّبْرة: الهزيمة في القتال، يُقال:"جعل الله عليهم الدبرة": الهزيمة، "وجعل الله لهم الدبرة": الظفَر والنُّصرة بهزيمة غيرهم.
(2)
"مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق"(1/ 509).
(3)
"أسد الغابة"(1/ 206).
(4)
"مشارع الأشواق"(1/ 555).
بثابت بن قيس بن شماس وهو يتحنط (1)، فقلت:"يا عم، ألا ترى ما يلقى المسلمون وأنت هاهنا؟ " قال: فتبسم، ثم قال:"الآن يا ابن أخي، فلبس سلاحه، وركب فرسه حتي أتى الصف، فقال: "أف لهؤلاء وما يصنعون"، وقال للعدو: "أف لهؤلاء وما يعبدون، خَلُّوا على سبيله -يعنى فرسه- حتى أصلي بحرها، فحمل، فقاتل حتى قُتِل رضي الله عنه" (2).
* وعن عبد الله بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
(سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف"، فقام رجل رث الهيئة، فقال: "يا أبا موسى آنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ " قال: "نعم"، قال: فرجع إلى أصحابه فقال: "أقرأ عليكم السلام"، ثم كسر جِفْنَ سيفه -وهو غمده- فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قتل)(3).
* وهذا سيف الله تعالى، وفارسُ الإسلام، وليثُ المشاهد، قائد المجاهدين أبو سليمان خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، وأرضاه،
(1) الحَنوط -بفتح الحاء- هو ما يحنط من الطيب للموتى خاصة، وتحنط: إذا تطيب به، وإنما كانوا يفعلون ذلك -والله أعل- لتوطين النفوس على الموت، وتصميم العزم على نيل الشهادة.
(2)
رواه ابن المبارك في الجهاد، رقم (121)، والبيهقي في "السنن"(9/ 44)، وقال الهيثمي:(رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح)،
اهـ. من " مجمع الزوائد"(9/ 222).
(3)
رواه مسلم، والترمذى، والحاكم، وغيرهم.
لما حضرته الوفاة قال:
"لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"(1).
وروى عاصم بن بهدلة: عن أبي وائل قال: لما حضرت خالدًا الوفاة قال: "لقد طلبتُ القتلَ مظانَّه، فلم يُقَدَّر لي إلا أن أموت على فراشي، وما مِن عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد -من ليلة بِتُّها وأنا متترس، والسماء تُهِلُّني ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار"، ثم قال:"إذا متُّ، فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدة في سبيل الله"، فلما توفي، خرج عمر على جنازته، فذكر قوله:"ما على آل الوليد أن يَسْفَحْن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعًا أو لَقْلَقة"(2).
وقد بلغ من شجاعته في بعض حروبه أنه بينما كان قائد الفرس ينظم صفوفهم، إذا بخالدٍ ينقض عليه، ويحتضنه بشدةٍ، ويخطفه كالبرق الخاطف، ويأتي به أسيرًا بين ذراعيه إلى جيش المسلمين أمام ذهول الكفار من هذه الشجاعة النادرة.
* وفي حديث عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أنه أسره الروم، فحبسه طاغيتهم في بيت، فيه ماء ممزوج بخمر، ولحم خنزير مشوي، ليأكله ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة، فلم يفعل، ثم أخرجوه حين خشوا موته، فقال:"والله لقد كان أحله لي لأني مضطر، ولكن لم أن لأشمتكم بدين الإسلام".
وعبد الله بن حذافة السهمي صحابي توفي بمصر، ودفن بمقبرتها،
(1)"أسد الغابة"(2/ 111).
(2)
"الإصابة"(3/ 74).
وذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقصته مع ملك الروم حكاها أبو رافع قال:
(وجه عُمرُ جيشًا إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: "إنَّ هذا من أصحاب محمد"، فقال: "هل لك أن تتنصَّر وأعْطِيَكَ نصفَ ملكي؟ "، قال: "لو أعطيتني جميع ما تملكُ، وجميع ما تملك العرب، ما رجعتُ عن دين محمد طرفة عين"، قال: "إذًا أقتلك"، قال: "أنت وذاك"، فأمر به، فصُلِبَ، وقال للرماة: "ارمُوهُ قريبًا من بدنِهِ"، وهو يعرضُ عليه، ويأبى، فأنزله، ودعا بِقدْر، فصبَّ فيهِا ماء حتى احترقت، ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما، فأُلقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية، وهو يأبى، ثم بكى، فقيل للملك: "إنَّه بكى"، فظن أنه قد جزع، فقال: "رُدُّوه، ما أبكاك؟ "، قال: "قلت: هي نفسٌ واحدة تُلقى الساعةَ فتذهب، فكنتُ أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفسٌ تُلْقَى فِي النار في الله"، فقال له الطاغية: "هل لك أن تقبل رأسي، وأخلي عنك؟ "، فقال له عبد الله: "وعن جميع الأسارى؟ "، قال: "نعم"، فقبل رأسه، وقدم بالأسارى على عمر، فأخبره خبره، فقَال عمر: "حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابنِ حذافة، وأنا أبدأ"، فقبل رأسه)(1).
أجدر الناس بالكرامة: عبد
…
تلفت نفسُه، ليسلم دينُه
(1) انظر: "أسد الغابة"(3/ 212، 213) ط. الشعب.
* واستوصى "رويمًا" صاحبٌ له، فقال:"هو بذل الروح، وإلا فلا تشتغل بالترهات".
الجود بالمال جود فيه مكرمة
…
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
* وعن العلاء بن سفيان الحضرمي قال: (غزا بُسْر بن أرطاة الروم، فجعلت ساقته لا تزال تصاب، فيكمن لهم الكمين، فيصاب الكمين، فلما رأى ذلك، تخلف في مائة من جيشه، فانفرد يومًا في بعض أودية الروم، فإذا براذين (1) مربوطة نحو ثلاثين، والكنيسة إلى جانبهم فيها فرسان تلك البراذين الذين كانوا يعقبونه في ساقته، فنزل عن فرسه فربطه، ثم دخل الكنيسة فأغلق عليه وعليهم بابها، فجعلت الروم تعجب من إغلاقه، فما استقلوا إلى رماحهم حتى صَرَعَ منهم ثلاثة، وفقده أصحابه فطلبوه، فأتوا، فعرفوا فرسه، وسمعوا الجلبة في الكنيسة، فأتوها فإذا بابها مُغلق، فقلعوا بعض السقف، ونزلوا عليهم، وبُسْر ممسك طائفة من أمعائه بيده، والسيف بيده اليمني، فلما تمكن أصحابه في الكنيسة سقط بُسْر مغشيًّا عليه، فأقبلوا على أولئك، فأسروا وقتلوا، فأقبلت عليهم الأسارى، فقالوا:"ننشدكم الله من هذا؟ "، قالوا:"بسر بن أرطاة"، فقالوا:"والله ما ولدت النساء مثله"، فعمدوا إلى أمعائه، فردوه في جوفه، ولم ينخرق منه شيء، ثم عصبوه بعمائمهم، وحملوه، ثم خاطوه، فسلم، وعوفي) (2).
وكبيرو الهمة من المجاهدين يهوون رفع الثقيل من الأمور، وخوض
(1) براذين: جمع بِرْذَوْن، يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء، قوي الأرجل، عظيم الحوافر.
(2)
"مشارع الأشواق"(1/ 541).
المخاطر، واقتحام العقبات، كأولئك النخعيين الذين تسابقوا على الاستشهاد في معركة القادسية، قال واحد منهم:
(أتينا القادسية، فقتل منا كثير، ومن سائر الناس قليل، فسئل عمر عن ذلك، فقال: إن النخَع وَلُوا عِظَم الأمر وحدهم)(1).
* ورفع الله الحرج عن المعذروين فقال عز من قائل: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} الآية، وقال تعالى:{ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} ، فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار، وما صبرت القلوب:(فخرج ابن أم مكتوم إلى أحُد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره، وقرأ: {وَمَا مُحَمَّد إلَّا رَسولٌ قَدْ خلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}. هذه عزائم القوم، والحق يقول: {ليس عَلَى الْأعْمَى حَرَج} وهو في الأول، {وَلَا عَلَى الْأعْرَج حرجٌ} وعمرو بن الجَمُوح من قباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش، قال له الرسول عليه السلام: "إن الله قد عذرك"، فقال: "والله لأحفرنَّ بعرجتى هذه فِي الجنة"، وقال عبد الله بن مسعود: "ولقد كان الرجل يؤتى به يُهِادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف")(2).
* كر الفرس كرة على غرة، فرجع المسلمين متحرفين لقتال، أو متحيزين إلى فئة، فلحقوا بأضعفهم، فاختطفوه أسيرًا، وعادوا به
…
(1)"الإصابة"(1/ 28).
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 226).
فماذا قال هذا "الأضعف" الذي لم يستطع الجري؟
رستم: ما جاء بكم، وما تطلبون؟
المسلم: جئنا نطلب موعود الله؟
رستم: وما موعود الله؟
المسلم: أرضكم ودياركم وأبناؤكم إن أبيتم أن تُسلموا.
رستم: فإن قُتِلتم قبل ذلك؟
المسلم: في موعود الله أن من قُتل منا أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا وعده، فنحن على يقين.
رستم: قد وَضَعَنا إذن في أيديكم.
المسلم: "ويحك يا رستم، إن أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى من حولك، فإنك لست تحارب الإنس، وإنما تحارب قضاء الله وقدره، ونحن قضاء الله وقدره"(1).
وقد أوجز خالد بن الوليد وأبلغ حين وصف جنود الإسلام مخاطبًا الفرس: "قد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة".
* التابعي الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي رحمه الله والذي كان نتاج تربية الأربعة الراشدين، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، عاف التجارات والبيوت، وبنى له في الكوفة حصنًا صغيرًا يسعه هو وفرسه وسلاحه فقط، وبقى طول عمره متحفزًا للجهاد، حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس (2).
و (كان إذا خلا ينشج -يبكي بصوت وتوجع- ولو جُعل له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل، وكان له خُصٌّ يكون فيه هو وفرسُه، فإذا غزا نقضه، وإذا رجع بناه).
هكذا المجاهد يمضي إلى الأمام صوب غايته الكبرى، لا يلتفت إلى
(1)"من أطايب الكلام"(1/ 26، 27).
(2)
"الثقات" لابن حبان (108).
الوراء، ولا يعبأ بالدنيا، ويقول غير وَجِل ولا آسف:
وأراني أسمو بسعيي ووعيي
…
عن جزاءٍ من معدن الأرض بخسِ
حسب نفسي من الجزاء شعوري
…
أنني في الإله أبذل نفسي
وقال ابن المبارك:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني
…
وبيع نفس بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله
…
ما ليس ييقى فلا والله ما اتزنا
* وعن موسى بن أبي إسحاق الأنصاري: (أن علي بن أسد كان قد قتل، وصنع أمورًا عظامًا، فمر ليلة بالكوفة، فإذا برجل يقرأ من جوف الليل: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله} الآية، فقال علي: "أعِد"، فأعاد، ثم قال: "أعد"، فأعاد، ثم قال: "أعد"، فأعاد، فعمد فاغتسل، ثم غسل ثيابه، فتعبد حتى عمشت عيناه من البكاء، وصارت ركبتاه كركبتي البعر، فغزا البحر، فلقي الروم، فقرنوا مراكبهم بمراكب العدو، قال علي: "لا أطلب الجنة بعد اليوم أبدًا"، فاقتحم بنفسه في سفائنهم، فما زال يضربهم، وينحازوا، ويضربهم، وينحازوا حتى مالوا في شقٍّ واحد، فانكفأت عليهم السفينة، فغرق وعليه درع الحديد)(1).
* ويُروى أن العلاء بن الحضرمي وقف على شاطئ المحيط الأطلسي، وخاض في مياهه بفرسه قائلًا:"والله أيها البحر لو أعلم أن وراءك أرضًا لخضتك، وفتحتها بإذن الله"(2).
(1)"مشارع الأشواق"(1/ 554، 555).
(2)
"من أطايب الكلام"(3/ 14).
* وفي عام 463 هـ سار ملك الروم "أرمانوس" إلى بلاد المسلمين بمائتي ألف مقاتل على أقل تقدير للمؤرخين، ويضم هذا الجيش الكثيف أخلاطًا من الروم، والفرنجة، والروس، والصرب، والأرمن، والبوشناق، واتَّخذ طريقه إلى العراق، وقد أقطع بطارقته الأرضَ حتى بغداد، وعيَّن له نائبًا على بغداد قبل أن يسير، واستوصى نائبه بالخليفة خيرًا، فقال له:"ارفق بهذا الشيخ فإنَّه صاحبنا"، وقد عزم "أرمانوس" أن يُبيد الإسلام وأهله، وإذا انتهى من العراق وخراسان مال على الشام وأهله ميلةً واحدةً، فأباد المسلمين فيها أيضًا.
خرج "أرمانوس" من "القسطنطينية" مُتَّجهًا نحو الشرق فوصل إلى "ملازكرد" في شرقي تركيا اليوم، على مقربةٍ من بُحيرة "وان"، وأتى الخبر إلى "ألب أرسلان" السلطان السلجوقي، وهو في "أذربيجان" وقد عاد من "حلب"، فلم يتمكَّن من جمع الجند لُبعده عن مقر حكمه، ولقرب العدو منه، فسار بمن معه، وهم خمسة عشر ألفًا، للقاء العدو مُتوكِّلًا على الله، وقال:"إنني أقاتل مُحتسبًا صابرًا، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإنَّ ابني ملكشاه ولي عهدي"، وجَدَّ في السير، وأرسل مقدمته أمامه، فالتقت عند مدينة "خلاط" بمقدمة الروس، وكان عددهم عشرة آلاف فهُزم الروس، بإذن الله، وأُسِر قائدهم.
واقترب الجمعان بعضهما من بعض، وأرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه الهدنة فقد خافه لكثرة من معه، إذ يُعادل جند ملك الروم خمسة عشر مِثلًا من المسلمين، غير أنَّ ملك الروم قد أخذته العزَّةُ بالإثم، فقال:"لا هدنة إلَّا في الريِّ" -طهران اليوم- ولم يدر أنه يَقْدُمُ
قومه إلى الهاوية، فتأثر السلطان من هذا الردِّ المتغطرس، فاستشار إمام جنده "أبا نصر محمد بن عبد الملك البخاريِّ"، فأجابه:"إنَّك تُقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال، في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنَّهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة"، وكان يومها يوم الأربعاء لخمسٍ بقين من ذي القعدة.
جاء يوم الجمعة، وحان وقت الزوال فصلَّى "أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاريُّ" بالناس، فبكى السلطان، وبكى الناس لبُكائه، ودعا ودَعَوْا معه بعد الصلاة، وقال لهم:"من أراد الانصراف فلينصرف فما ها هنا سلطان يأمر وينهى، وإنما جهاد ورغبة في لقاء الله"، ثم ألقى القوس والنشَّاب (1)، وأخذ السيف، ولبس البياض، وتحنَّط، وقال:"إن قُتِلت فهذا كفني"، وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما اقترب منهم ترجَّل، ومرغ وجهه في التراب، وبكى، وأكثر من الدعاء، وطلب النصر من الله، ثمَّ ركب، وحمل على الروم، وحمل المسلمون حتى وصلوا إلى وسط الروم وحجز الغبار بينهم، وما هي إلا جولة حتى أنزل الله نصره، وهزم الروم، ومنحوا المسلمين أكتافهم، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا حتى امتلأت الأرض بالجُثث، وقُدِّرَ عدد القتَلى بمائةٍ وخمسين ألفًا، أي أنَّ كلَّ مسلم قد قتل عشرةً من الروم، ووقع ملك الروم "أرمانوس" وبطارقته جميعًا أسرى بأيدي المسلمين، وحُمل أرمانوس إلى السلطان "ألب أرسلان"،
(1) النَّشَّاب: النَّبْل، واحدته: نُشَّابة.
فلمَّا وقف بين يديه ضربه بيده ثلاث مقارِع وقال: "لو كنتُ أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل؟ " قال: "كلَّ قبيح"، قال:"فما ظنُّك بي؟ " قال: إمَّا أن تقتل بعد أن تُشَهِّر بي في بلادك، وإمَّا أن تعفوَ، وتأخذَ الفداء، وتُعيدَني"، قال: "مما عزمتُ على غير العفو والفداء"، فافتدى نفسه بميلون ونصف من الدنانير، فقام بين يدي السلطان وسقاه شربةً من ماء، وقبَّل الأرض بين يديه، وقد ترك له السلطان عشرة آلاف دينارٍ ليتجهَّزَ بها، وأطلق معه جماعةً من البطارقة الأسرى (1).
* ومن علو همة السلطان المنصور أبي يوسف يعقوب ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن على المغربي، المراكشي، الظاهري: أنه كتب إليه "الأدفنش" يهدده، ويُعنفه، ويطلب منه بعض البلاد، ويقول:"وأنت تماطل نفسك، وتُقَدِّم رِجْلًا، وتؤخر أخرى، فما أدري الجبنُ بطَّأ بك، أو التكذيب بما وعدك نبيك؟ "، فلما قرأ الكتاب، تنمَّر، وغضب، ومزَّقه، وكتب على رقعة منه:{ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} الجواب ما ترى، لا ما تسمع:
ولا كُتْبَ إلا المشرفية عندنا
…
ولا رُسْل إلا للخميس العَرَمْرَمِ
ثم استنفر سائر الناس، وحشد، وجمع، حتى احتوى ديوان جيشه على مئة ألف، ومن المُطَّوِّعة مثلهم، وعَدَّى إلى الأندلس، فتمَّت
(1)"رسائل إلى الشباب" للأستاذ محمود شاكر ص (144 - 146)، وانظر "مشارع الأشواق"(1/ 551 - 553).
الملحمة الكبرى، ونزل النصر والظفر، فقيل: غنموا ستين ألف زرديَّة.
قال ابن الأثير: قُتِل من العدو مئة ألف وستة وأربعون ألفًا، ومن المسلمين عشرون ألفًا (1).
* وعن علو همة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله قال القاضي ابن شداد:
(كان رحمه الله عنده من أمر القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال
…
وهو كالوالدة الثكلى، يجول بنفسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه، وينادي:"يا لَلإِسلام" وعيناه تذرفان بالدموع) (2).
ونظر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله إلى أمواج البحر الهادرة، ثم التفت إلى القاضي ابن شداد وقال:
(أما أحكي لك شيئًا في نفسي؟
إنه متى يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسَّمت البلاد، ووصيت وودَّعت، وركبتُ هذا البحر إلى جزائره، وأتبعتهم -أي الصليبيين- فيها، حتى لا أبقَي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت) (3).
وبعد وقعة حطين باع بعض الفقراء أسيرًا بنعل، فقيل له في ذلك، فقال:"أردت هوانهم"، وحكى بعضهم أنه لقي بحوران شخصًا
(1)"سير أعلام النبلاء"(21/ 318، 319).
(2)
"صلاح الدين الأيوبي" د. عبد الله علوان ص (72).
(3)
"السابق" ص (145).
واحدًا ومعه طُنُب (1) خيمة، وفيه نيف وثلاثون أسيرًا، يجرهم وحده للخذلان الذي وقع عليهم.
وقال العماد الكاتب: (فمن شاهد القتلى يومئذ قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل)(2).
…
(1) الطُّنُب: حبل يُشَدُّ به الخِباء والسُّرادق ونحوُهما.
(2)
"مشارع الأشواق"(2/ 935).