الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَرُقُ بَينَ حُبِّ الرِّياسَةِ، وَحُبِّ الِإمَامَةِ فِي الدِّينِ
قال الله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ فأتمهنَّ قال إني جاعلُك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} .
قال بعض المفسرين: (الآية بمعزل عن إرادة السلطنة والملك، لأن الآية الكريمة تثبت أن "الِإمامة في الدين" يُحرمها الظالمون من ذريته قال: {لا ينال عهدي الظالمين}، وقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين، فظهر أن المراد من "العهد" إنما هو الِإمامة في الدين خاصة)(1).
وكان من دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام أيضًا: [{رب هب لي حكمًا} أي: حكمة، أو: حكمًا بين الناس بالحق، أو نبوة، لأن النبي ذو حكم وحكمة {وألحقني بالصالحين} أي: وفقني لأنتظم في سِلكهم، لأكون من الذين جعلتهم سببًا لصلاح العالم وكمال الخلق {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} أي: ذكرًا جميلًا بعدي، أُذكرَ به، ويُقتدى بي في الخير، كما قال تعالى:{وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين} (2).
(1) انظر: "محاسن التأويل" للقاسمي (2/ 246).
(2)
قال القرطبي رحمه الله في "الجامع لأحكام القرآن": (روى أشهب عن مالك قال: قال الله عز وجل: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} لا بأس أن يحب الرجل أن يُثنى عليه صالحًا، ويُرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى:{وألقيتُ عليك محبةً منِّي} ، وقال:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدًّا} أي: حبًّا في قلوب عباده، وثناءً حسنًا،، فنبَّه تعالى بقوله: {واجعل لي لسان=
وجُوِّز أن يكون معنى {لسان صدق} : واجعل لي صادقًا من ذريتي، يُجَدِّدُ أصل ديني، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"أنا دعوة أبي إبراهيم"] (1) رواه الإمام أحمد.
وصح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين"، وأخبر الله عز وجل أن من دعاء عباد الرحمن قولهم:{واجعلنا للمتقين إمامًا} ، قال البخاري رحمه الله في تفسيرِها:"أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا مَن بعدنا".
وقال القرطبي رحمه الله:
(أي: قدوة يقتدى بنا في الخير، فإن ذلك أكثر ثوابًا، وأحسن مآبًا، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيًا قدوة، وهذا هو قصد الداعي، وفي "الموطإ": "إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم"، فكان ابن عمر يقول في دعائه: "اللهم اجعلنا من أئمة المتقين" (2) اهـ.
وقال مكحول: "اجعلنا أئمة في التقوى، يقتدي بنا المتقون"، وقال القفال وغيره من المفسرين:(في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب) اهـ.
=صدق في الآخرين} على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل) اهـ. (13/ 113).
(1)
"محاسن التأويل" للقاسمي (13/ 4624).
(2)
"الجامع لأحكام القرآن"(13/ 83).
وكان القشيرى يقول: "الإمامة بالدعاء، لا بالدعوى" يعني: بتوفيق الله وتيسيره ومنته، لا بما يدعيه كل أحد لنفسه.
وقال إبراهيم النخعي: "لم يطلبوا الرياسة، بل أن يكونوا قدوة في الدين".
وقال ابن عباس: "اجعلنا أئمة هدى"، كما قال تعالى:{وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} .
وعن الحسن قال: "من استطاع منكم أن يكون إمامًا لأهله، إمامًا لحيِّه، إمامًا لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب".
وقد فصَّل الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى - الفرق بين حب الرياسة، وبين حب الإمامة في الدين، فقال رحمه الله:
(والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله: هو الفرق بين تعظيم أمر الله، والنصح له، وتعظيم النفس، والسعي في حظها، فإن الناصح لله المعظم له المحب له يحب أن يُطاع ربُّه فلا يعصى، وأن تكون كلمته هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وأن يكون العباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه، فقد ناصح الله في عبوديته، وناصح خلقه في الدعوة إلى الله، فهو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إمامًا يقتدى به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين، فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم جليلًا، وفي قلوبهم مهيبًا، وإليهم حبيبًا، وأن يكون فيهم مُطاعًا، لكي يأتموا به، ويقتفوا
أثر الرسول على يده؛ لم يضره ذلك، بل يحمد عليه، لأنه داع إلى الله يحب أن يطاع، ويُعبد، ويُوحَّد، فهو يحب ما يكون عونًا على ذلك موصِّلًا إليه، ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه، وأثنى عليهم في تنزيله، وأحسن جزاءهم يوم لقائه، فذكرهم بأحسن أعمالهم، وأوصافهم، ثم قال:{والذين يقولون ربَّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرةَ أعين واجعلنا للمتقين إمامًا} ، فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه، وأن يسر قلوبهم باتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته، فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة، فإنما سألوه ما يعينون به المتقين على مرضاته وطاعته، وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين التي أساسها الصبر واليقين، كما قال تعالى:{وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} ، وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين هو سؤال أن يهديهم، ويوفقهم، ويمنَّ عليهم بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة ظاهرًا وباطنًا التي لا تتم الإمامة إلا بها، وتأمل كيف نسبهم في هذه الآيات إلى اسمه الرحمن جل جلاله، ليعلم خلقه أن هذا إنما نالوه بفضل رحمته ومحض جوده ومنته، وتأمل كيف جعل جزاءهم في هذه السورة الغرف، وهي المنازل العالية في الجنة لما كانت الإمامة في الدين من الرتب العالية، بل من أعلى مرتبة يعطاها العبد في الدين، كان جزاؤه عليها الغرفة العالية في الجنة.
وهذا بخلاف طلب الرياسة، فإن طلابها يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جيع أغراضهم، مع كونهم عالين عليهم قاهرين
لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله (1) من البغي، والحسد، والطغيان، والحقد، والظلم، والفتنّة، والحمية للنفس، دون حق الله، وتعظيم من حقَّره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد (2)، والرؤساء في عمى عن هذا، فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حُشروا في صور الذر يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم، إهانةً لهم وتحقيرًا وتصغيرًا كما صغَّروا أمر الله وحقروا عباده) (3) اهـ.
…
(1) وغالبًا ما يقترن العلو في الأرض بالفساد، قال تعالى:{الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد} ، وقال سبحانه:{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوَّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين} ، وفرعون الذى كان عاليًا من المفسدين، رمى موسى وهارون كذبًا وزورًا أنهما ينافسانه في هذا العلو:{وتكون لكما الكبرياء في الأرض} .
(2)
فمن ثَمَّ قال أبو جعفر المحولي: "حرام على نفسٍ عليها رياسة الناس، أن تذوق حلاوة الآخرة" اهـ. من "صفة الصفوة"(2/ 390)، قال الشاعر:
هلاكُ الناسِ مُذْ كانوا
…
إلى أن تأتي الساعة
بحبِّ الأمر والنهي
…
وحبَّ السمع والطاعة
(3)
"الروح"(340 - 341).