الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) مُعَانَاتهم والسَّهَر فى طَلَبِ العِلمِ
قيل لبعض السلف:
"بم أدركت العلم؟ "، قال:"بالمصباح والجلوس إلى الصباح"، وقيل لآخر، فقال:"بالسفر، والسهر، والبكور في السحر"
…
قال الخطيب البغدادي: "وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل، وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك وكان جماعة منهم يبدأون من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح".
وبادر الليل بما تشتهي
…
فإنما الليل نهار الأريب
(وكان الشيخ أبو علي يكشف عن ظهره في الليلة الباردة يطرد به النوم).
وكان محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله لا ينام الليل، وكان عنده الماء يزيل نومه به، وكان يقول:"إن النوم من الحرارة فلا بد من دفعه بالماء البارد".
ذكر ابن اللباد أن محمد بن عبدوس "صلى الصبح بوضوء العتمة، ثلاثين سنة، خمس عشرة من دراسة، وخمس عشرة من عبادة".
يَهْوَى الدَّياجي إذا المغرورُ أغْفَلَها
…
كأنَّ شُهْبَ الدياجي أعينٌ نُجْلُ
وحكى الربيع عن فاطمة بنت الشافعي قالت: "أسرجت لأبي في ليلةّ سبعين مرة".
وقال الحافظ ابن كثير: "وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيُوقدُ السراجَ ويكتب الفائدة تمُرُّ بخاطره، ثم يُطفئُ سراجَه، ثم يقوم مرةً أخرى وأخرى، حتى كان يتعدَّدُ منه ذلك قريبًا من عشرين مرة".
وكان أسَدُ بن الفُرات، - قاضي القيروان وتلميذُ الإمام مالك ومُدون مذهبه، - وأحَدُ القادة الفاتحين، فتحَ صِقلِّيَهَّ واستُشهدَ بها سنة 213
كان قَد خرج من القيروان إلى الشرق سنة 172، فسمع "الموطأ" علىٍ مالك بالمدينة، ثم رحل إلى العراق، فسمِع من أصحاب أبي حنيفة وتفقَّه عليهم، وكان أكثَرُ اختلافه إلى محمد بن الحسن الشيباني، ولما حضَرَ عنده قال له:"إني غريب قليلُ النفقة، والسماعُ منك نَزْر، والطلبةُ عندك كثير كما فما حِيلتي؟ "،
فقال له محمد بن الحسن: "اسمع العراقِيِّين بالنهار، وقد جعلتُ لك الليلَ وحدَك، فتَبِيتُ عندي وأسمعك"، قال أسد:"وكنتُ أبيتُ عنده وينَزلُ إلي، ويجعلُ بين يديه قَدَحًا فيه الماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعَستُ، ملأ يَده ونفحَ وجهى بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه ودأبي، حتى أتيتُ على ما أريدُ من السماع عليه".
وكان محمد بن الحسن يتعهده بالنفقة حِين علم أن نفقته نَفِدَتْ، وأعطاه مَرةً ثمانين دينارًا حين رآه يشرب من الماء السبيل، وأمَدَّه بالنفقة حين أراد الانصراف من العراق.
وقال عبد الرحمن بن قاسم العُتَقي المصري أحد أصحاب مالك والليث وغيرهما:
(كنتُ آتي مالكًا غَلَسًا فأسأله عن مسألتين، ثلاثة، أربعة، وكنتُ أجد منه في ذلك الوقت انشراحَ صدر، فكنت آتي كلَّ سحر.
فتوسَّدتُ مرَّةً عتبتَه، فغلبتنى عينى فنِمت، وخرَجَ مالك إلى المسجد ولم أشعر به، فركضتني جارية سوداء له برجلها، وقالت لي:"إن مولاك قد خرج، ليس يَغفُلُ كما تَغفُلُ أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة، قلَّما صلى الصبح إلا بوضوء العتَمَة"، ظنَّت السوداء أنه مولاه من كثرةِ اختلافِه إليه.
قال ابن القاسم: (وأنختُ بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعتُ
فيها ولا اشتريتُ شيئًا، قال: فبينما أنا عنده، إذ أقبل حاجُّ مصر، فإذا شابٌّ متلثِّم دخل علينا، فسلَّم على مالك، فقال:"أفيكم ابنُ القاسم؟ فأُشيرَ إلَيَّ، فأقبل يُقَبِّلُ عينيَّ، ووجدتُ منه ريحًا طيبة، فإذا هي رائحةُ الوَلَد، وإذا هو ابني"، وكان ابنُ القاسم ترك أمه حاملًا به، وكانت ابنةَ عمه، وقد خيَّرها عند سفره لطول إقامته، فاختارت البقاء).
وقال أبو يعلى الموصلي:
اصبر على مضض الإدلاج بالسـ
…
ـحر وبالرواح على الحاجات والبكر
لا تعجزن ولا يضجرك مطلبها
…
فالنجح يتلف بين العجز والضجر
إني رأيت وفي الأيام تجربة
…
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه
…
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
حكى شيخ الإسلام النووي رحمه الله عنه شيخه الإمام الجليل أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي قال: سمعت الشيخ عبد العظيم رحمه الله يقول: "كتبت بيدي تسعين مجلدة، وكتبت سبعمائة جزء"، كل ذلك من علوم الحديث تصنيف غيره، وكتب ذلك من مصنفاته وغيرها أشياء كثيرة، قال النووي:(قال شيخنا: "ولم أرَ، ولم أسمع أحدًا أكثر اجتهادًا منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار"، قال: وجاورته في المدرسة -يعني بالقاهرة حماها الله- بيتي فوق بيته اثني عشر سنة، فلم أستيقظ في ليلة من الليالي، في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء السراج في بيته، وهو مشتغل بالعلم، وحتى كان في حال الأكل والكتاب والكتب عنده يشتغل فيها) اهـ.
فنورهم من جدهم وسهرهم، كالحافظ الضياء أبو محمد المقدسي:
"كأن النور يخرج من وجهه، ضعف بصره من كثرة الكتابة والبكاء".
وقال الزمخشري واصفًا تلذذ العلماء بإيقاظ ليلهم، وطول سهرهم:
سَهَري لتنقيح العلوم ألذُّ لي
…
من وَصْل غانيةٍ وطِيب عِناقِ
وتمايلي طربًا لحلِّ عويصة
…
أشهى وأحلى من مُدامة ساقي
وصَريرُ أقلامي على أوراقها
…
أحلى من الدُّوكاهِ (1) والعُشَّاقِ
وألذُّ من نَقْرِ الفتاة لدُفِّها
…
نقري لألقي الرَّمْلَ عن أوراقي
أأبِيتُ سهرانَ الدُّجَى وتبيتَه
…
نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي؟!
وقال النووي رحمه الله حاكيًا عن أوائل طلبه للعلم: "وبقيت سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض"، وحكى البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله عن نومه؛ فقال:"إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه" وقال البدر: "وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكانًا أجلس فيه".
وهذا الإمام الشيخ مؤرخ الِإسلام وحافظ الشام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير -رحمه الله تعالى-، أخذ كتاب الإمام أحمد مرتبًا من المحب الصامت، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، و"معجم الطبراني الكبير"، و"مسند البزار"، و"مسند أبي يعلى الموصلي"، وأجهد نفسه كثيرًا، وتعب فيه تعبًا عظيمًا، فجاء لا نظير له في العالم، وأكمله، إلا من بعض مسند أبي هريرة. فإنه مات قبل أن يكمله فإنه عوجل بكف بصره، يقول للذهبي: "لا زلت كتب فيه في الليل، والسراج يُنونص، حتى ذهب بصري معه،
(1) الدوكاء: الحجر الذي يُسحق به الطيب.
ولعل الله يقيض من يكمله".
وهاك طرفًا من سيرة الإمام الجليل "ابن دقيق العيد" -رحمه الله تّعالى- يبين عن علو همته وسهره في طلب العلم:
بعد أن قام بجولته العلمية في الفسطاط والقاهرة والإسكندرية ودمشق والحجاز، وأخذ العلم عن كبار أساتذة عصره، تعمق في المذهبين، مذهب مالك والشافعي، كما تعمق في علوم الحديث والتفسير، وعلم الكلام والنحو والأدب، وأتقن وهو شاب المذهبين اتقانًا عظيمًا، وبلغ به إلى درجة الإفتاء بهما.
قال الإسنوي: حقق المذهبين معًا ولذلك مدحه الشيخ ركن الدين بن القويع المالكي بقصيدة يقول من جملتها:
صبَا للعلم صَبًّا في صِباه
…
فأعلي بهمةِ الصَّبِّ الصبيّ
وأتقنَ والشبابُ لَهُ لباسٌ
…
أدلةَ مالكٍ والشافعي
كان الشيخ تقي الدين رحمه الله منقطعًا للعلم والعبادة، فكان لا ينام الليل إلا قليلاً، فكانت أوقاته معمورة بالدرس والمطالعة والتحصيل، أو الِإملاء والتأليف، ورواية الحديث، فإن أراح نفسه من بعض ذلك العناء فلا يُرَى إلا قائمًا يصلي في المحراب، أو جالسًا يتلو كلام الله، أو ماشيًا يتفكر في خلق الله، متدبرًا صنعه، مستدلاً بذلك على قدرة الله ووحدانيته، فهو منصرف بجسمه وفكره، سوادَ ليله وبياضَ نهاره إلى البحث والتدقيق، والاستنباط والتحقيق، أو الصلاة والقيام، وتقديس الله الملك العلام، وأصدق مرآة لحياته قوله:
الجسمُ يذيبُه حقوقُ الخدمهْ
…
والقلبُ عذابُهُ علو الهمهْ
والعمرُ بذاك ينقضي في تعبٍ
…
والراحةُ ماتت فعليها الرحمهْ
فهو قد أضنى فؤاده علو همته في درك العلا، ونيل المرام، فشغل فكره باستنباط الأحكام الشرعية، وخدمة الدين والأمة، والتزود بالتقوى.
قال السبكي: "أما دأبه في الليل علمًا وعبادة فأمر عجاب، ربما استوعب الليل فطالع فيها المجلد أو المجلدين، وربما تلا آية واحدة فكررها إلى مطلع الفجر".
وقال الآدفوي: (حكى لي الشيخ زين الدين عمر الدمشقي المعروف بابن الكناني -رحمه الله تعالى-: قال: دخلت عليه بكرة يوم فناولني مجلدة، وقال:"هذه طالعتها في هذه الليلة التي مضت"، وقال الآدفوي أيضًا: له قدرة على الطالعة، رأيتَ خزانة المدرسة النجيبة بقوص فيها كتب من جملتها "عيون الأدلة" لابن القصار في نحو ثلاثين مجلدًا، وعليها علامات له، وكذلك رأيت كتب المدرسة السابقية، رأيت على "السنن الكبرى" للبيهقي له فيها في كل مجلدة علامة، وفيها "تاريخ الخطيب" كذلك، "ومعجم الطبراني" الكبير، والأوسط، وقال: وأخبرني شيخنا الفقيه سراج الدين الدنوري أنه لما ظهر "الشرح الكبير" للرافعي اشتراه بألف درهم، وصار يصلي الفرائض فقط، واشتغل بالمطالعة إلى أن أنهاه، وذُكر عنده هو والغزالى في الفقه، فقال:"الرافعي في السماء"، ويقال إنه طالع كتب الفاضلية عن آخرها، وقال:"ما خرجت من باب من أبواب الفقه واحتجت أن أعود إليه".
* ومن سيرة العلماء المعاصرين ننتقي أنموذج العلامة القرآني "محمد الأمين الشنقيطي" رحمه الله، قال ابنه عبد الله: "حدثني أبي أنه
كان يقرأ في البلاد زمان طلبه العلم في "مختصر خليل" في أول كتاب النكاح، حتى وصل إلى قول خليل:"في عشرة ندبه ولو ببيع سلطان لفلس"؛ قال لي: أقرأنيها شيخي بعد العصر، وكانت دراسته جرديَّة، بحيث يقرأ كل ما قيل في الباب؛ قال: فأخذت شراح خليل وحواشيه على هذه المسألة، وجلست أراجعها حتى جاء الليل، ثم أوقدت النار أطالع في ضوئها إلى الصبح، ولم أنم، ولم أصلِّ غير الفريضة، فوجدت أن للشراح في قول خليل قولين، ولو كنت أبحث في الكتاب والسنة لأتيت للأمة بالعجب".
ولي شغل بأبكار عذارى
…
كان وجوهها ضوء الصباح
أبيتُ مفكرًا فيها فتضحي
…
لفَهْم الفَدْمِ (1) خافضة الجناح
قال الشيخ عطية سالم في روايته هذه القصة ما نصه:
(نعم؛ إنه كان يبيت في طلب العلم مفكرًا وباحثًا، حتى يذلل الصعاب، وقد طابق القول العمل؛ حدثني رحمه الله قال: "جئت للشيخ في قراءتي عليه، فشرح لي كما كان يشرح، ولكنه لم يشف ما في نفسى على ما تعودت، ولم يرو لي ظمئي، وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس وإيضاح يعض المشكل، وكان الوقت ظهرًا، فأخذت الكتب والمراجع، فطالعت حتى العصر، فلم أفرغ من حاجتي، فعاودت حتى المغرب، فلم أنته أيضًا، فأوقد لي خادمي أعوادًا من الحطب أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب، وواصلت المطالعة، وأتناول الشاهي الأخضر كلما مللت أو كسلت، والخادم بجواري يوقد الضوء، حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي، لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام، وإلى أن ارتفع النهار، وقد فرغت من
(1) الفَدْم: رجل فَدْم: ثقيل الفهم عَيِيٌّ.
درسي، وزال عني لبسي، ووجدت هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح والفهم، فتركت المطالعة ونمت، وأوصيت خادمي أن لا يوقظني لدرسي في ذلك اليوم؛ اكتفاءً بما حصلت عليه، واستراحة من عناء سهر البارحة؛ فقد بات مفكرًا فيها، فأضحت لفهم الفدم خافضة الجناح) اهـ.
* وقال العلامة أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي رحمه الله واصفًا حاله أثناء مدارسته تفسير القرآن العظيم قبل أن يبلغ سن العشرين: (وإني ولله تعالى المنة مذ ميطت عني التمائم، ونيطت على رأسي العمائم، لم أزل متطلبًا لاستكشاف سره المكتوم، مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم، طالما فرقت نومي لجمع شوارده، وفارقت قومي لوصال خرائده، فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر، وأطالع -إن أعوز الشمع يومًا- على نور القمر، في كثير من ليالي الشهر، وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو، ويرقلون في ميادين الزهو، ويؤثرون مسرات الأشباح، على لذات الأرواح، ويهبون نفائس الأوقات، لنهب خسائس الشهوات، وأنا مع حداثة سني، وضيق عَطَني، لا تغرني حالهم، ولا تغيرني أفعالهم) اهـ.
***