الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عالي الهمة عصامي، لَا عِظَامي
العصامي: من ساد بشرف نفسه.
ويقابله "العظامي"، وهو من ساد بشرف آبائه، و "العصامي" منسوب إلى "عصام بن شهير" حاجب "النعمان بن المنذر" الذي قال له "النابغة الذبياني" حين حجبه عن عيادة "النعمان" من قصيدة له:
فإني لا ألومُك في دُخُول
…
ولكن ما وراءَكَ يا عصامُ؟
وهو الذي قال فيه النابغة:
نفس "عصام" سَوُّدَتْ عصامَا
وعلَّمته الكًرُّ والِإقداما
فصيَّرَته ملِكًا هُمَامَا
وقوله: "نفس عصام سوَّدت عصامًا" صار مثلًا يُضرب في نباهة الرجل من غير قديم.
و"العصامي" هو الذي تسميه العرب: "الخارجَّي"، وهو من خرج بنفسه من غير أولية كانت له، قال كثير:
أبا مَرْوانَ لستَ بخارجيٍّ
…
وليسَ قديمُ مَجْدِكَ بانتحالِ
فكبير الهمة عصامي يبني مجده بشرف نفسه، لا اتكالاً على حسبه ونسبه، ولا يضيره ألا يكون ذا نسب، فحسبه همته شرفًا ونسبًا،
قال عامر بن الطفيل العامري (1):
وإني وإن كنتُ ابنَ سَيِّد عامِرٍ
…
وفارسِها المشهورِ في كل موكبِ
فما سوَّدتني عامِرٌ عن وارثة
…
أبى الله أن أسمو بجدٍّ ولا أب
ولكنني أحمي حِماها وأتَقِي
…
أذاها وأرمي مَنْ رماها بمنكِبيَ
وقال "الأبيوردي" مبينًا أنه لم يقنع بنسب آبائه وأجداده، وإنما حمع إلى مجدهم الموروث مجدًا اكتسبه بعلو همته (2):
فشيدتُ مجدًا رَسَا أصلُه
…
أمُتُّ إليه بأمٍّ وأب
وقال المتنبي:
ولست أبالي بعد إدراكي العُلا
…
أكان تُراثًا ما تناولتُ أم كَسْبا
وقال معن بن أوس:
ورثنا المجد عن آباء صدق
…
أسأنا في ديارهم الصنيعا
(1)"العقد الفريد"(2/ 149)، وإذا اجتمع النسب الشريف مع العمل الصالح؛ فنِعِمَّا هو، وقد ميَّز الشافعية الإمام الشافعي رحمه الله بكونه قرشيًّا، وانظر:"الكافية" في الجدل، لإمام الحرمين.
(2)
وهذا أكمل ما يكون: أن ينضم المجد المكتسب إلى المجد الموروث، وأن تنضم "العصامية" إلى "العظامية"، [وُصِف عند الحجاج رجلٌ بالجهل، وكانت له إليه حاجة، فقال في نفسه: "لأختبرنه"، ثم قال له حين دخل عليه: "أعصاميًّا أنت أم عِظاميًّا؟ " -يريد: أشرُفتَ أنت بنفسك، أم تفتخر بآبائك الذين صاروا عظامًا؟ - فقال الرجل: "أنا عصامي، وعظامي" فقال الحجاج: "هذا أفضل الناس"، وقضى حاجته، وزاده، ومكث عنده، ثم فاتشه، فوجده أجهل الناس، فقال له: "تصدقني"، وإلا قتلتك"، قال له: "قل ما بدا لك، وأصدقك"، قال: "كيف أجبتني بما أجبتَ لما سألتك؟ "، قال له: "والله لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما، فأخطىء، فقلت: أقول كليهما؛ فإن ضرَّني أحدهما، نفعنى الآخر"، وكان الحجاج ظَنَّ أنه أراد: "أفتخر بنفسى لفضلي، وبآبائى لشرفهم"، فقال الحجاج عند ذلك: "المقادير تُصَيِّرُ العَيَّ خطبًيا"، فذهبت مثلًا] اهـ. من "مجمع الأمثال" للميداني (3/ 369 - 370).
إذا المجد القديم توارثته
…
بناةُ السوء أوشك أن يضيعا
وقال عبد الله بن معاوية:
لسنا وإن كرُمت أوائلنا
…
يومًا على الأحساب نتكلُ
نبني كما كانت أوائلنا
…
تبني ونفعل مثلَ ما فعلوا
وكبير الهمة لا يضيره ألا يكون ذا نسب، بل لا يضيره أن يمت بآصرة اللحم والدم إلى قوم لئام غير كرام، إذا كان بعلو همته ينتسب إلى الكرام:
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كل كرم دونه لؤم، فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه كرم، فالكرم أولى به".
تريد: أن أولى الأمور بالِإنسان خصالُ نَفسه، وإن كان كريمًا وآباؤه لئام، لم يضره ذلك، وإن كان لئيمًا وآباؤه كرام، لم ينفعه ذلك.
واهًا لحُرٍّ واسعٍ صدرُه
…
وهمُّهُ: ما سرَّ أهلَ الصلاحْ
سَوَدَهُ إصلاحُه سِرَّه
…
وردعُه أهواءَه، والطِّماحْ (1)
وتكلم رجلٌ عند "عبد الملك بن مروان" بكلام ذهب فيه كُلَّ مذهب، فأعجب عبدَ الملك ما سمع من كلامه، فقال له:"ابنُ مَنْ أنت؟ " قال: "أنا ابنُ نفسى يا أمير المؤمنين، التي بها توصلتُ إليك"، قال:"صدقت"، فأخذ الشاعر هذا المعنى، فقال:
مالَي عقلي، وهِمتي حَسَبي
…
ما أنا مَوْلى ولا أنا عربى
إذا انتمى مُنتمٍ إلى أحد
…
فإنني منتم إلى أدبي
وكبير الهمة لا يُلْفَى "عظاميًّا" مفتخرًا بالآباء والأجداد الذين صاروا عظامًا ورفاتًا:
(1) طَمَحَ الماءُ طُموحًا، وطِماحًا: ارتفع، ويقال: طمح ببصره: رفعه وحَدَّق، وطمح إلى الأمر: تطلَّع، واستشرف، وطمح في الطلب: أبعد.
ما الفخر بالعظم الرميم وإنما
…
فخار من يبغي الفخار بنفسه
آخر:
وَدَعُوا التفاخر بالتراث وإن علا
…
فالمجُد كسبٌ والزمانُ عصامُ
المتنبي:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
…
وبنفسي فخرت لا بجُدودي
آخر:
كم سِّيدٍ بطل آباؤه نُجبٌ
…
كانوا الرءوس فأمسى بعدهم ذَنَبا
ومُقْرفٍ خامِل الآباء ذي أدبٍ
…
نال المعاليَ بالآداب والرُّتَبا
المتنبي:
وآنف من أخي لأبي وأمي
…
إذا ما لم أجدْه من الكرام
ولستُ بقانعٍ من كل فضل
…
بأن أُعزَى إلى جَدٍّ همام
آخر:
كن ابنَ من شئتَ واكتسِبْ أدَبًا
…
يغنيكَ محمودُهُ عن النسبِ
إن الفتى من يقول: ها أنذا
…
ليس الفتى من يقول: كان أبي
وقد تواردت نصوص الشريعة المطهرة على التنفير من التفاخر بالأحساب، إذا كان على وجه الاستكبار أو الاحتقار، وبذلك نطقت الأخبار، قال الله تعالى:{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} .
[وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب، حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ، وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة؛ لاتحاد ما خُلِقا منه، ولا من جهة الفاعل؛ لأنه هو الله تعالى الواحد، فليس للنسب شرف يُعَوَّل عليه، ويكون مدارا للتراب عند الله عز وجل، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى، وبها تكمل النفس، وتتفاضل الأشخاص.
وقد رتَّب تعالى الجزاء على الأعمال لا على الأنساب، كما قال عز وجل:{فإذا نفِخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} ، وقال صلى الله عليه وسلم:" .. ومن بطَّأ به عمله؛ لم يُسرع به نسبه"(1)، معناه: أن العمل هو الذي يبلُغ بالعبد درجات الآخرة، قال ابن مسعود رضي الله عنه:"يأمر الله بالصراط، فَيُضرب على جهنم، فيمر الناس على قدر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمرِّ الريح، ثم كمر الطير، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، حتى يمرآخرهم يتلبَّط على بطنه، فيقول: "يا رب لم بطَّأت بي؟ " فيقول: "إني لم أبطىء بك، إنما بطَّأ بك عملك" (2)[حسن]، وها هو صلى الله عليه وسلم يحرض أهل بيته وعشيرته الأقربين على لزوم التقوى، ويحذرهم من الاتكال على نسبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف أنساب العالمين- فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين، كي يجتمع لهم الشرفان: شرف التقوى، وشرف النسب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباسُ بنَ عبد المطلب! لا أغني عنكَ من الله شيئًا، يا صفيةُ عمةَ رسول الله! لا أغني عنكِ من الله شيئًا، يا فاطمةُ بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنكِ من الله شيئًا" متفق عليه،
(1) عَجُز حديث رواه مسلم وغيره.
(2)
وقد ورد مرفوعًا وموقوفا، انظر:"الدر المنثور"(4/ 281)، "شرح الطحاوية"(2/ 606) ط. الرسالة.
وفي رواية خارج "الصحيحين": (إن أوليائي منكم المتقون، لا يأتي الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم، فتقولون: "يا محمد"، فأقول: "قد بلَّغت")، وفي "الصحيحين" عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول:"إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين" يشير إلى أن وَلايته لا تُنال بالنسب، وإن قرُب، وإنما تُنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيمانًا وعملًا، فهو أعظم وَلاية له، سواءكان له منه نسبٌ قريب، أو لم يكن.
فالتقوى التقوى، فالاتكال على النسب، وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل، ويكفي في هذا قوله تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه:{يا نوحُ إنه ليس من أهلك إنه عمل غيرُ صالح} :
كانت مودةُ سلمان له نسبًا
…
ولم يكن بين نوحٍ وابنهِ رحِمُ
وقال بعضهم:
عليك بتقوى الله في كل حالة
…
ولا تترك التقوى اتكالًا على النسب
فقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ
…
وقد وضع الكفرُ النسِيبَ أبا لهب
قيل لشريح: "ممن أنت؟ ".
قال: "ممن أنعم الله عليه بالإسلام، وعِدادي في كِندة".
وقال ثابت البُناني: قال أبو عبيدة:
"يا أيها الناس! إني امرؤ من قريش، وما منكم من أحمرَ، ولا أسودَ يَفْضُلني بتقوى، إلا وددت أني في مِسْلاخه".
وروي أنه قيل لسلمان الفارسي: "انتسب يا سلمان"، قال -رضي الله
عنه-: "ما أعرف لي أبًا في الِإسلام، ولكني سلمان ابن الِإسلام"(1).
ولله دَرُّ القائل:
دَعِيُّ القوم ينصر مدَّعيه
…
لِيُلْحِقَهُ بذي الحسبِ الصميمِ
أبي الِإسلامُ لا أبَ لي سواه
…
إذا افتخروا بقيس أو تميم
وبينما يقول خسيس الهمة المفتون بعشق امرأة:
فلا تَدْعُني إلا بيا عبدَها
…
فإنه أشرف أسمائي
رأينا كبير الهمة يتشرف بنسبته إلى الله عز وجل:
فلا تدعني إلا بيا عبده
…
فإنه أشرف أسمائي
بل قال، وما أحسن ما قال!
ومما زادني تيهًا وشرفًا
…
وكدت بأخمصي أطأُ الثريَّا
دخولي تحت قولك: "يا عبادي"
…
وأن صيَّرت "أحمدَ" لي نبيَّا
آخر:
كفى بك عِزًّا أنك له عبدٌ
…
وكفى بك فخرًا أنه لك رَبُّ
آخر:
إذا عَزَّ بغير الله
…
يومًا معشرٌ هانوا
عن أبي هريرة: رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية (2) وفخرَها (3) بالآباء، الناسُ بنو آدم، وآدم من تراب: مؤمن تقي، وفاجرٌ شقي، لينتهينَّ أقوام يفتخرون
(1) انظر "سير أعلام النبلاء"(1/ 544).
(2)
الكِبر والفخر والنخوة، بضم العين من التعبية، أي: المتكبر ذو تكلف وتعبية،
بخلاف من يسترسل على سجيته.
(3)
تفاخرها.
برجال (1) إنما هم فَحْمٌ مِن فحم جهنمَ، أو لَيكُوننَّ أهونَ على الله من الجُعْلانِ (2) التي تدفع النتن (3) بأنفها" (4).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، وقد التفت نحو المدينة:"إن أهل بيتي هؤلاء يَرَوْنَ أنهم أوْلى الناس بي، وإن أولى الناس بي المتقون، مَن كانوا، وحيث كانوا" الحديث (5).
فالحزم اللائق بالنسيب: أن يتقي الله تعالى، ويكتسب من الخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته، ليكون قد زاد على الزُّبْدِ شَهدًا، وعلَّق على جِيْدِ الحسناء عِقْدًا، ولا يكتفي: لمجرد الانتساب إلى جدودٍ سَلَفُوا، ليقال له:"نِعْمَ الجدودُ، ولكن: بئس ما خلفوا" وقد ابتلي كثير من الناس بذلك، فترى أحدهم يفتخر بعظم بالٍ وهو عري -كالإبرة- من كل كمال، ويقول:"كان أبي كذا وكذا"، وذاك وصف أبيه، فافتخاره به نحو افتخار الكوسج (6) بلحية أخيه، ومن هنا قيل:
(1) أي: بآبائهم وأجدادهم الذين ماتوا على الكفر، ومعاندة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فعذبهم الله بذلك، وجعلهم لهبًا وحطبًا ووقودًا لجهنم.
(2)
الجعلان جمع جُعَل: دويبة أرضية.
(3)
وفي لفظ الترمذي: (أو ليكونن أهون على الله من الجُعَل الذي يُدَهْدِهُ) - أي: يدحرج (الخُرْءَ بأنفه).
(4)
رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه، والبيهقى، واللفظ له، وحسنه المنذري
في "الترغيب"(3/ 614).
(5)
قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير"، وصححه ابن
حبان (الإحسان: رقم 647).
(6)
الكوسج: الذي لا شعر على عارضيه.
وأعجب شيء إلى عاقل
…
أناسٌ عن الفضل مستأخِرهْ
إذا سئلوا: "من علا؟ "
…
أشاروا إلى عظامٍ ناخِره
وقال بعضهم:
أقول لمن غدا في كل وقت
…
يباهينا بأسلافٍ عظام
أتقنع بالعظام وأنت تدري
…
بأن الكلب يقنع بالعظام
وما ألطفَ قول الشاعر:
لم يُجْدِك الحسبُ العالي بغير تقى
…
مولاك شيئًا فحاذِرْ واتق الله
وابغ الكرامة في نيل الفخار به
…
فأكْرَمُ الناس عند الله أتقاها
وما أكثر هذا الافتخار البارد بين خسيسي الهمة الذين ارتكبوا كل رذيلة، وتعروا عن كل فضيلة، ومع ذلك استطالوا بآبائهم على فضلاء البريهّ، واحتقروا أناسًا فاقوهم حسبًا ونسبًا، وشرفوهم أمًّا وأبًا، وهذا هو الضلال البعيد، والحمق الذي ليس عليه مزيد.
ومع شرف الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ينبغي لمن رزقه ألا يجعله عاطلًا عن التقوى، ويدنسه بمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة، وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة، وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، وقد يبلغ اتباعُ الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحيى أن يُنْسَبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما ينكر نسبه، وعليه قيل لشريفٍ سيىء الأفعال:
قال النبي مقال صدق
…
يحلو لدى الأسماع والأفواهِ
إن فاتكم أصل امرىٍء ففعاله
…
تنبيكمُ عن أصله المتناهي (1)
(1) لم يبين الآلوسي رحمه الله الحديث الذي أشار إليه الشاعر في هذا الموضع، =
وأراك تُسْفِرُ عن فعال لم تزل
…
بين الأنام عديمةَ الأشباهِ
وتقول: "إني من سلالة أحمد"
…
أفأنت تَصدُقُ أم رسولُ اللهِ؟
ولا يلومَنَّ الشريفُ إلا نفسَه إذا عومل حينئذٍ بما يكره، وقُدِّمَ عليه من هو دُونه في النسب بمراحل.
كما يُحكى أن بعض الشرفاء في بلاد "خراسان" كان أقربَ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه كان فاسقًا ظاهر الفسق، وكان هناك مولًى أسود تقدم في العلم والعمل، فأكبَّ الناسُ على تعظيمه.
فاتفق أن خرج يومًا من بيته يقصد المسجد، فاتبعه خلق كثير يتبركون به (1)، فلقيه الشريف سكران، فكان الناس يطردونه عن طريقه، فغلبهم، وتعلَّق بأطراف الشيخ، وقال:"يا أسودَ الحوافرِ والمشافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابنُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أُذَلُّ، وأنت تُجَلُّ، وأهانُ، وأنت تُعان؟! فهمَ الناس بضربه، فقال الشيخ: "لا تفعلوا، هذا محتمل منه لجِدِّه، ومعفوُّ عنه، وإن خرج عن حَدِّه، ولكن أيها الشريف:
بَيَّضْتُ باطني، وسوَّدتَ باطنك، فَرُؤي بياضُ قلبي فوقَ سوادِ وجهي، فَحَسُنْتُ، وسوادُ قلبِكَ فوقَ بياضِ وجهك، فَقَبُحتَ،
= ولم أهتد إليه.
(1)
يُحمل هذا على التبرك المشروع بالصالحين، وهو يكون بالانتفاع بعلمهم ووعظهم، ولحظهم للاقتداء بهم، وكذا بالانتفاع بدعائهم، ومخالطتهم في مجالس الذكر حيث كانت سيما في المساجد، أما التبرك بذواتهم فغير مشروع، وانظر تحقيق ذلك في "الاعتصام" للشاطبي (2/ 8 - 10)، وكذا "التبرك أنواعه وأحكامه" للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع.
وأخذتُ سيرةَ أبيك، وأخذتَ سيرةَ أبي، فرآني الخلقُ في سيرةِ أبيك، ورَأوْكَ في سيرةِ أبي، فظنوني ابنَ أبيك، وظنوكَ ابنَ أبي، فعملوا معك ما يُعمَلُ مع أبى، وعملوا معي ما يُعمل مع أبيك".
ولهذا ونحوه قيل:
ولا ينفع الأصل من هاشم
…
إذا كانت النفس من باهله (1)
أي: لا ينفع في الامتياز على ذوي الخصال السنية، إذا كانت النفس في حَدِّ ذاتها باهلية ردية، ومن الكمالات عرية] (2).
البحتري:
ولست أعتدُّ للفتى حسبًا
…
حتى يُرَى في فِعالِه حَسَبُهْ
…
(1) باهلة: اسم امرأة من همدان نُسب ولدها إليها، فقيل: بنو باهلة، واشتهر أنهم موصوفون بالخساسة، قيل: كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية، وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها، ويأخذون دسوماتها، فاستنقصتهم العرب جدًّا، حتى قيل لعربي:"أيسرك أن تكون من أهل الجنة، وأنت باهلي؟! " قال: "بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني من باهلة" كذا في "روضة العقلاء" ص (249)، وقال الآلوسي:(وليس كل باهلي كما يقولون، بل فيهم الأجواد، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري في حق ْالكل) اهـ. من "روح المعاني"(26/ 166)، وانظر:"الكامل" للمبرد (2/ 24 - 29).
(2)
ما بين المعقوفين بطوله من "روح المعاني"(26/ 165 - 167) بتصرف وزيادات.