الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) عُلُوّ هِمَّةَ أبيِ ذرٍّ رضي الله عنه فِي البَحْثِ عَن الحَقِّ
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
لما بلغَ أبا ذر مبعثُ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، قال لأخيه - أنَيس-: اركب إلى هذا الوادي، فَاعْلَم لي عِلمَ هذا الرجل، الذي يَزعُمُ أنه يأتيه الخبرُ من السماء، فاسْمَعْ مِن قولِه ثم ائتني.
فانطلق -أُنيَس- حتى قدم مكة، وسَمِعَ من قولِه، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال:"رأيتُه يأمر بمكارم الأخلاق، و -سمعتُه يقول- كلامًا ما هو بالشعر"، فقال أبو ذر:"ما شَفيتَني فيما أردتُ! ".
فتزوَّدَ -أبو ذر- وحمَل شَنّةً (1) له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يَسأل عنه، حتى أدركه الليلُ فاضطجع، فرآه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه فعرف أنه غريب، ودعاه إلى منزله -فتَبِعَه، فلم يَسأل واحد منهما صاحبَه عن شيء حتى أصبح.
ثم احتَمَل قِرْبَتَه وزاده إلى المسجد، وظَلَّ ذلك اليوم ولا يَرَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمَرَّ به علي فقال:"ما آنَ للرجل أن يَعلمَ منزلَه؟ "، فأقامه فذهب به معه، ولا يَسأل واحد
(1) الشنة: القربة الخَلَق الصغيرة يكون الماء فيها أبردَ من غيرها.
منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يومُ الثالث فعَلَ مثل ذلك، فأقامه عليٌّ معه، ثم قال له:"ألا تُحدثني ما الذي أقدمك؟ "، قال:"إنْ أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشِدَنِّي فعلتُ"، ففعل، فأخبره، فقال:"فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحتَ فاتّبِعني، فإن رأيتُ شيئًا أخاف عليكَ قمتُ كأني أريق الماء، فإن مضيتُ فاتبَّعِني حتى تَدخُلَ مَدْخَلي"، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قولهِ وأسلم مكانه، الحديث (1).
* وهناك رواية أخرى في حادثةِ إسلام أبي ذر، رواها عنه ابنُ أخيه عبد الله بن الصامت الغفاري، وقد رواها مسلم أيضًا من طريق عبد الله بن الصامت الغفاري ابن أخي أبي ذر، وملخَّصُها: قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غِفار، وكانوا يُحِلون الشهر الحرام، فخرجتُ أنا وأخي أنَيْس وٍ أمُّنا، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرةِ مكة.
فقال أنَيس: إنَّ لي حاجة بمكة فاكفِني، فانطلق أنيَس حتى أتى مكة فراثَ عليَّ -أي أبطأ-، ثم جاء، فقلتُ:"ما صنعتَ؟ "، قال:"لقيتُ رجلًا بمكة يزعم أنَّ الله أرسله"، قلت:"فما يقولُ الناسُ؟ "، قال:"يقولون: شاعر كاهن ساحر"، -وكان أنيَس أحَدَ الشعراء- قال أنَيس:"لقد سمعتُ قولَ الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وَضَعْتُ قوله على أقراءِ الشعر -أي طرقِه- فما يلتئم على لسان أحد أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون".
قال أبو ذر: "قلت: فأكفِني حتى أذهب فأنظر"، قال: فأتيت مكة، فتضَعّفْتُ رجلاً منهم" -يعني نظرتُ إلى أضعفهم فسألته،
(1) متفّق عليه، واللفظ المسلم.
لأن الضعيف يكون مأمون الغائلة غالبًا -فقلتُ له: "أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ " فأشار إليَّ، فقال:"الصابئ! "، فمالَ عليَّ أهلُ الوادي بكل مَدَرة وعَظْم، حتى خررتُ مغشيًّا علي، فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأني نُصُبٌ أحمر -يعني من كثرة الدماء التي سالت منه، صار كالنُّصُب وهو الحَجَرُ الذي كان أهلُ الجاهلية ينصبونه ويذبحون عنده فيَحمَرُّ بالدم .... قال: فأتيتُ زمزم فغَسلتُ عني الدماء، وشَربتُ من مائها، ولقد لبَثتُ يا ابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماءُ زمزم، فسَمِنتُ حتى تكسّرَت عُكَنُ بطني، وما وجدتُ كل كبدى سُخْفَةَ جُوع -يعني أثَرَ الجوع وضَعْفَه-.
قال: فبينا أهلُ مكة في ليلةٍ قمراء إذ ضُرِب على أسمختهم -أي آذانهم بالنوم - فما يطوف بالبيت أحد، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، حتى استَلَم الحَجَر، وطاف بالبيت هو وصاحبُه، ثم صلّى، فلما قضَى صلاته قلتُ:"السلامُ عليك يا رسول الله"، فقال:"وعليك ورحمة الله".
ثم قال: "مَنْ أنت؟ " قلت: "من غِفار"، قال: "فأهوى بيده، فوضَعَ أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كرِهَ أن انتميتُ إلى غِفار، فذهبتُ آخُذُ بيده، فَقَدَعَني -أي كَفّني- صاحبُه وكان أعلمَ به مني، -يعني فعَلَ هذا لدفع السوء عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم-.
ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه ثم قال: "متى كنتَ ها هنا؟ " قال: قلتُ: "قد كنتُ ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم"، قال: "فمن