الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْل الخامِسْ
أثر عُلُوّ الِهمَّةِ في إصْلَاحَ الفَرْدِ والأُمَّةِ
قد لاح فيما مضى كيف أن الهمة العالية هي سُلَّم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب البر، لا سيما العلم والجهاد اللذان هما سبب ارتفاع الدرجات، فمن تحلَّى بها لان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معاني الإيمان، إذ إن "همم الرجال تزيل الجبال":
همم الأحرار تحيي الرِّمَما
…
نفخة الأبرار تحيي الأُمُمَا
إن أصحاب الهمة العالية فحسب هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وهم الذين يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم (1)، ومن ثم فهم القلة التي تنقذ
(1) وهؤلاء بخلاف من قال فيهم المودودي رحمه الله:
(من دواعي الأسف أن الذين عندهم نصيب من القوى الفكرية والقلبية من النوع الأعلى من أفراد أمتنا هم مولعون بإحراز الترقيات الدنيوية، جاهدون في سبيلها ليل نهار، ولا يقبلون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتفعة، وما بلغوا من تعلقهم بالدعوة إلى الاستعداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم، بل ولا بمجرد إمكانيات منافعهم، فإذا كنتم ترجون -معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية: أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من الجنيهات كل يوم في سبيل غايتهم الباطلة، فما ذلك إلا حماقة) اهـ. من "تذكرة دعاة الإسلام" ص (56).
الموقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة "الانتشال السريع" من وحل الوهن، ووهدة الإحباط.
- قال الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى مبينًا أثر "علو الهمة":
(يسمو هذا الخُلُقُ بصاحبه، فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور؛ فهو الذي ينهض بالضعيف يُضطهد، أو يُزدرى، فإذا هو عزيز كريم، وهو الذي يرفع القوم من سقوط، ويُبْدِلُهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية.
هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها،
…
أما صغير الهمة فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة، فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حِطَّة، ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم .. ) اهـ (1).
وفي جُنْحِ هذا الظلام الحالك والليل الأليل تكاد تفتقد أمتنا البدر المنير، وتترقب مجيء "رجل الساعة"، والمصلح المنتظر، ويحدوها الأمل في طلوع فجر قريب يؤذن ببعث المجدِّد المرتقب الذي بشر به الصادق المصدوق في قوله:"إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدد لها دينها"(2).
(1)"من رسائل الإصلاح"(2/ 88).
(2)
رواه أبو داود، والحاكم، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (601)، وقد نشر في الأعداد الأولى من مجلة "البيان" الغراء بحث ماتع حول معاني هذا الحديث بعنوان "التجديد في الإسلام"، فليراجع.
وخَلُّوا ولاة السوء منكم وغيَّهم
…
فَأحْرِ بهم أن يغرقوا حيث لَجَّجوا
نَظَارِ (1) لكم أن يُرجِعَ الحَقَّ راجعٌ
…
إلى أهله يومًا فتشجَوْا كما شَجُوا
على حين لا عذرى لمعتذريكم
…
ولا لكم من حجة الله مخرجُ
لعل لهم في منطوى الغيب ثائرًا
…
سيسمو لكم والصبح في الليل مولج
بجيش تضيق الأرض عن زفراته
…
له زجل ينغي (2) الوحوش وهَزْمَج (3)
فيدرِكُ ثأرَ الله أنصارُ دينه
…
ولِلهِ أوْس آخرونَ وخَزْرج
ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه
…
تمامًا وما كل الحوامل تخدج (4)
وإني على الِإسلام منكم لخائف
…
بوائق شتى بابها الآن مُرْتَج
لعل قلوبًا قد أطلتم غليلها
…
ستظفر منكم بالشفاء فتثلج
فيا شباب الِإسلام: قد فتح باب الترشيح، فهيَّا تسابقوا إلى العلا، وتنافسوا في جنة عرضها السماوات والأرض، واختطوا لأنفسكم طريق المجد، فتالله ما ارتفع صوت الحادي يومًا لرفقة أولي صَمَم، ولا ارتفع الفلك الأعلى لغير أهل الشموخ والشَّمَم.
ستعلم أمتنا أننا
…
ركبنا الخطوب هُيامًا بها
فإن نحن فُزْنا فيا طالما
…
تَذِلُّ الصِّعابُ لطُلَاّبها
وإن نَلْقَ حتفًا فقد قُدِّمتْ
…
كؤوسُ المنايا لشُرَّابها
فمن منكم ينتدب نفسه لهذه المهمة الجسيمة التي قال فيها المجدِّدُ العَلَمُ، والجبل الأشم أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إني
(1) نَظارِ: اسم فعل بمعنى انتظر.
(2)
نَغَى نَغْيًا: تكلم بكلام لا يُفهم.
(3)
الهَزْمَجَةُ: تتابع الكلام في سرعة، واختلاط الأصوات.
(4)
خَدَجت الحامل: ألقت ولدها قبل تمام أيامه، وإن كان تام الخَلْق.