الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تنفعه قطعًا في الآخرة، بل يجعلها الله هباء منثورا:{وقدِمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثْورً} .
وقال عز وجل: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالُهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} ، وقال تعالى:{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} .
استِخفَافُ السَّلَف الصاِلح بِأَعَراض الدنيَا
كبير الهمة على الإطلاق (1): هو من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه، فلا يصير عبد عارية ببطنه وفرجه، بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة، فيصير من أولياء الله وخلفائه في الدنيا، ومن مجاوريه في الآخرة، وصغير الهمة من كان على الضد من ذلك.
وكبير الهمة يُعَظِّمُه صِغَرُ الدنيا في عينيه، فيكون خارجًا من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يُكثر إذا وجد.
ويكون خارجًا من سلطان فرجه، فلا يستحق له رأيًا ولا بدنًا.
ولما فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا حقيقة الدنيا، ومصيرهم إلى الآخرة، استوحشوا من زخرفها، وتناءت قلوبهم عن زينتها، وارتفعت هممهم فوق سفاسفها، وجعلوا الهموم همُّا واحدًا هو إرضاء الله عز وجل، ومجاورته في دار كرامته:
(1)"الذريعة" للأَصفهاني ص (190).
إن لله عبادًا فُطَنا
…
طلَّقوا الدنيا وخافوا الفِتَنَا
نظروا فيها فلما علموا
…
أنها ليسِت لحَيٍّ وطنا
جعلوها لُجَّة واتخذوا
…
صالحَ الأعمالِ فيها سُفُنا
وحرصوا على إزاحة كل ما قد يعوقهم عن المضِّي قدمًا نحو غايتهم، بما في ذلك فضول المباحات.
قال عبد القادر الجيلاني لغلامه: "يا غلام! لايكن همك ما تأكل، وما تشرب، وما تلبس، وما تنكح، وما تسكن، وما تجمع، كل هذا: همُّ النفس والطبع، فأين هم القلب؟! هَمُّك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده".
ولما هَمَّ الإمام الجليل الليث بن سعد بفعلٍ مفضول ينافي العزيمة، قال له إمام المدينة يحيى بن سعيد الأنصاري:"لا تفعل، فإنك إمام يُنظر إليك".
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (وقال في يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- في شىء من المباح: "هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطًا في النجاة"، أو نحو هذا من الكلام)(1) اهـ.
وقال الحافظ أبو الحسن على بن أحمد الزيدي: (اجعلوا النوافل كالفرائض، والمعاصي كالكفر، والشهوات كالسم، ومخالطة الناس كالنار، والغذاء كالدواء).
ورحل "يحيى بن يحيى" إلى الإمام مالك وهو صغير، وسمع منه وتفقه، (وكان مالك يعجبه سمته وعقله، روي أنه كان يومًا عند مالك في جملة أصحابه؛ إذ قال قائل: "قد حضر الفيل"، فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه غيره، (أي: وبقي يحيى مكانه) فقال له مالك: "لم
(1)"مدارج السالكين"(2/ 26).
خرج فترى الفيل، لأنه لا يكون بالأندلس"، فقال له يحيى: "إنما جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلمَ من هديك، وعلمك، ولم أجىء لأنظر إلى الفيل"، فأعجب به مالك، وسماه "عاقل أهل الأندلس").
إنه من المباح مشاهدة حيوان غريب .. ولكن وقت الداعية القدوة أضيق من أن يشغل شيئًا منه لي مباح، لا يجني من ورائه شيئًا لقضيته التي تشغله ليل نهار.
ولما فرَّ "عبد الرحمن الداخل" من العباسيين، وتوجه تلقاء
الأندلس، أهديت إليه جارية جميلة، فنظر إليها، وقال:"إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردَّها على صاحبها"(1).
لقد حفل تراثنا الاسلامي بمواقف رائعة تشي بعلو همة سلفنا الصالح، وتعلن عن نظرتهم العميقة إلى حقائق الأشياء، وتساميهم على المظهرية الجوفاء، وترفعهم عن سفاسف "التطوس" الكاذب، واعتزازهم بانتمائهم إلى الدين الحنيف، دين العزة والكرامة، فمن ذلك ما صح عن ابن شهاب قال: "خرج عمر بن الخطاب إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة، فنزل عنها، وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك! فقال عمر: أوَّه لو يقل ذا غيرُك أبا عبيدة جعلتهُ
(1)"نفح الطيب"(4/ 43).
نكالًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذلَّ قوم فأعزنا الله بالاسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"، وفي رواية: (يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالِإسلام، فلن نبتغي العز بغيره").
ودخل أعرابي رث الهيئة بالي العباءة على أمير المؤمنين معاوية -رضى الله عنه-، فاقتحمته عينه، فعرف الأعرابي ذلك في وجه معاوية رضي الله عنه، فقال:"يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك، ولكن يكلمك مَن فيها"، فأدناه فإذا به مِدْرَهُ (1) فصاحة في القول وبلاغة، فجعله من خاصته.
والأمثلة على ما ذكرنا كثيرة حفلت بها تراجم العلماء العاملين، فمن
أمثلة ذلك أن الِإمام شيخ الِإسلام النووي رحمه الله كان إذا رآه الرائي ظنه شيخًا من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إليه أنه شيء يذكر، فإذا سمعه يُدَرِّس أو يقرر أو يحدِّث فغر فاه، وحملق بعينيه عجبًا من هذه الأسمال أن تنكشف عن جوهر نفيس، وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى، ولا عجب فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة، وجمال الهندام، فإذا رَأوْا مَن هذه صفته وَقَّروه وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضامر، وفكر بائر، وقلب حائر:
ترون بلوغ المجد أن ثيابكم
…
يلوح عليها حسنها وبَصيصُها
وليس العلى درَّاعةً ورداءها
…
ولا جُبَّة موشية وقميصها
وقال المتنبي:
لا يُعجبنَّ مُضيمًا حُسْنُ بَزَّتِهِ
…
وهل تروقُ دفينًا جَوْدَةُ الكَفَنِ؟
(1) المِدْرَه: السيد الشريف، والمُقْدِمُ عند الخصومة والقتال.
آخر:
ليس الجمال بمئزر
…
فاعلم وإن رُدِّيتَ بُرْدا
إن الجمال معادن
…
ومحاسنٌ أورثن مجدا
ورأينا العجب من صبرهم على شظف العيش، ومعاناة الفقر، إذ كانوا قد أحْصِروا في سبيل حفظ الدين، ووقفوا حياتهم على حراسة السنة، فهذا الإمام العَلَم إبراهيم بن إسحاق الحربي رحمه الله يقول:"أفنيت عمري ثلاثين سنة برغيفين، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيتُ جائعًا عطشان إلى الليلة الثانية، وأفنيتُ ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة، إنْ جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلتُه، وإلا بقيتُ جائعًا عطشانَ إلى الليلة الأخرى".
والآن آكلُ نِصفَ رغيف وأربعَ عشرةَ تَمْرَة إن كان بُرنيًّا، أو نيِّفًا وعشرين إن كان دَقَلاً، ومَرِضَتْ ابنتي، فمضَتْ امرأتي، فأقامت عندها شهرًا، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانِقَين ونصف! ودخلتُ الحمَّامَ، واشتريتُ لهم صابونًا بدانِقَين، فقامَتْ نفقةُ شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانق ونصف".
وقال أبو القاسم بن بُكَير: (سمعت إبراهيم الحربي يقول: "ما كنا نَعرفُ من هذه الأطبخة شيئًا، كنت أجيءُ من عَشٍّي إلى عَشِي وقد هيَّأتْ لي أمِّي باذنجانة مشويِة، أو لَعْقَةَ بِنٍّ -البِن بكسر الباء: الشَّحْم-، أو باقةَ فِجْل".
وقال أبو علي الخياط المعروف بالميت: (كنتُ يومًا جالسًا مع إبراهيم الحربي على باب داره، فلما أن أصبحنا قال لي: "يا أبا على قم إلى
شُغلك، فإنَّ عندي فِجلةً قد أكلتُ البارحةَ خَضِرَها، أقومُ أتغدَّى بجزَرَتِها").
…
وقد دهش المؤرخون للسرعة التي أقام بها المسلمون دولتهم، وللسرعة التي انهارت بها أمامهم الإمبراطوريتان العظيمتان في ذلك الوقت، ولم يدرك الكثير منهم سر عظمة هذه الأمة الناشئة، الذي يكمن في المدد الرباني لهؤلاء المجاهدين، ليس فقط بالإمداد بالملائكة تُثَبِّتُ الذين آمنوا، لكن أيضًا بإمداد الله إياهم بمفاهيمَ وقيمٍ ومقوماتٍ أهَّلتهم لقيادة البشرية، وانتزاع عجلة القيادة من قيم هابطة، ومفاهيم متخلفة، وعقائد فاسدة، ومُثُلٍ مهترئة، فقد كانت المواجهة صراعًا بين حضارتين مختلفتين كل الاختلاف في القيم والمفاهيم والمنطلقات، وكان الطبيعي أن تسري سنة الله في خلقه، ويمضي قانونه المحكم: أن البقاء للأصلح {فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} ، فلنطالع صورًا من هذه المواجهة بين الحضارتين، والتي حسمت نتيجة الصراع قبل المواجهة المسلحة لصالح حزب الله المفلحين:
لما بلغ عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيشه حاكم مصر "المقوقس" وجيشه، بعث عمرو إليه عشرة رجال أحدهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان "عبادة" شديد السواد، وأمره أن يكون متكلم القوم، ولا يجيب الروم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الخصال الثلاث، فلما دخلت رسل المسلمين إلى المقوقس، وعلى رأسهم عبادة، هابه المقوقس لسواده وفرط طوله، وقال: "نَحُوا عني
ذلك الأسود، وقدِّموا غيره يكلمني"، فقال الوفد جميعًا:
"إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا، وهو سيدنا وخيرُنا والمقدَّم علينا، وإنما نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه، وقد أمَّره الأمير دوننا لما أمره، وأمرنا ألا نخالفَ رأيه وقوله"، ثم قالوا -وكان قولهم عجيبًا عند المقوقس-:"إن الأسود والأبيض سواء عندنا، لا يفضل أحدٌ أحدًا إلَّا بفضله، وعقله، وليس بلونه"(1).
ولا مراء في أن "المقوقس" كان مستاء من وجود عبادة بن الصامت، ذلك العبد الأسود، وحَسِبَ أن اختيار عمرو له ليكون متكلم القوم إنما كان تصغيرًا. لمقام المقوقس وتحقيرًا لشأنه، فلما أجمع رسل المسلمين على أنه المتحدث باسمهم جميعًا، لم ير المقوقس بُدًّا من محادثة عُبادة ومفاوضته، فأومأ إليه أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة:"إن فيمن خلَّفتُ من أصحابي ألفَ رجل أسود، كلهم أشد سوادًا مني .. وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي، لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله، واتباع رضوانه، وليس غزوُنا عَدُوَّنا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلبٍ للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله، وأمرنا به نبينا، وعهد إِلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه"(2)،
(1)"الخطط" للمقريزي (1/ 292).
(2)
"السابق"(1/ 293).
فوقع هذا القول في نفس المقوقس وقعًا شديدًا، وقال لأصحابه:"هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل .. إنَّ هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخرابِ الأرض" ثم أقبل على عبادة، وأراد أن يسلك معه طريق الإرهاب المغلَّف في قالبٍ من النصح، فقال له:"أيها الرجل الصالح! قد سمعت مقالتك وما ذكرتَ عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم وما ظهرتم على مَن ظهرتم عليه، إلَّا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم مِن جمع الروم ما لا يُحصى عدده، قوم معرفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم مَن لقي ولا من قاتل، وإننا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضوها، وتنصرفوا إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به"(1).
فنظر إليه "عبادة بن الصامت" شامخًا، وخاطبه بصوت كله ثقة وإيمان قائلًا: "يا هذا لا يغرنَّ نفسَك ولا أصحابك ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما كان هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه
…
إن قُتِلنا عن آخرنا كان أمكنَ لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقرّ لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإن الله عز وجل قال في كتابه:{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} ، وما من رجل إلَّا وهو يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وألا يردَّه إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس
(1)"السابق"(1/ 293).
بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا" (1).
وقد أراد المقوقس أن يستنزله عن شيء، أو أن يجعله يقبل شيئًا مما عرض عليه، فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء لما يقول، وقال عبادة يرد عليه بعد أن نفد صبره، ورفع يديه إلى السماء:"لا ورب هذه السماء، وَرب هذه الأرض، وربِّ كل شيء، ما لكم عندنا من خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم"(2)، عند ذلك اجتمع المقوقس بأصحابه فقالوا:"أما الأمر الأول فلا نجيب إليه أبدًا، فلا نترك دين المسيح إلى دين لا نعرفه"، وبذلك رفضوا شرط الإسلام، فلم يبق أمامهم إلَّا شرط الجزية أو الحرب، فقالوا:"إنا إذا أذعنَّا للمسلمين، ودفعنا الجزية، لم نَعْدُ أن نكون عبيدًا، ولَلْموت خير من هذا، فردَّ عليهم عبادة قائلًا: "إنهم إن دفعوا الجزية كانوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، مسلطين في بلادهم على ما في أيديهم وما يتوارثونه فيما بينهم، وحُفظت لهم كنائسهم، لا يتعرض لهم أحد في أمور دينهم"، فقال المقوقس لمن حوله: "أجيبوني وأطيعوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث فوالله ما لكم بهم طاقة، وإن لم تجيبوا إليهم طائعين لتُجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين" (3).
(1)"السابق"(1/ 294).
(2)
"فتوح مصر" لابن عبد الحكم ص (59 - 63).
(3)
السابق، وانظر:"عمرر بن العاص بين يدي التاريخ" ص (158 - 160).
هكذا سار هؤلاء الربانيون بمفتاح الجنة "لا إله إلا الله" يفتحون به مشارق الأرض ومغاربها، لا يستعصي عليهم منها قطر، فالحصون تفتح، والقلوب تفتح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تصحح، وفيما يلي صورة أخرى (1) تجلت فيه أصالة التربية المحمدية لخير أمة أخرجت للناس، حيث تشغل الدنيا في اهتمامهم القدر الضئيل الذي تستحقه، أما الآخرة فهي الهم الأكبر، وهي الغاية العظمى، وهي الحياة الحقيقية الخالدة:
جاء سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حتى نزل "القادسية" ومعه الناس، ولا يزيد المسلمون على سبعة آلاف أو نحو من ذلك، والمشركون يبلغون ثلاثين ألفًا أو نحوًا من ذلك، ونبال المسلمين وعُدَّتهم موضع سخرية أهل فارس، وجعلوا يشبهونها بالمغازل، فيقولون "دوك، دوك"، ويقولون للمسلمين مزدرين إياهم:"لا يدي لكم ولا قوة ولا سلاح! ما جاء بكم؟ ارجعوا! "
…
ولما أُدخِل وفد المسلمين على كسرى يزدجرد جعل أهل فارس يسوؤهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس، وكان سيىء الأدب، فكان أول شىء دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان بينه وبينهم، فقال:"سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ "، فكان يلقى منهم أجوبة يتطير منها
…
ولما عرض النعمان بن المقرن دعوة الإسلام على كسرى، قال الأخير: "إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى، ولا أقل عددًا،
(1) انظر: "تاريخ الطبري"(3/ 496) وما بعدها، "البداية والنهاية"(7/ 39)، و "فكرة القومية العربية" للشيخ صالح بن عبد الله العبود ص (333 - 340).
ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكِّل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم، لا تغزوا فارس، ولا تطعموا أن تقوموا لهم، فإن كان عددٌ لَحِقَ فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قُوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملَّكنا عليكم ملكًا يرفق بكم"، فأسكت القوم، فقام المغيرة بن زرارة الأسيدي، فقال: (أيها الملك! إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، فنرى ذلك طعامنا.
وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا: أن يقتل بعضنا بعضًا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية، كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرتُ لك، فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا، نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضُه خير أرضنا، وحَسَبُه خيرُ أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أولَ من تِرْبٍ (1) كان له، وكان الخليفة بعده، فقال، وقلنا، وصدَّق، وكذَّبنا، وزاد، ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديقَ له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمير الله، فقال لنا:
(1) التِّربُ: بكسر التاء: اللذَة، والسِّنُّ، ومن وُلد معك، والاشارة هنا إلي الصديق الأكبر أبي بكر رضي الله عنه.
"إن ربكم يقول: إنني أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل، لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلَّكم داري، دارَ السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال. من تابعكم على هذا، فله ما لكم، وعليه ما عليكم، ومن أبي فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبي فقاتلوه، فأنا الحكَمُ بينكم، فمن قُتِلَ منكم أدخلتُه جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على مَنْ ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، وإن شئتَ فالسيف، أو تُسْلِم فتنجي نفسك"، فقال:"أتستقبلني بمثل هذا؟ "، فقال:"ما استقبلتُ إلا مَن كلَّمني، ولو كلمني غيرك، لم أستقبلك به"، فقال:"لولا أن الرسلَ لا تُقتل لقتلتكم، لا شىء لكم"، وقال:"ائتوني بوِقْرٍ من تراب"، فقال:"احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم، حتى يدفيكم (1)، ويدفيه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعدُ، ثم أوردُه بلادَكم، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشدَّ مما نالكم من سابور"، إلى آخر القصة.
وفيها: "أن عاصم بن عمرو احتمل وقر التراب، واعتره فألا على الظفر بأرضهم، كما تطير منه رستم على أنه علامة أن الله سلبهم أرضهم وأبناءهم للمسلمين.
ثم إن كسرى بعث أهل فارس بعددهم وعُدَدِهم وعلى رأسهم رستم، حتى إذا نزل رستم "بالعقيق" على منقطع معسكر المسلمين، راسل
(1) دفوت الجريح وأدفيته: أجهزتُ عليه.
"زهرة" فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحهم، ويجعل له جُعْلًا (1) على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول: "أنتم جيراننا، وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا
…
" إلخ.
فقاك له زهرة: "صدقت، قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمير أولئك ولا طِلْبتنا، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، إنما طلبتنا وهمتنا: الآخرة، كنا كما ذكرت، يدين لكم مَن ورد عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم، ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولًا، فدعانا إلى ربه، فأجبناه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إني قد سلطتُ هذه الطائفة على من لم يَدِنْ بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذَلَّ، ولا يعتصم به أحد إلا عَزَّ".
فقال له رستمَ: "وما هو؟ ".
قال: "أما عموده الذى لا يصلح منه شيء إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، قال: "ما أحسن هذا! وأي شيء أيضًا؟ "، قال: "وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى".
قال: "حسن، وأي شيء أيضًا؟ ".
قال: "والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم"، قال:"ما أحسن هذا! ".
ثم قال رستم: "أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر، وأجبتكم إليه،
(1) الجُعْل، والجِعالة: ما جعله له على عمله من أجر، أو رِشْوة.
ومعي قومي، كيف يكون أمركم؟ أيرجعون؟ ".
قال: "إى والله، ثم لا نقرب بلادكم أبدًا إلا في تجارة أو حاجة"، قال:"صدقتني والله، أما إن أهل فارس منذ ولي "أردشير" لم يَدَعُوا أحدًا يخرج من عمله من السِّفْلَة (1) كانوا يقولون: "إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم، وعادوا أشرافهم".
فقال له زهرة: "نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أنْ نكون كما تقولون، نطع الله في السِّفْلَة، ولا يضرنا من عصى الله فينا"، فانصرف عنه، وطلب "رستم" آخر، ثم إن سعدا أرسل "رِبعي بن عامر" رضي الله عنه إلى رستم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلي الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له:"ضع سلاحك"، فقال:"إني لم آتكم وإنما جئتكم حي دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت"، فقال رستم:"ائذنوا له"، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامَّتَها، فقالوا له:"ما جاء بكم؟ "، فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك، قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي ذلك،
(1) سِفْلَةُ الناس: أسافلهم، وغوغاؤهم.
قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله".
قال: "وما موعود الله؟ " قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبي، والظفر لمن بقى" ..
فخلص رستم برؤساء أهل فارس، فقال: "ما ترون؟ هل رأيتم
كلامًا قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ "، قالوا: "معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا، وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ "، فقال: "ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأي، والكلام، والسيرة"، وأقبلوا يتناولون سلاحه، ويزهدونه فيه ..
ثم كان أن أبي الفرس دعوة الحق، واختاروا المناجزة، فنصر الله المسلمين، وهزموا فارس وسبوهم.
وكان "يزدجرد" ملك الفرس قد أرسل يستنجد بملك الصين، ووصف له المسلمين، فأجابه ملك الصين:"إنه يمكنني أن أبعث لك جيشًا أوله في منابت الزيتون -أي: الشام- وآخره في الصين، ولكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول؛ فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم، وتعيش في ظلهم، وظل عدلهم"(1).
…
(1)"إفادة الأخيار ببراءة الأخيار"(1/ 38).