الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحَوالُ خَسِيس الِهمَّةَ
إن الإنسان المسمى بالحيوان الناطق موضع تجاذب بين أخلاق وطباع العالم السفلي، وبين صفات وصفاء العالم العلوي:
فَيَحِنُّ ذاك لأرضه بِتَسَفُّلِ
…
ويحن ذا لسمائه بتصعُّدِ
قال أحمد بن خِضرويه: "القلوب جوالة: فإما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحُشِّ"، وقال بعضهم:"نزول همة الكسَّاح؛ دلَّاه في جُبِّ العَذِرَةِ"(1).
وقال ابن القيم رحمه الله: "الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليس ما أعدَّ للاستفراخ كمن هيىء للسباق".
خلق الله للحروب رجالاً
…
ورجالاً لقصعة وثريدِ
فإن رفض ذلك الإنسان الارتقاء إلى عِليين، وعشق الظلمة، ومقت النور، وأبى إلا أن يهبط بنفسه إلى وَحْل الشهوات، فتمرَّغ فيها، وانحطَّ إلى نزوات الحُمُر، وسفاسف الأمور، ونزغات الشياطين، وتثاقل إلى الأرض؛ سقط إلى سِجِّين، وما أدراك ما سجين، وانحدر دون مرتبة ذوات الحوافر، قال تعالى:{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} ، وقال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام
(1) أي: أنه لما كسل عن تعلم حرفة أو علم ينتفع به، ويكرمه بين الناس؛ لم يكن أمامه إلا النزول إلى الجُبِّ لتنظيفه من الغائط.
والنار مثوى لهم}.
فهم كالأنعام ليس لهم هَمٌّ إلا تحصيل الشهوات:
كالعير ليس له بشيء همَّةٌ
…
إلا اقتضام القَضْبِ (1) حول المِذودِ (2)
كما أن الأنعام تسهو، وتلهو بالطعام، وتغفل عن عاقبة النحر والذبح بعده، وهوًلاء أيضا ساهون عما في غدهم.
وهم أضل من الأنعام، لأنها تبصر منافعها ومضارها، وتتبع مالكها، وهم بخلاف ذلك، قال عطاء:"الأنعام تعرف الله، والكافر لا يعرفه".
وصف سعد بن معاذ رضي الله عنه المشركين، فقال:"رأيت قومًا ليس لهم فضل على أنعامهم، لا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم: قوم يعرفون ما جهل أولئك، ويشتهون كشهوتهم".
وإنك إن أعطيت بطنك سُؤْلَه
…
وفرجَكَ نالا منتهى الذم أجمعا
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إياكم والبِطْنَة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة"، ووصف الشاعر أكولًا، يستغرق حياته في نهمه وشهوته، فقال:
عريضُ البِطانِ (3) جديد الخوان
…
قريب المَراث (4) من المرتعِ
فنِصفُ النهارِ لكِرْياسِه (5)
…
ونِصفٌ لمأكلِهِ أجمعِ
وعن محمد بن الحنفية قال: "من كَرُمت عليه نفسه، هانت عليه
(1) القَضْب: ما أكل من النبات المقتَضَب (المقطوع) غَضًّا.
(2)
المِذْوَد: مُعْتَلَف الدابة.
(3)
أصل البطان: حزام القتب الذي يجعل تحت بطن الدابة، ولعله يريد به كبر بطنه.
(4)
المراث: مكان الروث.
(5)
الكِرياس: الكنيف الذى يكون مشرفًا على سطح بقناة إلى الأرض.
الدنيا"، وقيل لمحمد بن واسع: "إنك لترضى بالدون"، قال: "إنما رضي بالدون مَن رضي بالدنيا".
يا خاطبَ الدنيا إلى نفسها
…
تنحَّ عن خِطبتها تَسْلم
إن التي تخطبُ غرَّارة
…
قريبةُ العُرْس من المأتم
وسفلة الهمم هؤلاء هم الذين أخبر عنهم الصادق المصدوق بقوله: "وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْر (1) له، الذين هم فيكم تبعًا، لا يبغون أهلًا ولا مالًا"(2) الحديث، فهو قانع بكونه ذيلًا، ومسبوقًا، وتابعا، فارٌّ من المسئولية وتبعاتها.
ففيهم يقول الشاعر:
شبابٌ قُنَّعٌ لا خير فيهم
…
وبُورِك في الشباب الطامحينا
وهم "الغثاء" الذين أخبر عنهم صلى الله عليه وسلم بقوله: ("يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكَلة إلى قصعتها"، فقال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟ " قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوَهَن"، فقال قائل: "يا رسول الله وما الوهن؟ " قال: "حب الدنيا، وكراهية الوت")(3).
وفيهم قال الشاعر:
(1) أي: لا عقل له يمنعه مما لا ينبغي، وقيل: هو الذي لا مال له.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه أبو داود، وغيره، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (958).
وأفتح عيني حين أفتحها
…
فأرى كثيرًا، ولكن لا أرى أحداً
فهم كَسَقَطِ المتاع، موتهم وحياتهم سواء، وفيهم يقول ابن الجوزي رحمه الله:
"لا يدرون لم خلقوا، ولا المراد منهم، وغاية همتهم: حصول بغيتهم من أغراضهم، ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم، يبذلون العِرْضَ دون الغرض، ويؤثرون لذة ساعة، وإن اجتلبت زمان مرض، يلبسون عند التجارات ثياب محتال، في شعار مختال، ويُلبِّسون في المعاملات، ويسترون الحال، إن كسبوا: فشبهة، وإن أكلوا: فشهوة، ينامون الليل وإن كانوا نيامًا بالنهار في المعنى (1)، ولا نوم بهذه الصورة، فإذا أصبحوا، سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير، وتبصيص كلب، وافتراس أسد، وغارة ذئب، وروغان ثعلب، ويتأسفون عند الموت على فقد الهوى، لا على عدم التقوى، ذلك مبلغهم من العلم" اهـ.
كلما همَّ أحدهم أن يسمو إلى المعالي، ختم الشيطان على قلبه:"عليك ليل طويل، فارقد"، وكلما سعى في إقالة عثرته، والارتقاء بهمته، عاجلته جيوش التسويف والبطالة والتمني، ودعثرته، ونادته نفسه الأمارة بالسوء:"أنت كبر أم الواقع؟ ".
(1) وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
يخبرني البواب أنك نائم
…
وأنت إذا استيقظت أيضًا فنائمُ
ويقول الشاعر واعظًا من أدمن هذا النوع من النوم:
فحتام لا تصحو وقد قرب المدى
…
وحتام لا ينجاب عن قلبك السكْرُ
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا
…
وتذكر قولي حين لا ينفع الذكر
لا تطلب المجد واقنع
…
إن المجد سُلَّمه صعب
آخر:
دَع المكارم لا ترحل لبُغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فبقي مستكينًا يرزح تحت وطأة الشهوات، ويجبن عن أن يثور على واقعه (1)، أو أن يفك وَثاق همته:
ومن يتهيب صعود الجبال
…
يَعِشْ أبد الدهر بين الحُفَر
وإن نازعته نفسه إلى طلب المعالي، والارتقاء بهمته، واقتحام الأهوال، والتخلي عن البَطالة والعجز والكسل، زجرها قائلًا:
ذريني تَجِئْني مِيتتي مطمئنةً
…
ولم أتقحَّمْ هولَ تلك المواردِ
فإن كريمات المعالي مَشُوبة
…
بمستودَعات في بطون الأساودِ (2)
وفي شأنهم وأمثالهم يقول الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله:
(1) وقد ضرب بعض العلماء مثلًا لخسيس الهمة، فقال:
هب أن الكلب قال للأسد: "يا سيد السباع! غيِّر اسمى فإنه قبيح"، فقال له:"أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم"، قال:"فجربني"، فأعطاه شقة لحم، وقال:"احفظ لي هذه إلى غدٍ، وأنا أغير اسمك"، فجاع، وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر، فلما غلبته نفسه، قال:(وأي شيء باسمي؟!، وما "كلب" إلا اسم حسن)، فأكل.
قال ابن الجوزي رحمه الله معلقًا: (وهكذا خسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على أجل الفضائل .. فالله الله في حريق الهوى إذا ثار، وانظر كيف تطفئه) اهـ.
(2)
أساود: جمع أسود، وهو العظيم من الحيات، وفيه سواد، وهو أخبثها وأنكاها.
(لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرَّعاع، الذين يكدرون الماء، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد، فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش لهم الغبراء)(1) اهـ.
وقال أيضًا رحمه الله في الذين حُرِموا العلم والبصيرة، والهمة والعزيمة: (هم الموصوفون بقوله تعالى: {إن شَرَّ الدُّوَابِّ عند اللهِ الصم البكم الذين لا يعقلون} ، وبقوله:{أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} ، وبقوله:{إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء} وبقوله: {وما أنت بمُسمعٍ من في القبور} .
وهذا الصنف شر البرية، رؤيتهم قذى العيون، وحُمَّى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ولكن ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ويعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، وينطقون، ولكن عن الهوى ينطقون، ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويتفكرون ويبيتون، ولكن ما لا يرضى من القول، ويدعون، ولكن مع الله إلهًا آخر يدعون، ويحكمون ولكن حكم
(1)"مفتاح دار السعادة"(1/ 134).