الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَلُمَّ فَلنَستَحي مِنَ الله
!
نعرض -فيما يلي- نماذج من حركة بعض الكافرين في سبيل الدنيا، أو خدمة أوطانهم، أو الدعوة إلى ملتهم، عسى أن يستحيي المقصرون منا فى حق دينهم وأمتهم المسلمة، ويروا أنفسهم أحرى وأجدر بمعالي الأمور.
* هذا "هيوستن" يقف (في حدود سنة 1830 أمام الكونجرس الأمريكي، ويخطب خطبة بليغة لم يستعمل فيها كلمة مرتين، فسحر ألباب الرجال الذين أمامه، وكان قد نجح لتوِّه في تسكين ثائرة الهنود الحمر وجَلْبِهم إلى توقيع اتفاقات مع الحكومة، فاستدعاه الرئيس الأمريكي آنذاك وقال له:"إن تكساس تتبع المكسيك، ومستقبل أمريكا متعلق بها، ولا بد من ضمِّها، وأريدها منك".
فقال هيوستن: "نعم أنا لها، زودني بمال ورجال".
قال الرئيس: "لو كان عندي مال ورجال ما دعوتك، بل تذهب منفردًا وبلا دولار واحد، وأبعثُ معك حارسًا حتى تعبر نهر المسيسبي، ويعود".
ومع ذلك قبل المهمة، وودَّعه الحارس على ضفة النهر، واندفع نحو تكساس، فلما دخل أول مدينة بها فتح له مكتب محاماة، فكان المدعي في المحكمة يخرج متهمًا والمتهم بريئًا، لبلاغة وقوة لسانه، حتى انبهر به الناس، فلاثوا به، فتلاعب بمفاهيمهم وأخيلتهم، وغرس فيهم معنى
ضرورة الاستقلال عن المكسيك، وأنشأ حركة قوية أتمت الاستقلال، ثم غرس معنى وجوب الانضمام إلى الولايات المتحدة، فانضمت طواعية بالقناعات التي غرسها هيوستن، وجاء بعد سنوات قليلة إلى الرئيس الأمريكي، وسلمه مفتاح تكساس، إذ لم تطلق طلقة أمريكية ولم يصرف دولارًا، فشكره الرئيس، وخلَّدوا عمله بإطلاق اسمه على مدينة "هيوستن" التي هي الآن من أهم مدن أمريكا، وعاصمة النفط فيها) اهـ (1).
وهاك مثالًا آخر حكاه الدكتور توفيق الواعي حفظه الله، قال:
* "أرسلت الدولة اليابانية في بدء حضارتها بعوثًا دراسية إلى ألمانيا. كما بعثت الأمة العربية بعوثًا، ورجعت بعوث اليابان لتحضِّر أمتها، ورجعت بعوثُنا خاويةَ الوفاض!! فما هو السر؟ لنقرأ هذه القصة حتى نتعرف على الإجابة".
يقول الطالب الياباني "أوساهير" الذي بعثته حكومته للدراسة في ألمانيا: لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذى ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركًا صغيرًا؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى "موديل" هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفتَ كيف تُصنع، وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها، وبدلًا من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل، أو مركز تدريب عملي، أخذوا يعطونني كتبًا لأقرأها، وقرأت
(1)"صناعة الحياة" ص (88 - 89).
حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك، أيًّا كانت قوته وكأنني أقف أمام لغز لا يُحَل، وفي ذات يوم، قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي، وجدت في المعرض محركًا قوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلًا جدًّا، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجوهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركًا كهذا لغيرت تاريخ اليابان، وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتَّى، مغناطيس كحذوة الحصان، وأسلاك، وأذرع دافعة، وعجلات، وتروس وما إلى ذلك، لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك، وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغَّلتُه فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر "موديل" الصناعة الأوروبية، وبحثت في رفوف الكتب التي عندي، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقًا كثيرًا، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل، رسمت المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة، وأعطيتها رقمًا، وشيئًا فشيئًا فككته كله، ثم أعدت تركيبه، وشغلته فاشتغل، كان قلبي يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.
وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: "حسنًا ما فعلت، الآن لا بد
أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل"، وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد.
بعد ذلك قال رئيس البعثة الذي كان يتولى قيادتي روحيًّا
…
قال: "عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركًا، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألومنيوم، بدلًا من أن أعد رسالة الدكتوراة كما أراد مني أساتذتي الألمان، تحولت إلي عامل ألبس بذلة زرقاء وأقف صاغرًا إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شيء، قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة.
وعلم "الميكادو""الحاكم الياباني" بأمري فأرسل لي من ماله الخاص، خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب، اشتريت بها أدواتِ مصنعِ محركاتٍ كاملة، وأدوات وآلات، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فوضعت راتبي وكل ما ادخرته، وعندما وصلت إلى "نجازاكي" قيل لي: إن "الميكادو" يريد أن يراني، قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملًا، استغرق ذلك تسع سنوات، وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي
عشرة محركات (صنع في اليابان)، قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ودخل "الميكادو" وانحنينا نحييه وابتسم، وقال:"هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة، هكذا ملكنا "الموديل" وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب"(1)) اهـ.
وحدث من عايش الطلاب اليابانيين الذين يبتعثون إلى أمريكا عن أحوالهم، فقال:(ربما يلبثون في مكتبة الجامعة إلى نصف الليل، وربما نام أحدهم وهو جالس على كرسيه، ويواصل الدراسة في اليوم الثاني من غير ذهاب للبيت).
قال الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله:
(شفعت مرة لداعية أن يقبله الأستاذ فؤاد سزكين طالبًا بمعهده في فرانكفورت معهد تاريخ العلوم الإسلامية، فاشترط الأستاذ سزكين أن يشتغل الطالب ست عشرة ساعة يوميًّا، فرفض، ثم أراني الأستاذ سزكين من بُعْد عددًا من الطلاب اليابانين في معهده، وقد انكبُّوا على المخطوطات العربية يدرسونها، ويبعثونها إلى الحياة، وقد رضوا بهذا الشرط، فتأمل)(2) اهـ.
وقال د. عبد الودود شلبي في كتابه "في محكمة التاريخ":
(أذكر أنني ترددت كثيرًا جدًّا على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها:
(1) مجلة "المجتمع"، العدد (998) نقلًا عن "الهمة طريق إلى القمة" ص (32 - 38).
(2)
"صناعة الحياة" ص (111).
"أيها المبشر الشاب: نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض، كل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ فقير، أجرك كله ستجده عند الله إذا أدركك الموت، وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء").
(وهذه الكلمات حرَّكت كثيرًا من جند الشيطان المبشرين بالنيران، من حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة وغيرها من التخصصات للذهاب إلى الصحاري القاحلة التي لا توجد فيها إلا الخيام، والمستنقعات المليئة بالنتن والميكروبات، والمكوث هناك السنين الطوال دون راتب، ودون منصب، ولو أراد أحدهم العمل بمؤهله لربح مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه ضحى بكل هذا من أجل الباطل الذي يعتقد صحته)(1) اهـ.
وحكى لي بعض الشباب المسلمين في "ألمانيا" أنه منذ الصباح الباكر ينتشر دعاة فرقة "شهود يهوه" في الشوارع وينطلقون إلى البيوت، ويطرقون الأبواب للدعوة إلى عقيدتهم، وحدثني أحدهم أن فتاة ألمانية منهم طرقت بابه في السادسة صباحًا، فلما علم أن غرضها دعوته إلى عقيدتها، بيَّن لها أنه مسلم، وأنه ليس في حاجة إلى أن يستمع منها، فظلت تجادله وتلح عليه أن يمنحها ولو دقائق "من أجل المسيح"! فلما رأى إصرارها أوصد الباب في وجهها، ولكنها أصرت على تبليغ عقيدتها، ووقفت تخطب أمام الباب المغلق قرابة نصف ساعة تشرح له عقيدتها، وتغريه باعتناق دينها!! فما بالنا معشر المسلمين يجلس الواحد منا شبعان متكئًا على أريكته، إذا طُلِب منه نصرة دين الحق، أو كلف بأبسط المهام، أو عوتب لاستغراقه في اللهو والترفيه، انطلق كالصاروخ
(1)"المصفى من صفات الدعاة"(2/ 174).
مرددًا قوله صلى الله عليه وسلم: "يا حنظلة ساعة وساعة" كأنه لا يحفظ من القرآن والسنة غيره، يقول الأستاذ الراشد حفظه الله:
[يقف الداعية يؤذن في الناس، ولكن أكثر الناس نيام، ويرى جلد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لإمرار خطتهم، فإذا التفت رأى الأمين المسلم سادرًا غافلًا، إلا الذين رحمهم ربهم، وقليل ما هم، ويعود ليفرغ حزنه، في خطاب مع نفسه:
تبلَّدَ في الناس حِسُّ الكفاح
…
ومالوا لكسبٍ وعيش رتيب
يكاد يزُعزع مِن همتي
…
سُدورُ الأمين، وعزمُ المريب
ويتهم نفسه أنه لم يكن بليغًا في ندائه، ولكن سرعان ما يُحسُّ أنه قد حاز البلاغة من أقطارها، فيعود يسلي نفسه، ويجمل عزاءه:
ومن حرِّ شَدْوي يُرى في الخريف
…
طروبًا بصحبتي العندليب
ولكن خُلِقتُ بأرضٍ بها
…
نفوسُ العبيد برِقٍّ تطيب
لقد تبدلت موازين البلاغة، وافتقد الجيل الأعمال الكبيرة التي يتمجد بها، فصار -كما يقول الرافعي- "تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها".
ورغم الفساد فإن الداعية المسلم لن يتخلى عن محاولة انتشال العباد، وإن كل وساوس اليأس من الإصلاح لن تلبث أن تتبدد أمام لحظة انتباه إيماني تُريه مكانته المتوسطة لموكب الإيمان السائر، أخذَ عن السلف، ولا بد أن يسوق له قدر الله خَلَفًا يستلم الأمانة منه، ذلك وعد الله، وإنه لموكب لن ينقطع أبدًا، مضى به القول على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (1) "] (2).
(1) رواه مسلم.
(2)
"المنطلق" ص (61 - 63).