الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس
الفَصْل الأول
حَال الأمَّةِ عندَ سقوطِ الِهمَّةِ
إن سقوط الهمم وخساستها حليف الهوان، وقرين الذل والصغار، وهو أصل الأمراض التي تفشت في أمتنا، فأورثتها قحطًا في الرجال، وجفافًا في القرائح، وتقليدًا أعمى، وتواكلًا وكسلًا، واستسلامًا لما يُسمى "الأمر الواقع".
* فقد رأينا في التاريخ الماضي كيف كان الجندي التتَري يأمر المسلم الذي سقطت همته بالقعود مكانه ريثما يذهب فيحضر حجرًا يقتله به، فيستسلم ذاك، ولا يحرك ساكنًا إلى أن ينجز التتري ما أوعده! ورأينا في عصرنا هذا كيف ركع الجندي العراقي أمام نعلي الجندي الأمريكى يتمسح فيهما ويقبلهما سائلًا إياه العفو والصفح، بينما يربت الأخير على كتفه، قائلًا له في مشهد تمثيلي مُخْزٍ:"لا تجزع .. لا بأس عليك! ".
* ورأينا كيف شكا ابن خلدون رحمه الله تشبه مسلمي عصره ممن سفلت همتهم بأعدائهم الكفار، واعتبر ذلك من أمارات ضياع الأندلس من أيدي المسلمين، فقال رحمه الله:
(ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك فِي الأبناء مع
آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمالَ فيهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في "الأندلس" لهذا العهد مع أمم الجلالقة أي "الأسبان"، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثر من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يَستشْعِرُ من ذلك الناظرُ بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله) (1) اهـ، وقد حدث ما توقعه "ابن خلدون" رحمه الله، واستولى الفرنج على الأندلس الإسلامية، وخرج المسلمون منها بعد مائتي سنة من كتابته هذه السطور.
وفي عصرنا رأينا شبابًا ينتسبون إلى الإسلام تصاغرت هممهم فلم تنشغل إلا بسفاسف الأمور ومحقراتها (2)، ورأيناهم يمعنون في التشبه
(1)"مقدمة ابن خلدون" الفصل الثالث والعشرون ص (147).
(2)
وقد نشرت مجلة "الرائد" - العدد (157) - ص (33 - 34) مقالاً يجسد هذا المعنى، كتبه "ع. حسان" قال فيه:
[لقيت اليوم صديقنا "
…
" الزعيم السياسي القديم، فإذا هو -على غير عادته- منشرحُ الصدر، مُفْتَرُّ الثغر، ضاحك الأسارير، قلت له: "أراك اليوم، على غير عادتك، طَلْقًا نشيطًا، بادي السرور"، قال: "وما لي لا أكون كذلك، وقد أحرزت في هذا اليوم ثلاث انتصارات؟ "، قلت: "لك الحق إذَن في تهللك وفرحك، فنحن في زمن لا نكاد نظفر فيه بانتصار واحد بين مئات الهزائم؛ ولكن قل لي:"ما هي هذه الانتصارات -إن لم تكن سِرًّا من الأسرار-؟ ".
قال: "أما الانتصار الأول: فقد دَخَلَت غرفةَ نومي من ثلاثة أيام ذُبابة=
بالكفار، بل يعلقون على صدورهم وسياراتهم أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم، وطأطأت أعناقهم، وأهدرت كرامتهم، واستعبدت أمتهم (1).
وعلى صعيد آخر رأينا من يسوِّغ تعبيد الأمة وتبعيتها لأعدائها بحجة أننا: "لن نفكر برأسنا، ما دمنا لا نأكل بفأسنا"! أو أن ما نحن فيه
=أزعجت نهاري، وأرقت ليلي، وقد حاولت جهدى طردها أو قتلها فلم أُفلح، إلى أن ظفرتُ بها هذا اليوم فقتلتُها شر قِتلة، وألقيتها حيث لا يمكن أن تعود، حتى لو عادت إليها الحياة .. ".
قلت: "والانتصار الثاني .. ؟ ".
قال: "الانتصار الثاني شعرت به وأنا أزن نفسي في الحمام، إذ هبط وزني من تسعة وتسعين كيلو، إلى ثمانية وتسعين، وسبعمائة وخمسين جرامًا".
قلت: "والانتصار الثالث؟ ".
قال: "لعبت اليوم بالنرد مع صديقنا فلان، فغلبته مرتين متواليتين، وهو الذي كان يغلبني باستمرار
…
أفتراني بعد ذلك كله حقيقًا بما أنا عليه من السعادة والطلاقة والمرح؟ ".
قلت: "بلى! بلى!
…
".
وتابعت طريقي بأسى بالغ، وألم عميق، وحزن غامر عليه، وعلى أنفسنا معه .... لقد سَحَقَنا وعَزَلَنا عن ميادين الحياة الجادة الطغيانُ الداخلي والخارجي، المحلي والدولي، وفاتتنا الانتصارات الحقيقية الكبرى، فشغلنا أنفسنا، وعوَّضنا مطامحنا، والتمسنا الراحة والمتعة والرضا بمثل انتصارات هذا السياسي الكبير القديم! أو بما لا يختلف عنها بالجوهر، وإن اختلف بالشكل والعنوان.
أليس هذا ضربًا من ضروب الجنون أو الموت المعنوي الذى يصنعه الطغيان؟ أليس الموت الماديُّ الحقيقي أفضل من مثل هذه الحياة؟].
(1)
انظر: "تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب" ص (61) - الطبعة العاشرة.
من الانحدار "تسبب فيه مَن قبلنا، وسيصلحه مَن بعدنا"! وأدركنا زمانًا لم تعد فيه "الخيانة" عارًا يُستر ولكنها "شرف" يُظهر، ووظيفة مرموقة، ومفخرة يُتهافَتُ عليها.
ويبين الأستاذ محمد أحمد الراشد -أعزه الله- ملمحًا خطيرًا من ملامح محنة المسلمين في عصر انحطاط الهمم، فيقول: إن [محنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلالة فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية، وكراسي الجامعات والصحف والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم، حتى غدًا صيدُ (1) المخططات في سرور، يحسب نفسه في انعتاق من أسر القديم، أي قديم كان.
إن عصاة المسلمين اليوم ضحية تربية أخلدتهم إلى الأرض، أرادت لهم الفسوق ابتداءً، لتستخف بهم الطواغيت انتهاءً، وإنها خطة قديمة، يأخذها الطاغوت اللاحق عن الطاغوت السابق، حتى تصل أصولها إلى فرعون، "وذلك كما يقول الله سبحانه:{فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين} ، فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ، وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله، فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمرًا (2) ".
وهكذا أدركوا المقتل الذي عرفه فرعون، فتواصوا بالإفساد، وأخذوا "يحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة
(1) المقصود بالصيد هنا الفريسة المَصِيدَةُ.
(2)
انظر: "في ظلال القرآن"(9/ 45).
والفجور، مشغول بلقمة العيش، لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد، كي لا يفيق، بعد اللقمة والجنس، ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين" (1)، وصارت تلك سياستهم: "سياسة محاربة المساجد بالمراقص، ومحاربة الزوجات بالمومسات، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوةَ بفنون اللذة" (2).
وهكذا تحول -بهذه التربية- ذلك الصقر الإسلامي إلى مثل طائر الحَجَل (3) في وداعته كما يقول "إقبال"، إنه الأدب "والترويض" الذي استعمله أئمة الضلال، أدبٌ:
يَسْلبُ السَّرْوَ (4) جميلَ الميل
…
ويرد الصقر مثل الحَجَلِ
يسخر الركبان باللحن المبين
…
ولقاع البحر يهوي بالسفين (5)
نَوَّمَتْ ألحانهُ يقظتنا
…
أطفأت أنفاسُه وَقْدَتَنا (6)
وأُّشرِب الناس الذلَّ
…
"إن الإنسان بفطرته نَفور من الذل، آبٍ على الحيف، ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيُراضون على الخضوع حينًا بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالًا بعد حال، حتى يدربوا عليه، كما يُستأنس السبعُ، ويؤلف الوحش، ولكن يبقى في الناس ذرات من
(1)"السابق"(9/ 122).
(2)
"وحي القلم" للرافعي (2/ 258).
(3)
الحَجَلُ: الذكَر من القَبَج، الواحدةُ حَجَلة، طائر في حجم الحمام يُصاد.
(4)
السرو: شجر معروف، واحدته سَرْوَة.
(5)
السفين: جمع سفينة.
(6)
الوَقْدَةُ: أشدُّ الحَرِّ، يُقال: طَبَخَتْهُمْ وَقْدَةُ الصيف.
الكرامة، وفي الدماء شذرات من الجمر، فإذا دعا الداعي إلى العزة، وأذن بالحرية، وأيقظ الوجدان النائم، وحرَّك الشعور الهاجد: نبضت الكرامة في النفس، وبَصَّت (1) الجمرة في الرماد، وأفاقت في الإنسان إنسانيته، فأبى وجاهد، ورأى كل ما يلقى أهون من العبودية، وأحسن من هذه البهيمية.
كل ذل يصيب الإنسان من غيره، ويناله من ظاهره: قريب شفاؤه، ويسير إزالته، فإذا نبع الذل من النفس، وانبثق من القلب، فهو الداء الدوي، والموت الخفي.
ولذلك عمد الطغاة المستعبِدون إلى أن يُشْربوا الناسَ الذل، بالتعليم الذليل، والتأديب المهين، وتنشئة الناشئة عليه بوسائل شتى، ليُميتوا الهمة، ويُخمدوا الحمية، وإذا بيدهم العصا والزمام" (2).
وكان من تمام ما يلزمه هذا الترويض أن يضيقوا على دعاة الإسلام، ليستبد بالتوجيه التربوي والإذاعي والصحافي أدعياء العلم والشعر والحكمة الذين موهوا أمرهم بأسماء منظمات تبدو في ظاهرها مختلفة، وطفقوا يزينون للجيل الجديد، سليل المجاهدين، وشبل الأسود، أن يكون رقيقًا للشهوات والجنس والعيش الرغيد، وبدأوا يمحون تراث الأمة الذي نهضت به، ويطمسون قصص العلماء، حذرًا من أن تكون نبراسًا للجيل يستدل بها على طريق العمل
…
فذلك قول شاعر الإسلام "إقبال" رحمه الله:
(1) بَصَّ: برَقَ، ولمَعَ.
(2)
"الشوارد" لعبد الوهاب عزام ص (318).
ليس يخلو زمانُ شعبٍ ذليل
…
من عليمٍ وشاعر وحكيم!
فَرَّقَتهم مذاهب القول لكن
…
جميع الرأى مقصد في الصميم:
عَلموا الليثَ (1) جفلةَ (2) الظَّبي (3) وامْحوا
…
قَصَصَ الأسْدِ في الحديث القديم
هَمُّهم غِبطة الرقيق برِق
…
كله تأويلهم خداع عليم
وقَد كان (4)
…
هذا هو عنوان خطة الكيد اليهودي والصليبي، إنه تعليم الليث الإسلامي جفلة الظبي، ومحو قصص أسد الإسلام من العلماء والزهاد والمجاهدين من تاريخ القرون الفاضلة الأولى لهذه الأمة المجاهدة.
وأنتجت خطط التربية ذاك الظبي الجفول الذي لم يعد يقتحم، واستبدل العزم بالتفلت، والمسارعة إلى الهرب، إنهم هذا الجيل من أبناء المسلمين، شبلُ أسدٍ تحول إلى ظبي وديع، وحُرٌّ استرقُّوه ففْرح!] (5) اهـ.
…
(1) الليث: الأسد.
(2)
جَفَل: شرد ونفر، ومضى وأسرع، وانزعج وفزع.
(3)
الظبي: جنس حيوانات من ذوات الأظلاف والمجوّفات القرون، أشهرها: الظبي العربي، ويقال له: الغزال الأعفر. ويقال: "لأتركنك تركَ الظبي ظله": لا أعود إليك، لأن الظبي إذا جَفَل ونفر من مكانٍ لا يعود إليه.
(4)
انظر: "تطوير التعليم بين الحقيقة والتضليل".
(5)
"المنطلق" ص (53 - 57).