المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(4) علو همة الأخ "رحمة بورنومو" في بحثه عن الدين الحق - علو الهمة

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌البَابُ الُأوَل المقدمَاتُ

- ‌ما هي الهَمَة

- ‌الهمةُ مولودةٌ مع الآدمي

- ‌لابُدَّ للسالِكِ مِن همةٍ تُسيَّرهُ، وتُرقَِّيهِ، وعلم يُبصِّرُه، وَيهدِيهَ

- ‌أقسَامُ الناس من حيث القوتان العلمية والعملية

- ‌الهمَّة مَحَلهَا القلب

- ‌همة المؤمن أبلغ من عمله

- ‌قوَّةٌ المؤًمِن في قَلُبهِ

- ‌حياة القلب بالعلم والهمة

- ‌لماذا يستبدلون الذي هو أدني بالذى هو خيرٌ

- ‌تَفَاوتُ الِهمَّم ِحَتَّى بَين الحيواَنَاتَ

- ‌تَفَاضُل الناس ِبتفاوفت هِمَمهم

- ‌الباب الثاني خصائصُ كبِير الِهمة

- ‌يَا عَالي الهمَّة بِقَدر ِمَا تتعَنَّى، تنالُ مَا تتمنى

- ‌كبير الهمة لا ينقض عزمه

- ‌عَلَامَ يندَم ُكبَيرُ الهِمَّةَ

- ‌يا كبير الهمة: لا يضرك التفرد فإن طرق العلاء قليلة الإيناس

- ‌أحَوالُ خَسِيس الِهمَّةَ

- ‌أصدق الأسماء حارِث، وَهَمَّام

- ‌عُلوِيَّةُ الرَّوحَ وَسُفِليَّةُ البدَنِ

- ‌عَالِي الِهمَةِ لَا يَقنعَ بِالدوَنِ ولَا يُرضيه إلَا معالي الأمُورِ

- ‌نَدْرَةُ كبيري الِهمَّة فَى الناسِ

- ‌عَالي الهمة لَا يَرضَي بِمَا دُونَ الجنَّةَ

- ‌الدُّنيَا جيفَةٌ، وَالأَسدُ لَاَ يقعُ على الجيَفِ

- ‌لِمَاذَا لَا يوصَفُ الكافِرُ بعلو الِهمَةَ

- ‌استِخفَافُ السَّلَف الصاِلح بِأَعَراض الدنيَا

- ‌عالي الهمة عصامي، لَا عِظَامي

- ‌عَالي الهمةِ شِريف النفسِ يَعُرِف قَدْرَ نَفسِهِ

- ‌خَسيسُ الهِمَّة دَنيءُ النَّفْسِ

- ‌فرُوق تمسُّ الحَاجَة إِلَى بَيَانِهَا

- ‌الفَرْق بَينَ شَرفِ النَّفْسِ وَالتيه

- ‌الفَرق بَين صِيانَةِ النفسِ وَالتكبُّر

- ‌الفَرْقُ بَيْنَ "التَّواضُعِ" وَالمَهَانَةِ

- ‌الفَرْقُ بَينَ المنَافَسَةَ والحَسَدِ

- ‌الفَرُقُ بَينَ حُبِّ الرِّياسَةِ، وَحُبِّ الِإمَامَةِ فِي الدِّينِ

- ‌البابُ الثَّالِثالحَثُّ عَلَى عُلُوِّ الِهمَّةِ في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ

- ‌الصَّحَابَة رضي الله عنهم أَعْلَى الأُمَمِ هِمَّةً

- ‌الباب الرابع مجَالَاتُ عُلُوِّ الهِمَّةِ

- ‌الفَصْلُ الأَوَل عُلُوُّ هِمَّةِ السَّلَفِ الصَّالِح فِي طَلَبِ العِلْمِ

- ‌(1) حِرْصُهُم عَلَى طَلَبِ العِلْمَ الشَّريفِ

- ‌(2) عُلُوّ هِمَّتِهِم فِي قِرَاءَةِ كُتبِ الحَدِيثِ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ

- ‌(3) عُلُوُّ هِمَّتِهِم فِي الرِّحْلَةِ لطِلَب العِلْمِ

- ‌(4) مُعانَقَتهم الفَقْر فِي سَبيل ِالطَّلبِ

- ‌(5) مُعَانَاتهم الجُوع وَالمرَض والشَّدَائِدِ وَالمخاطَرة بِالنفسِ في طَلَبِ العلم

- ‌(6) مُعَانَاتهم والسَّهَر فى طَلَبِ العِلمِ

- ‌(7) حِرصهم على مَجَالِسِ العُلَمَاءِ

- ‌(8) مُبَادَرتهم الأَزمَان حِرصًا عَلى العِلمِ

- ‌(9) عُلُوّ هِمَّتهم فِي مُذَاكَرَةٍ العِلْمِ وَمُدَارَسَتهِ

- ‌(10) عُلوّ هِمِّتِهِم فِي حِفْظِ العلْمِ الشَّريفِ

- ‌(11) شِدَّة محبتهِم للِكتبِ

- ‌(12) عُلُوّ همَّتِهِم فَي نَشْرِ العِلْمِ وَتَعلِيمه

- ‌(13) عُلُوّ هِمَّتِهِم في التَّصنِيفِ

- ‌(14) هِمَمٌ لَمْ تَعْرِف الشيبَ

- ‌(15) عُلُوّ هِمَّتِهِمْ في طَلَبِ العِلْم ِوَتَعْلِيمه حتَّى آخرِ رَمَقٍ

- ‌الفَصلُ الثَّانَىعُلُوّ هِمَّةِ السَّلَفِ فِي العِبَادَةِ والاستقَامَةَ

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثعُلُوّ الهِمَّةَ فِي البَحثِ عَنِ الحَقِّ

- ‌(1) سلَمَانُ الفَارِسيّ .. أنموذج ِمِثَالي لِلبَاحث عَن الحَقيقَةَ

- ‌(2) عُلُوّ هِمَّةَ أبيِ ذرٍّ رضي الله عنه فِي البَحْثِ عَن الحَقِّ

- ‌(3) عُلُوّ هِمَّةَ الشَّيْخ أَبِي مُحَمَّد التّرجُمَان الميُورْقي(756 - 832 هـ) "القسيس انسلم تورميدا" سابقًا أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري

- ‌(4) عُلُوّ هِمَّة الأَخِ "رحمة بورنومو" في بَحْثِهِ عَنِ الدّينِ الحَقِّ

- ‌الفصل الرابععُلُوّ الهِمَّة فِي الدَّعوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كبيرُ الهِمَّة يَحْمِل هَمَّ الأُمَّةِ

- ‌حَرَكة الدَّاعِيةِ

- ‌الحَرَكة قِيَامَة وَبَعثٌ لِلرُّوحِ

- ‌نمَاذِج مِن حَرَكةِ السَّلَفِ فِي الدَّعَوةِ إلَى اللهِ تَعَالى وَحِرْصِهِم عَلَى هِدَايَةِ الخَلْقِ

- ‌وَمِنْ نمَاذِج حِرْصِهِمْ عَلَى تَعْلِيم النَّاسِ العِلْمَ الشَّرِيف:

- ‌مُخاطرتهمْ بأَنفُسِهِمْ في نُصْرَةِ الدِّينِ

- ‌البَرَكة .. في السَّعْي وَالحَركةِ

- ‌الفَاسِقُ ضَالَّة الداعيَةِ

- ‌وَللآخِرينَ حَرَكة في نُصرَةِ البَاطَلِ

- ‌هَلُمَّ فَلنَستَحي مِنَ الله

- ‌الفَصل الخامس

- ‌عُلُوّ الهِمَّة في الجِهَادِ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى

- ‌عُلُوّ هِمَّةِ فَارسِ الإسلَامِ السُّرمَارِي

- ‌عُلُوّ هِمَّة "اللؤلؤ العَادِلي

- ‌الباب الخامس

- ‌الفَصْل الأولحَال الأمَّةِ عندَ سقوطِ الِهمَّةِ

- ‌الفصَل الثانيأسَبابُ انحطَاطِ الهِمَمِ

- ‌ منها: الوهن

- ‌ ومنها: الفتور

- ‌ ومنها: إهدار الوقت الثمين

- ‌ ومنها: العجز والكسل

- ‌ ومنها الغفلة

- ‌ ومنها: التسويف والتمني:

- ‌ ومنها: ملاحظة سافل الهمة من طلاب الدنيا

- ‌ ومنها: العشق

- ‌ ومنها: الانحراف في فهم العقيدة

- ‌ ومنها: الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد

- ‌ ومنها: المناهج التربوية والتعليمية الهدَّامة التى تثبط الهمم

- ‌ ومنها: توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام

- ‌الفَصْل الثالِثمِن أسبَابِ الارتقاءِ بالهِمَّةِ

- ‌ العلم والبصيرة

- ‌ ومنها: إرادة الآخرة، وجعل الهموم همًّا واحدًا:

- ‌ ومنها: كثرة ذكر الموت:

- ‌ ومنها: الدعاء؛ لأنه سنة الأنبياء

- ‌ ومنها: الاجتهاد في "حصر" الذهن

- ‌ ومنها: التحول عن البيئة المثبطة:

- ‌ صحبة أولي الهمم العالية

- ‌ ومنها: نصيحة المخلصين:

- ‌ المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف

- ‌الفَصْل الرابعأطفَالنَا…وَعلُوّ الهِمَّةِ

- ‌الأطفال هم المستقبل:

- ‌ذُو الهِمَّة العَالِية لَا يخْفَى مِنْ زمَانِ الصِّبَا

- ‌سِيمَاهُم في كَلَامِهِم كَمَا هِيَ في وجُوهِهِمُ

- ‌كِبارُ الهِمَّةَ النَّاِبغُونَ .. مُختَصَرُ الطَّرِيقِ إِلَى المَجْدِ

- ‌التَّشجِيِعُ وَأَثَره في النّهُوضِ بِالِهمَّةِ

- ‌اغْتَنِم شَبَابكَ قَبلَ هَرَمِكَ

- ‌الفَصْل الخامِسْأثر عُلُوّ الِهمَّةِ في إصْلَاحَ الفَرْدِ والأُمَّةِ

- ‌من منكم "يوسف" هذه الأحلام

الفصل: ‌(4) علو همة الأخ "رحمة بورنومو" في بحثه عن الدين الحق

(4) عُلُوّ هِمَّة الأَخِ "رحمة بورنومو" في بَحْثِهِ عَنِ الدّينِ الحَقِّ

(1)

إنه رجل ينتسب إلى أب هولندي وأم إندونيسية من مدينة "أمبون" الواقعة في جزيرة صغيرة في أقصى الشرق من جزر إندونيسيا، والنصرانية هي الدين الموروث لأسرته أبًّا عن جد.

كان جده قسيسًا ينتمي إلى مذهب الروتستانت، وكان أبوه أيضًا قسيسًا على مذهب بانتي كوستا، وكانت والدته معلمة الإنجيل للنساء، أما هو نفسه فقد كان قسًّا، ورئيسا للتبشير في كنيسة "بيتل إنجيل سبينوا"، وقد قال وهو يحكي سبب إسلامه:

(لم يخطر ببالي ولو للحظة واحدة أن أكون من المسلمين، إذ إنني منذ نعومة أظفاري تلقيت التعليم من والدي الذي كان يقول لي دائمًا: "إن محمدًا رجل بدوي صحراوي ليس له علم ولا دراية، ولا يقرأ وأنه أمي"، هكذا علمني أبي، بل أكثر من ذلك فقد قرأت للبروفسور الدكتور ريكولدي النصراني الفرنسي قوله في كتاب له: (بأن محمدًا رجل دجال يسكن في الدرك التاسع من النار)، هكذا كانت تساق المفتريات الكثيرة لتشويه شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنذ ذلك الحين تكونَتْ لديَّ فكرة مغلوطة راسخة تدفعني إلى رفض الإسلام، وعدم اتخاذه دينًا لي.

ثم يقول: الواقع أنه لم يكن من أهدافي بحال من الأحوال أن أبحث

(1) من "رجال ونساء أسلموا" للأستاذ عرفات كامل العشي (8/ 63 - 86) بتصرف.

ص: 239

عن دين الإسلام، ولكني كان يحدوني دائمًا دافع لأن أهتدي إلى الحق، ولكن لماذا كنت أبحث عن الحق المجهول؟. ولماذا تركت ديني رغم أنني كنت أتمتع فيه بمكانة مرموقة بين قومي؛ حيث كنت رئيس التبشير المسيحي في الكنيسة، وكنت أحيا بناء على ذلك حياةً كلها رفاهية ويسر، إذن لماذا اخترت الإسلام؟

لقد بدأت القصة على النحو التالي:

في يوم من الأيام أرسلتني قيادة الكنيسة للقيام بأعمال تبشيرية لمدة ثلالة أيام ولياليها في منطقة "دايري" التي تبعد عن عاصمة "ميدان" الواقعة في شمال جزيرة سومطرة بضع مئات من الكيلومترات، ولما انتهيت من أعمال التبشير والدعوة أويتَ إلى دار مسئول الكنيسة في تلك المنطقة، وكنت فِي انتظار وصول سيارة تقلني إلى موقع عملي، وإذا برجل يطلع علينا فجأة، لقد كان معلمًا للقرآن، وهو ما يسمى في إندونيسيا مطوع في الكُتَّاب، وهو المدرسة البسيطة التي تعلم القرآن، لقد كان الرجل ملفتًا للأنظار، كان نحيف الجسم، دقيق العود يرتدي كوفية بيضاء بالية خلقة، ولباسًا قد تبدل لونه من كثرة الاستعمال، حتى أن نعله كان مربوطًا بأسلاك لشدة قدمه، اقترب الرجل مني، وبعد أن بادلني التحية بادرني بالسؤال التالي، وكان سؤالًا غريبًا من نوعه، قال:"لقد ذكرت في حديثك أن عيسى المسيح إله، فأين دليلك على ألوهيته؟ "، فقلت له:"سواء أكان هناك دليل أم لا فالأمر لا يهمك: إن شئت فلتؤمن، وإن شئت فلتكفر"، وهنا أدار الرجل ظهره لي، وانصرف، ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد أخذتُ أفكر في قرارة نفسي، وأقول: هيهات هيهات أن يدخل هذا الرجل

ص: 240

الجنة، لأنها مخصصة فقط لمن يؤمن بألوهية المسيح فحسب، هكذا كنت أعتقد جازمًا آنذاك.

ولكن عندما عدت إلى بيتي وجدت أن صوت الرجل يجلجل في روعي، ويدق بقوة فِي أسماعي، مما دفعني إلى الرجوع إلى كتب الإنجيل بحثًا عن الجواب الصحيح على سؤاله، ومعلوم أن هناك أربعة أناجيل مختلفة أحدها بقلم متى، والآخَر مارك، والثالث لوقا، والرابع إنجيل يوحنا، هذه التسميات أُخِذَتْ لمؤلف كل منها، أي أن الأناجيل الأربعة المشهورة هي من صنع البشر، وهذا غريب جدًّا، ثم سألت نفسي:"هل هناك قرآن بنسخ مختلفة من صنع البشر؟ " وجاءني الجواب الذي لا مفر منه، وهو:"بالطبع لا يوجد"، فهذه الكتب وبعض الرسائل الأخرى هي فقط مصدر تعاليم الديانة المسيحية المعتمدة!

وأخذت أدرس الأناجيل الأربعة فماذا وجدت؟ هذا إنجيل مَتَّى ماذا يقول عن المسيح عيسى عليه السلام؟ إننا نقرأ فيه ما يلي: "إن عيسى المسيح ينتسب إلى إبراهيم وإلى داود

إلخ (1 - 1) إذن من هو عيسى؟ أليس من بني البشر؟ نعم إذن فهو إنسان، وهذا إنجيل لوقا يقول:"ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية"(1 - 33)، وهذا إنجيل مارك يقول:"هذه سلسلة من نسب عيسى المسيح ابن الله"، (: 1) وأخيرًا ماذا يقول إنجيل يوحنا عن عيسى المسيح عليه السلام؟ إنه يقول "في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله"(1: 1)، ومعنى هذا النص هو في البدء كان المسيح، والمسيح عند الله، والمسيح هو الله.

قلت لنفسي: إذن هناك خلاف بارز بين هذه الكتب الأربعة حول

ص: 241

ذات المسيح عيسى عليه السلام أهو إنسان أم ابن الله أم ملك أم هو الله؟ لقد أشكل عليَّ ذلك، ولم أعثر له على جواب، وهنا أحب أن أسأل إخواني النصارى:"هل يوجد في القرآن الكريم تناقض بين آية وأخرى؟ " بالطبع لا - لماذا؟ لأن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، أما هذه الأناجيل فهي من تأليف البشر، إنكم تعرفون ولا شك أن عيسى عليه السلام كان طيلة حياته يقوم بأعمال الدعوة إلى الله هنا وهناك، ولنا أن نتساءل: - ترى ما هو المبدأ الأساسي الذي كان يدعو إليه عيسى عليه السلام؟

هذا إنجيل مارك، يقول: فجاء واحد من الكتبة، وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه (أي المسيح) أجابهم حسنًا، سأله: أية وصية هي الأولى؟ فأجابه يسوع قائلًا: "إن أولى الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا رب واحد"(12: 28 - 29)، هذا اعتراف صريح من عيسى عليه السلام، إذن لو كان عيسى قد اعترف أن الله هو الإلهُ الواحد الأحد فمن هو عيسى إذن؟ لو كان عيسى هو الله أيضًا، فلن تكون هناك وحدانية لله، أليس كذلك؟

ثم واصلت البحث، فوجدت في إنجيل يوحنا نصوصًا تشير إلى دعاء المسيح عليه السلام، وتضرعه إلى الله سبحانه. فقلت لنفسي: لو كان عيسى هو الله القادر على كل شيء فهل يحتاج إلى هذا التضرع والدعاء؟ طبعًا لا، إذن عيسى ليس إلهًا بل هو مخلوق مثلنا، استمع معي إلى الدعاء الذي ورد في إنجيل يوحنا، هذا هو نص الدعاء: "هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد

ص: 242

أكملته" (17 - 3 - 4) وهو دعاء طويل يقول في نهايته: "أيها الرب البار، إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به" (17 - 25 - 26).

هذا الدعاء يمثل اعترافًا من عيسى عليه السلام بأن الله هو الواحد الأحد، وأن عيسى هو رسول الله المبعوث إلى قوم معينين، وليس إلى جميع الناس، فأي قوم هم هؤلاء يا ترى؟ نقرأ جواب ذلك في إنجيل متى (15: 24) حيث يقول: "لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"، إذن لو ضممنا هذه الاعترافات إلى بعضها لأمكننا أن نقول:"إن الله هو الواحد الأحد، وإن عيسى عليه السلام هو رسول الله إلى بني إسرائيل". ثم واصلتُ البحث، فتذكرت أنني حين أكون في صلاتي أقرأ دائمًا العبارات التالية:(الله الأب، الله الابن، الله الروح القدس، ثلاثة في أقنوم واحد)، قلت لنفسي: أمر غريب حقًّا، فلو سألنا طالبًا في الصف الأول الابتدائي "1 + 1 + 1= 3؟ "، لقال:"نعم"، ثم إذا قلنا له:"ولكن أيضًا 3 = 1"، لما وافق على ذلك، إذ إن هناك تناقضًا صريحًا فيما نقول، لأن عيسى عليه السلام يقول في الإنجيل كما رأينا بأن الله واحد، لا شريك له.

لقد حدث تناقض صريح بين العقيدة التي كانت راسخة في نفسي منذ أن كنت طفلاً صغيرًا، وهي: ثلاثة في واحد، وبين ما يعترف به المسيح عيسى نفسه في كتب الإنجيل الموجودة الآن بين أيدينا وهي أن الله واحد أحد لا شريك له، فأيهما هو الحق؟ لم يكن بوسعي أن أقرر آنذاك، والحق يقال، بأن الله واحد أحد، فأخذت أبحث في

ص: 243

الإنجيل من جديد لعلي أقع على ما أريد، لقد وجدت في سفر أشعياء النص التالي:"اذكروا الأوليات منذ القديم، لأني أنا الله وليس آخر الإله، وليس مثلي"(46: 9)، ولشد ما كانت دهشتي عظيمة حين اعتنقت الإسلام فوجدت في سورة الإخلاص قول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوًا أحد} نعم، ما دام الكلامُ كلامَ الله فهو لا يختلف حيثما وجد، هذا هو التعليم الأول أو البديهية الأولى في ديانتي المسيحية السابقة، إذن "ثلاثة في واحد" لم يعد لها وجود في نفسي.

ثم ينتقل الأخ رحمة بورنومو الإندونيسي إلى نقطة جوهرية أخرى جعلته يختار الإسلام دينًا فهو يقول: أما البديهية الثانية في الديانة المسيحية فتقول بأن هناك ما يسمى بالذنب الوراثي أو الخطيئة الأولى، ويُقصد بهذا أن الذنب الذي اقترفه آدم عليه السلام عندما أكل الثمرة المحرمة عليه من الشجرة في الجنة، هذا الذنب سوف يرثه جميع بني البشر حتى الجنين في رحم أمه يتحمل هذا الإثم ويولد آثمًا، فهل هذا صحيح أم لا؟ لقد أخذت أبحث عن حقيقة ذلك، فلجأت إلى العهد القديم فوجدت في سفر حزقيال ما يلي:"الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون، فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقًّا وعدلاً، فحياة يحيا لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه"(حزقيال 18: 20 - 21).

لعل من المناسب هنا أن نذكر ما يقولهُ القرآن الكريم في هذا المقام: {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه

ص: 244

شيء ولو كان ذا قربى} ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "يُولد ابن آدم على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، هذه هي القاعدة في الإسلام، ويوافقها ما جاء في الإنجيل، فكيف يقال:"إن خطيئة آدم تنتقل من جيل إلى جيل، وأن الإنسان يولد آثمًا؟ ".

يقول الآخ "رحمة بورنومو" الإندونيسي: إذن هذه التعاليم المسيحية قد اتضح بطلانها وافتراؤها بنص صريح من الكتاب الموصوف بـ "المقدس" نفسه، وهناك البديهية الثالثة في التعاليم النصرانية التي تقول: إن ذنوب بني البشر لا تغفر حتى يُصلب عيسى عليه السلام، لقد أخذت أفكر في هذه البديهية، وأتساءل:"هل هذا صحيح؟ " وكان الجواب الذي لا مفر منه: بالطبع لا، لأن النص الآنف الذكر من العهد القديم ينفي مثل هذا الاعتقاد بقوله:"فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقًّا وعدلًا، فحياة يحيا لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه"، أي أن الله يغفر ذنوبه دون حاجة إلى أية وساطة من أحد.

ويمضي الأخ الإندونيسي الذي كان قسًّا في يوم من الأيام يحدثنا عما فعل بعد ذلك ضمن رحلته الطويلة من الكفر إلى الإسلام، فيقول: لقد واصلت البحث في عدد من القضايا الاعتقادية الأخرى، لقد وضعت يومًا من الأيام كُلًّا من الإنجيل والقرآن أمامي على المنضدة، ووجهتُ السؤال التالي إلى الِإنجيل قلت له:"ماذا تعرف عن محمد؟ " فقال: "لا شىء، لأن اسم محمد غير مذكور في الإنجيل، ثم وجهت السؤال التالي إلى عيسى كما تحدث عنه القرآن فقلت: "يا عيسى ابن مريم ماذا تعرف عن محمد؟ " فقال: "لقد ذكر القرآن بما لا يدع مجالًا

ص: 245

للشك أن رسولًا لا بد أن يأتي بعدي اسمه أحمد"، يقول تعالى على لسان عيسى عليه السلام:{وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 16] فأي ذلك حق يا ترى؟

ثم يقول: هناك إنجيل واحد هو إنجيل برنابا وهو غير الأناجيل الأربعة التي ذكرناها من قبل، وهذا الإنجيل للأسف حَرَّم رجالُ الدين النصارى على أتباعهم الاطلاعَ عليه، أتدرون لماذا؟ الأرجح أنه لأن هذا الِإنجيل هو الوحيد الذي يتضمن البشرى بسيدنا محمد، وتقل فيه الِإضافات والتحريفات إلى حد أدنى، كما أن فيه حقائق تطابق ما جاء في القرآن الكريم، جاء في إنجيل برنابا (إصحاح 163): وقتئذٍ يسأل التلاميذ المسيح: يا معلم من يأتي بعدك؟ فقال المسيح بكل سرور وفرح: محمد رسول الله سوف يأتي من بعدي كالسحاب الأبيض يُظل المؤمنين جميعًا.

ويمضي الأخ رحمة بورنومو فيقول: ثم قرأت آية أخرى في إنجيل برنابا وهي قوله في (الإصحاح 72): وقتئذ إندرياس (التلميذ) يسأل المسيح: "يا معلم! حين يأتي محمد، ما هي علاماته حتى نعرفه؟ " فقال المسيح: "محمد لا يأتي في عصرنا هذا، وإنما يأتي بعد مئات السنين حين يُحرف الإنجيل، والمؤمنون حينئذ لا يبلغ عددهم ثلاثين نفرًا، فحينئذ يرسل الله سبحانه وتعالى خاتم الأنبياء والمرسلين محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، لقد تردد ذكر ذلك في إنجيل برنابا عدة مرات أحصيتها فوجدت أن فيه خمسة وأربعين آية تذكر محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد

ص: 246

اكتفيت بالآيتين السابقتين على سبيل الاستشهاد.

بعد ذلك يتحدث الأخ المهتدي الجديد من إندونيسيا عن جانب آخر من دراسته المقارنة فيقول: ومن التعاليم البديهية في الديانة المسيحية أن عيسى عليه السلام هو المنقذ المخلِّصُ للعالم، أي أنك إذا آمنت بألوهية عيسى فسوف تنجو، وهذا يعني أنك يمكنك أن تفعل ما تشاء غيرَ آبه بالذنوب والمعاصي ما دمت تؤمن بعيسى كمنقذ لك، شريطة أن تكون على يقين بأنك من التابعين، قلت لنفسي: لا بد أن أبحث في الإنجيل وأعرف الحق من الباطل في ذلك، في سفر أعمال الرسل رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينتوس يقول: الله قد أقام الرب وسُيقيمنا نحن أيضًا بقوته (6: 14)، والقصة كما وردت في التعاليم المسيحية هي كالآتي: أنه لما قبضوا على السيد المسيح عرضوه أمام العدالة فحُكم عليه بالصلب، ثم دُفن فهنا تأتي الآية مناسبة لتلك القصة.

وهنا يعلق الأخ رحمة بورنومو فيقول: لقد تأملت هذه الآية طويلًا ثم قلت: إذا لم يتدخل الله في إقامة المسيح من القبر لبقي مدفونًا تحت التراب إلى يوم القيامة، إذن مادام المسيح لم يستطع إنقاذ نفسه فكيف يكون بوسعه إنقاذ الآخرين؟ هل يليق بإله -كما يزعمون- أن يكون عاجزًا عن ذلك؟ لا أشك لحظة أن كل ذي عقل سيوافقني فيما ذهبت إليه. أليس كذلك؟

ثم يقول: عند ذلك عزمت على الخروج من الكنيسة وعدم الذهاب إليها، كان ذلك في عام 1969 حيث خرجت فعلًا ولم أعد أتردد على الكنيسة، وليس معنى ذلك أنني خرجت ذلك الحين من الديانة النصرانية نفسها، لأنه كما هو معلوم هناك كنائس ومذاهب شتى في

ص: 247

الديانة النصرانية، فهناك الكاثوليك، والبروتستانت، والميثوديست، والبلاي كسلامتن، واليونيتاريان، وغيرها كثير، حتىّ أنني أستطيع أن أقول بأن هناك أكثر من 360 مذهبًا في الديانة النصرانية، وصدق الله العظيم {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} .

قد يقول قائل: وفي الإسلام أيضًا توجد مذاهب وطوائف عدة، فهناك المذاهب الأربعة المعروفة، وهى الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي وغيرها ......

والجواب هو أن أتباع المذاهب .. لا يختلفون في أصول الدين بل يتفقون جميعًا أن الله واحد، لا شريك له، وأن محمدًا رسول الله، كما يتفقون في أركان الإسلام الخمسة، وجوانب الخلاف بينهم في الفروع فقط لا في الأصول، وخلافهم رحمة كما ورد في الأثر، أما في الديانة المسيحية فالأمر مختلف تمامًا إذ الخلاف في صلب العقيدة، وهذا هو الفارق بين الإسلام والمسيحية.

ومهما اختلفت المذاهب في الإسلام فإنك لا تجد مسجدًا يخص مذهبًا معينًا دون سائر المساجد، بل على العكس من ذلك، فإذا نادى المنادي للصلاة تجد كل مسلم يدخل أقرب مسجد ليصلي فيه. ولكن الأمر يختلف تمامًا في الديانة النصرانية: فكل كنيسة تتبع مذهبًا معينًا، ولا يدخلها إلا أتباع ذلك المذهب فحسب، فالكاثوليكي لا يصلي في كنيسة بروتستانتية، والبروتستانتي لا يصلي هو الآخر في كنيسة كاثوليكية، وهكذا.

ثم يمضي الأخ رحمة بورنومو في قصته الشائقة، فيقول: وذات يوم

ص: 248

لقيت صديقًا لي فدعاني إلى الكاثوليكية، وأخذ يعدد مميزات لهذا المذهب لم أجد مثلها في مذهبي البروتستانتي، قال صديقي:"في هذا المذهب توجد حجرة الغفران، وهي عبارة عن غرفة في الكنيسة يجلس فيها قس ذو لحية كثيفة يرتدي لباسًا أسود، ويقعد على كرسي عال، ومن طلب العفو والغفران ذهب إليه، ورددَ بعض الألفاظ غير المفهومة، وما أن يكاد يفرغُ من قراءتها حتى يقال له بأنه بريء من ذنوبه، ويرجع كيوم ولدته أمه، وهكذا قال لي صديقي، وأضاف قائلاً: كل ما تقترف يداك من الذنوب خلال أيام الأسبوع كفيل بأن يُغفر لك عند ذهابك إلى الكنيسة يوم الأحد، وحصولك على الغفران. فأنت لا تحتاج إلى الصلاة، ولا إلى العبادة، ولكن إذا تركت ذلك كله وذهبت إلى القس، واعترفت أمامه، غُفِرت ذنوبك".

يقول الأخ رحمة بورنومو: لقد تذكرت ما يقرره الإسلام في ذلك؛ وهو أن البشر مهما علت رتبة أحدهم لا يمكن أن يُوكَلَ إليه غفران ذنوب العباد، كما أن التوبة والمغفرة لا تُسْقِط التكاليف والفرائض، بل لا بد للتائب من أن يؤدي الصلوات الخمس اليومية في أوقاتها، فإذا تركها فلا قيمة لتوبته وعليه إثم كبير لا يمكن أن يتحمله عنه غيره من الناس {ولا تزر وازرة وزر أخرى} صدق الله العظيم.

ثم يقول: لقد رأيت الداخلين إلى حجرة الغفران في الكنيسة عليهم أمارات الحزن والكآبة لثقل الذنوب، بينما رأيت من يخرج منها وقد علت وجهه ابتسامة الفرح لاعتقاده بأن ذنوبه قد غفرت له، أما أنا فحين جربت تلك الغرفة دخلتها حزينًا وخَرجت منها حزينًا، لماذا يا ترى؟

ص: 249

لأنني كنت أفكر وأتساءل: "هذه ذنوبنا يتحملها القس، ولكن من يتحمل ذنوبه هو؟ " وهكذا لم أقتنع بالكاثوليكية فتركتها، وبحثت عن دين آخر.

ثم يحدثنا الأخ رحمة بورنومو عن المرحلة التالية من رحلته من الشك إلى اليقين فيقول: بعد ذلك تعرفت على طائفة نصرانية أخرى تسمى (شهود يهوه) وهي مذهب آخر من مذاهب النصرانية، لقيت رئيسهم، وسألته عن تعاليم مذهبه، وقلت له:"من تعبدون؟ "، قال:- "الله"، قلت:"ومن هو المسيح" فقال: "عيسى هو رسول الله"، فصادف ذلك موافقة لما كنت أومن به، وأميل إليه، ودخلت كنيستهم فلم أجد فيها صليبًا واحدًا، فسألته عن سر ذلك، فقال:"الصليب علامة الكفر، لذلك لا نعلقه في كنائسنا".

وهكذا رضي الأخ رحمة بورنومو أن يعرف المزيد عن شهود يهوه، وهو يصف هذه الفترة من حياته فيقول: لقد أمضيت ثلاثة أشهر كاملة أتلقى تعاليم ذلك المذهب، وفي نهايتها كان لي الحوار التالي مع رئيس الكنيسة، وكان هولنديًّا. قلت له:"يا سيدي، إذا توفيت على هذا المذهب؛ فإلى أين مصيري؟ " قال: "كالدخان الذي يزول في الهواء"، فقلت متعجبًا:"ولكني لست سيجارة، بل أنا إنسان ذو عقل وضمير".

ثم سألته: "وأين أتجه بعد الممات"، فقال:"تُوضَع في ميدان واسع"، قلت:"وأين ذلك الميدان؟ " قال: "لا أعلم"، قلت:"سيدي إذا كنتُ عبدًا مطيعًا ملتزمًا بهذا المذهب، فهل أدخل الجنة؟ " قال: "لا"، قلت:"فإلى أين إذن؟ " قال: "الذين يدخلون الجنة

ص: 250

عددهم 144 ألف شخص فقط، أما أنت فسوف تسكن الأرض مرة أخرى"، وهنا قاطعته قائلًا: "ولكن يا سيدى قد وقعت الواقعة، فالدنيا خربت"، قال: "أنت لا تفهم حقيقة القيامة، لو كان لديك كرسي وفوقه حشرات مؤذية، هل تحرق الكرسي لتخلص من الحشرات؟ " قلت:"لا"، قال:"بل تقتل الحشرات ويبقى الكرسي سليمًا، وهكذا فتبقى الأرض سليمة بعد تطهيرها من الدنس والخطايا، وعندها ينتقل إليها الناس من ذلك الميدان، فليس هناك ما يسمى بالنار".

وهنا أعملت فكري جيدًا، ودرست الأمر وقلبته، حتى اتخذت القرار الأخير بترك النصرانية بجميع مذاهبها رسميًّا، كان ذلك في عام 1970، وفي أحد الأيام بينما كنت أسير في طريقي بحثًا عن الحق، رأيت معبدًا بوذيًّا جميلًا ضخمًا فاقتربت منه فوجدت فيه عدة تماثيل وصور في السقف تمثل التنين، وعلى الجدران مثل ذلك، كما شاهدت أمام البوابة تمثالين على شكل أسد صامت، وما أن دخلت من البوابة حتى جاءني رجل فأوقفني، وسأل:"إلى أين؟ " قلت: "أريد أن أدخل"، قال:"اخلع نعليك قبل أن تدخل، هذا معبد لنا فاحترم مكان عبادتنا"، قلت في نفسي:"حتى البوذية تعرف النظافة، أما ديانتي السابقه فلا نظافة فيها، أذكر أنني عندما كنت أدخل الكنيسة لم أكن أخلع نعلَّي عند الدخول"(1).

ثم يقول: "لقد جربت الديانة البوذية فترة من الزمن، ولكن سرعان ما تركتها لإحساسي بأنني لم أجد الحق الذي أنشده، ثم اتصلت بالديانة الهندوسية التي بدأت ونشأت في الهند، والتي انتشرت تعاليمها حتى

(1) النظافة هنا ينبغي أن يقصد بها طهارة النعل من النجاسة، وإلا فلا حرج في الصلاة في النعلين الطاهرين، لورود السنة الصحيحة بذلك.

ص: 251

وصلت إلى بعض الجزر الإندونيسية، فأخذت أتنقل بين تلك الجزر التي يوجد فيها نشاط لأتباع هذا الدين، ومكثت معهم فترة من الزمن تعلمت فيها الكثير، وقد نجحت فِي المرحلهّ الأولى إلى درجة أنني أخذت أجربَ الخوارق كالعبور في النار؛ والمشي على المسامير الحادة، وإدخال المسامير إلى أعضاء الجسم إلى غير ذلك، ولكن أيضًا ليس هذا هو ما كنت أبحث عنه".

ثم يضيف الأخ رحمة بورنومو: وذات يوم سألت رئيس المعبد الهندوسي: "ماذا تعبدون؟ "، قال: نعبد "برهما، ويشنو، وشيوا"، برهما: إله الخلق، ويشنو: إله الخير، وشيوا: إله الشر، ثلاثة آلهة تجلت في جسد إنسان واحد اسمه كريشنا الذي يعتبر المنقذ للعالم عند الهندوس، قلت لنفسي:"إذن فلا فرق في أمر الألوهية بين الهندوسية والنصرانية، ولو اختلفت الأسماء فهما يناديان ثلاثة في واحد".

قلت للكاهن الهندوسي: "اشرح لي نشأة كريشنا"، فقال: كان في الهند سنة ألفين قبل الميلاد ملك جبار ظالم لا يرحم حتى أبناءه، فيقتل مولوده الذكر خوفًا من أن يحتل عرشه غصبًا، وفي إحدى الليالي الظلماء كان الملك جالسًا أمام قصره، وإذا بكوكب مضيء يطلع في السماء فوق رأسه، وكان يسير بسرعة مذهلة، ثم توقف في الفضاء وأرسل نوره الباهر على حظيرة الأبقار، فلما سأل الملك رجال العلم والدين، راجعوا كتبهم المقدسة، فقالوا: إن ذلك دليل على تجلي الآلهة في جسم إنسان اسمه سري كريشنا، فقلت في نفسي: هذه القصة بحذافيرها مع تغيير الأشخاص موجودة في الديانة المسيحية، وكنت أحدث بها الناس وأنا قس، والفرق أن القرية المشار إليها هى بيت لحم، والِإنسان

ص: 252

عندنا هو المسيح، فلا فرق إذن بيِن القصتين ولا بين العقيدتين في قضية أساسية هي قضية الألوهية، وقضية هوية المنقذ للعالم.

لقد واصلت حواري مع الكاهن الهندوسي فقلت له: "يا سيدي إذا توفيت وأنا على دينكم، فإلى أين مصيري؟ " قال: "لا أعلم، ولكن عليك أن تمتنع عن قتل الحشرات من أمثال النمل والبعوض وغيرهما"، وقال:"قد تكون هذه الحشرات آباءك وأجدادك الموتى".

ثم يقول: "وفي النهاية قررت أن أترك كل تلك الديانات، ولم يكن أمامي إلا الإسلام الذي لم أكن أريد اعتناقه لما غُرس في نفسي منذ طفولتي من نفور وكراهية لهذا الدين الذي لم كن أعرف عنه إلا الشبهات، كنت أريد البحث عن الحق المجهول وهذا البحث يلزم الجهد والصبر، وذات يوم قلت لزوجتي: اعتبارًا من هذه الليلة لا أريد أن يزعجني أحد، أريد أن أصلي وأتضرع إلى الله، وهكذا أقفلت باب حجرتي ورفعت يدي إلى الله خاشعًا متضرعًا قائلًا: "يا رب: إذا كنت موجودًا حقًّا فخذ بناصيتي إلى الهدى والنور، واهدني إلى دينك الحق الذي ارتضيته للناس".

ويمضي الأخ رحمة بورنومو في حديثه فيقول: والدعاء إلى الله ليس كأي طلب من الطلبات كما أن دعائي إلى الله سبحانه وتعالى لم يكن خلال فترة وجيزة فحسب، بل استمر ذلك زمنًا طويلًا، حوالي ثمانية أشهر، وفي ليلة الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر عام 1971م الموافقة للعاشر من رمضان من نفس العام، وبعد أن فرغت من دعائي المعتاد رحت في نوم عميق، وعندها جاءني نور الهدى من الله عز وجل، إذ رأيت العالم حولي في ظلام دامس، ولم يكن بوسعي أن أرى شيئًا، وإذا بجسم شخص يظهر أمامي، فأمعنت النظر فيه فإذا بنور حبيب يشع منه يبدد الظلمة من حولي، لقد تقدم الرجل المبارك نحوي، فرأيته يلبس

ص: 253

ثوبًا أبيض وعمامة بيضاء، له لحية جعدة الشعر، ووجه باسم لم أر قط مثله من قبل جمالًا وإشراقًا، لقد خاطبني الرجل بصوت حبيب قائلًا:"ردد الشهادتين"، وما كنت حينئذ أعلم شيئًا اسمه الشهادتان، فقلت مستفسرًا:"وما الشهادتان؟ "، فقال:"قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" فكررتهما وراءه ثلاث مرات، ثم ذهب الرجل عني.

يقول الأخ الإندونيسي بعد ذلك: ولما استيقظت من نومي وجدت جسمي مبللاً بالعرق، وسألت أول مسلم قابلته:"ما هي الشهادتان، وما قيمتهما في الإسلام؟ "، فقال:"الشهادتان هما الركن الأول في الإسلام، ما أن ينطقهما الرجل حتى يصبح مسلمًا"، فاستفسرت منه عن معناهما فشرح لي المعنى، وفكرت مليًّا، وتساءلت:"من يكون الرجل الذي رأيته في منامي، وكانت ملامحه واضحة المعالم لي؟ " فلما وصفتها لصديقي المسلم هتف على الفور قائلًا: "لقد رأيت الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم".

ثم يختم الأخ رحمة بورنومو قصته بقوله: وبعد عشرين يومًا من ذلك الحادث وكانت ليلة عيد الفطر سمعت صيحات التكبير يرددها المسلمون من المساجد القريبة من دارنا، فاقشعر بدني واهتز قلبي، ودمعت عيناي لا حزنًا على شيء، بل شكرًا لله على هذه النعمة فالحمد لله الذي هداني أخيرًا إلى ما كنت أبحث عنه منذ سنين، لقد تم ذلك في عام 1971م وقد خَيَّرتُ زوجتي بين الإسلام والمسيحية، فاختارت الِإسلام، والجدير بالذكر أنها كانت فِي طفولتها مسلمة ومن عائلة مسلمة تنصرت بسبب إغراءات المبشرين، وتبعًا لجهلها بأمور دينها الحنيف، كما تبعنا أبناؤنا فاعتنقوا الِإسلام، ومنذ الثاني من شهر فبراير عام 1972 ونحن مسلمون، والحمد الله.

ص: 254