الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(11) شِدَّة محبتهِم للِكتبِ
كان العلماء يحرصون على الكتب، ويوثقون علاقتهم بها، فيدمنون مطالعتها باعتبارها خزائن العلم وكنوزه.
قال المبرد: (ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي،
أما الجاحظ: فإنه كان إذا وقع في يده كتاب، قرأه من أوله إلى آخره، أي كتاب كان،
وأما الفتح: فكان يحمل الكتاب في خفه، فإذا قام من بين يدي المتوكل ليبول أو ليصلي، أخرج الكتاب فنظر فيه، وهو يمشي، حتى يبلغ الموضع الذي يريد، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه.
وأما إسماعيل بن إسحاق: فإني ما دخلت عنيه قط إلا وفي يده كتاب ينظر فيه، أو يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه، أو ينفض الكتب).
وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق وكان ربما سقط فِي جرف أو خبطته دابة.
وقال بعض الوزراء: "يا غلام! ائتني بأنس الخلوة ومجمع
السلوة"، فظن جلساؤه أنه يستدعي شرابًا، فأتاه بسفط (1) فيه كتب.
وقال أحمد بن عمران: (كنت عنه أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع، وقد تخلف في منزله، فبعث غلامًا من غلمانه إلى أبي عبد الله الأعرابي صاحب الغريب يسأله المجيء إليه، فعاد إليه الغلام، فقال: قد سألته ذلك، فقال لي:"عندي قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي معهم أتيت"، قال الغلام:"وما رأيت عنده أحدًا، إلا أن بين يديه كتبًا ينظر فيها، فينظر في هذا مرة وفي هذا مرة"، ثم ما شعرنا حتى جاء، فقال له أبو أيوب:
"يا أبا عبد الله سبحان الله العظيم! تخلفتَ عنا، وحرمتنا الأنس بك، ولقد قال لي الغلام: إنه ما رأى عندك أحدًا، وقلت أنت: معي قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي معهم أتيت"، فقال ابن الأعرابي:
لنا جلساء ما نمل حديثَهم
…
ألبَّاءُ مأمونون غيبًا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
…
وعقلاً وتأديبًا ورأيًا مسددا
بلا فتنة تُخشى ولا سوءِ عشرة
…
ولا نتقي منهم لسانًا ولا يدا
فإن قلت أموات فما أنت كاذبا
…
وإن قلت أحياء فلست مُفْنِدا
ومن الطرائف: "أن الجاحظ كان يكتري الدكاكين من الوراقين، ويبيت فيها للنظر في الكتب".
قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: (فسبيل طالب الكمال في طلب العلم: الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر
(1) السَّفَط: وعاء من قضبان الشجر ونحوها، توضع فيه الأشياء، كالفاكهة ونحوها.
من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة .. فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم، وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قيل:
فاتني أن أرى الديار بطرفي
…
فلعلي أرى الديار بسمعي
وإني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره فكأني وقعت على كنز.
ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية، فإذا به يحتوي على ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميدى، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشاب، وكانت أحمالًا، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه.
ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعدُ في الطلب.
فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع.
فصرت استزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد). ومع ما في الكتب من المنافع العميمة والمفاخر العظيمة، فهي أكرم مال، وأنفس جمال، والكتاب آمَنُ جليس، وأسر أنيس، وأسلم نديم، وأفصح عليم،
ولذلك حرص العلماء على جمع الكتب والنظر فيها:
فهذا ابن حجر رحمه الله يقول عن ابن القيم في كتابه "الدرر الكامنة": "وكان مغرى بجمع الكتب فحَصَّل منها ما لا يحصى، حتى
كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرًا طويلًا سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم".
وخلف "يحيى بن معين" من الكتب مائة قمطر وأربعة عشر قمطرًا وأربعة حباب شرابية مملوءة كتبًا.
وقال ابن حجر عن ابن الملقن: (وكان يقتني الكتب، بلغني أنه حضر في الطاعون العام بيع كتب شخص من المحدثين، فكان وصيه لا يبيع إلا بالنقد الحاضر، قال: فتوجهت إلى منزلي فأخذت كيسًا من الدراهم ودخلت الحلقة فصببته فصرت لا أزيد في الكتاب شيئًا إلا قال: بع له، فكان فيما اشتريت "مسند الإمام أحمد" بثلاثين درهمًا
…
).
والقاضي عبد الرحيم بن علي اللخمي قال عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء": (وبلغنا أن كتبه التي ملكها بلغت مئة ألف مجلد، وكان يحصلها من سائر البلاد).
ومحمد بن عبد الله السلمي المرسي الأندلسي (كتب وقرأ وجمع من الكتب النفيسة كثيرًا، ومهما فتح به عليه صرفه في ثمن الكتب .. ).
وقال الأدفوي: حكى لي شيخنا قَاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن جماعة أنه كان عنده أمين الحكم بالقاهرة، وكان في اجتهاد في تحصيل مال اليتيم، قال شيخنا فأحضر عندي مرة الشيخ "تقي الدين ابن دقيق العيد" وادعى بدين عليه للأيتام، فتوسطت بينهما، وقررت معه أن تكون جامكية المدرسة الكاملية -أي: ما يأخذه من أجر مقابل تدريسه فيها- للدين، وتترك للشيخ جامكية الفاضلية لنفقاته، ثم قال له قاضي القضاة:"أنا أشح عليك بسبب الاستدانة"، فقال ابن دقيق العيد:"ما يوقعني في ذلك إلا محبةُ الكتب".
وقالت زوجة الإمام الزهري رحمه الله: "والله إن هذه الكتب أشدُّ عليَّ من ثلاث ضرائر".
وقال سليمان العامري:
وقائلةٍ أنفقتَ في الكتب ما حوت
…
يمينك من مال فقلت: دعيني
لعلي أرى فيها كتابًا يدلني
…
لأخذ كتابي آمنا بيميني
قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-:
(وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غُلِبَ، وضعه، فدخل عليه الطبيب يومًا وهو كذلك، فقال:"إن هذا لا يحل لك، فإنك تعين على نفسك، وتكون سببًا لفوات مطلوبك".
ودخل الطبيب على أبي بكر الأنباري في مرض موته، فنظر إلى مائه -أي: بوله- فقال:
"قد كنت تفعل شيئًا لا يفعله أحدٌ"، ثم خرج، فقال:"ما يجيء منه شيء"، قال له:"ما الذي كنت تفعل؟ "، قال الأنباري رحمه الله:"كنت أُعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة".
وقال الشيخ "راغب الطباخ" رحمه الله:
(كان علامة حلب الشيخ "أحمد الحجار" رحمه الله يجب اقتناء الكتب، حتى سمعنا أنه رأى كتابًا يُباع، ولم يكن معه دراهم، وكان عليه ثياب، فنزع بعضَها وباعه، واشترى الكتاب في الحال) اهـ.
***
ودخل الشيخ علاء الدين -يعني ابن النفيس- مرة إلى الحمَّام التي في باب الزهومة، فلما كان في بعض تغسيله خرج إلى مَسْلَخ الحمام (1)، واستدعى بدواة وقلم وورق، وأخذ في تصنيف مقالة في النَّبْض إلى أن أنهاها، ثم عادَ ودخل الحمَّام وكمَّل تغسيله".
…
(1) وهو موضع نزع الثياب.