الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآخرة، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلبُ الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتَّت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كُتِب له") (1) اهـ.
ومُشَتَّتُ العزمات ينفق عُمره
…
حيران لا ظَفَرٌ ولا إخفاق
عُلوِيَّةُ الرَّوحَ وَسُفِليَّةُ البدَنِ
ْقال الإمام المحقق "ابن القيم " -رحمه الله تعالى-:
(خُلق بدن ابن آدم من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما، فإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة، وجدت روحه خفة وراحة، فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي، وإذا أشبعه، ونعَّمه، ونوَّمه، واشتغل بخدمته وراحته، أخلد البدن إلى الموضع الذى خُلق منه، فانجذبت الروح معه، فصارت في السجن، فلولا أنها ألفت السجن، لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خلقت منه، كما يستغيث المعذب.
وبالجملة: فكلما خف البدن؛ لطفت الروح، وخفت، وطلبت عالمها العلوي، وكلما ثقل وأخلد إلى الشهوات والراحة؛ ثقلت الروح، وهبطت من عالمها، وصارت أرضية سفلية، فترى الرجل روحه في الرفيق الأعلى، وبدنه عندك، فيكون نائمًا على فراشه، وروحه عند سدرة المنتهى، تجول حول العرش، وآخر واقف في الخدمة ببدنه، وروحه في السفل تجول حول السفليات، فإذا فارقت الروح
(1)"مقاصد المكلفين" ص (371) بتصرف.
البدن، التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى، فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين، وكل نعيم وسرور وبهجة ولذة وحياة طيبة، وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة، ومعيشة ضنك، قال تعالى:{ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا} ، فذِكره: كلامه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، والِإعراض عنه: ترك تدبره والعمل به، والمعيشة الضنك: فأكثر ما جاء في التفسير أنها عذاب القبر، قاله ابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس رضي الله عنهم؛ وفيه حديث مرفوع؛ وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة، فإن النفس كلما وسَّعْتَ عليها، ضَيَّقْتَ على القلب حتى تصير معيشة ضنكًا، وكلما ضيقت عليها، وسَّعت على القلب حتى ينشرح وينفسخ، فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى؛ سَعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة، فآَثِرْ أحسن المعيشتين، وأطيبهما، وأدومهما، وأشْقِ البدن بنعيم الروح، ولا تُشْقِ الروح بنعيم البدن، فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم، ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون، والله المستعان) (1) اهـ.
…
(1)"الفوائد" ص (133 - 134).