الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جماعة التبليغ والدعوة؛ في أحد ركائز أسلوبهم التربوي والتعليمي ألا وهو ضرورة نزع المدعوِّ من بيئته، وغمسه -لفترة كافية- في بيئة أخرى، فيسهل تطبيع هذا التائب بغرس قيم ومفاهيم جديدة، مع تطهيره من القيم المراد نزعها من قلبه، وبصورة سلسة وتلقائية وفعالة، وتفسر الجماعة ذلك بمثال، فتقول:"إذا سقطت الجوهرة في مكان نجس فيحتاج ذلك إلى كثير من الماء حتى تُنَظَّف إذا صببناه عليها وهي في مكانها، ولكن إذا أخرجناها من مكانها سهل تنظيفها بالقليل من الماء"(1).
* ومن أهم أسباب الارتقاء بالهمة:
صحبة أولي الهمم العالية
، ومطالعة أخبارهم.
فالطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي، وإن العبد ليستمد من لحظ الصالحين قبل لفظهم، لأن رؤيتهم تذكره بالله عز وجل، وعن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:"إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر"(2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قال: "هم الذين يُذكَرُ الله لرؤيتهم"(3).
(1)"الصفات الست عند جاعة التبليغ" لمؤلفه محمد الشرقاوي.
(2)
أخرجه ابن ماجه، وابن أبي عاصم في "السنة"، وحسَّنه الألباني بطرقه كما في "الصحيحة" رقم (1332).
(3)
رواه أبو نعيم في "أخبار أصبهان"، والواحدي، والديلمي، كما في "السلسلة الصحيحة" رقم (1646).
ورُوي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال:(كان الربيع بن خُثَيمِ إذا دخل على ابن مسعود لم يكن له إذن لأحد حتى يفرغ كُلُّ واحدٍ من صاحبه، فقال له ابن مسعود: "يا أبا يزيد، لو رآك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرتُ المخبتين").
وقالت العرب: "لولا الوئام لهلك الأنام"(1).
وقال زين العابدين على بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: "إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه".
أنت في الناس تقاس
…
بالذي اخترتَ خليلا
فاصحب الأخيار تعلو
…
وتنل ذكرًا جميلا
عن جعفر قال: (كنت إذا وجدت من قلبي قسوة، نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبتُ أن وجهه وجه ثكلى).
وقال ابن المبارك: (إذا نظرتُ إلى "فضيل" جُدِّد في الحزن، ومقتُّ نفسي).
وكان الإمام أحمد (إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق، أو اتباع للأمر: سأل عنه، وأحب أن يجرى بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله).
ولأن التجريب قبل التقريب، كان الإمام أحمد رحمه الله يدقق في اختيار من يقربه منه ويدنيه، وعُرف عنه ذلك، حتى قال فيه الشاعر:
(1) الوئام هنا: التشبه بالكرام، قال الماوردى في معناه:"لولا الناس يرى بعضهم بعضًا فيُقتدى بهم من الخير، وينتهى بهم عن الشر لهلكوا".
ويُحْسِنُ في ذات الإله إذا رأى
…
مصيمًا لأهل الحق لا يسأم البلا
وإخوانه الأدنون: كل موفق
…
بصيرٍ بأمر الله يسمو إلى العلا
وحكى ابن القيم رحمه الله بعض ما استفاده من ملاحظة شيخ الِإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: (وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، وما كان فيه من الحبس والتهديد والِإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة)(1) اهـ.
وإذا أردت أن تلمس أثر الصحبة العالية الهمة في التسابق إلى الخيرات، فتأمل ما قاله محمد بن على السلمي رحمه الله:"قمت ليلة سحرًا لآخذ النوبة على ابن الأخرم، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئًا، ولم تدركني النوبة إلى العصر".
وقال عليُّ بن الحسين بن شقيق: "قمت لأخرج مع ابن المبارك فِي ليلة باردة من السجد، فذاكرني عند الباب بحديث، أو ذاكرته، فمازلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح".
وهذا الشاعر "محمد إقبال" يدعو الله أن يمنَّ عليه بصاحب عالي الهمة:
هب نَجيًّا يا ولي النعمةِ
…
محرمًا يدرك ما في فطرتي
(1)"الوابل الصيب" ص (76).
هب نجيًّا لقنًا ذا جنة
…
ليس بالدنيا له من صلة
وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: "ما أعطي عبد بعد الإسلام خيرًا من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم وُدًّا من أخيه فليتمسك به".
وقال الحسن البصري: "إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة".
يقول الأستاذ الدكتور "خلدون الأحدب" حفظه الله:
(وإذا نظرنا إلى أولئك الذين استفادوا من لحظات أعمارهم، وكان من نتاجهم وأثرهم ما يعجب أو يدهش، نجدهم لا يصاحبون إلا المجدِّين العاملين، والنابهين الأذكياء، الذين يحرصون على أوقاتهم حرصهم على حياتهم، لأن الزمن هو الحياة.
وصحبة هؤلاء الأمجاد المجدِّين المتيقظين للدقائق والثواني، كان له عظيم الأثر في همَّة مثل الإمام ابن جرير الطبري وابن عقيل الحنبلي وابن عساكر الدمشقي وابن تيمية وابن القيم وابن النفيس والِمزِّيُّ والذهبي وابن حجر وأضرابهم في غزارة إنتاجهم وجدِّته.
يقول الإمام ابن عقيل الحنبلي صاحب كتاب "الفنون" -الذي مَرَّ خيره من قبل (1) -: "وعصمني الله من عنفوان الشبيبة بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّابًا قط، ولا عاشرت إلَّا أمثالي من طلبة العلم".
فالحريص الموفق الذي يروم المعالي، لا تراه إلا مع أهل العلم العاملين، وأولي الفضل والمجاهدة والحِكْمة والبصيرة، ليرشح عليه ما هم فيه أو بعضه، فيكون مثلهم أو قريبًا منهم.
(1) راجع ص (197).
إن صحبة هؤلاء تعلِّم منافسة الزمان.
وصحبة البطَّالين تعلم تضييع الزمان.
قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
"اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب الرجل من هو مثله".
فنعوذ بالله من صحبة البطَّالين) اهـ (1).
وذكر الغزالي رحمه الله أن من آداب المتأدب أن: (يحترز عن مجالسة صاحب السوء، ليُقصي ولاية شياطين الجن والإنس من صحن قلبه، فيصفى عن لوثة الشيطنة)(2).
إن من أقوى البواعث على ارتفاع الهمة أن تطلب صحبة عبد من عباد الله مجتهد في العبادة والعلم، فتلاحظ أقواله وتقتدي به، وكان بعضهم يقول:"كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع وإلى اجتهاده، فعملت على ذلك أسبوعًا".
إلا أن هذا العلاج قد تعذر، إذ قد فُقِد في هذا الزمان من يجتهد في العبادة اجتهاد الأولين فينبغي أن يعدل من المشاهدة إلى السماع فلا شيء أنفع من سماع أحوالهم ومطالعة أخبارهم (3) وما كانوا فيه من الجهد الجهيد، وقد انقضى تعبهم، وبقى ثوابهم ونعيمهم أبد الآباد لا ينقطع.
(1)"سوانح وتأملات في قيمة الزمن" ص (48).
(2)
" أيها الولد" ص (130).
(3)
ومظان ذلك كتب التراجم، "كسير أعلام النبلاء"، و"حلية الأولياء"، وغيرها.