الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَالِي الِهمَةِ لَا يَقنعَ بِالدوَنِ ولَا يُرضيه إلَا معالي الأمُورِ
الهمم الغالية لا تعطي الدنية، ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور:
قلت للصقر وهو في الجو عالٍ
…
اهبط الأرضَ فالهواءُ جديب
قال لي الصقر: في جناحي وعزمي
…
وعَنانِ السماء مرعًى خصيب
وهذا المرعى لا شك يجهله الأرضيون، حيث ثقلة التراب، ومطامع الأرض.
إذا ماكنت في أمرٍ مَروم
…
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
…
كطعم الموت في أمر عظيم
وقال صفي الدين الحِلِّي:
لا يَظهر العجر منا دون نيل مُنى
…
ولو رأينا المنايا في أمانينا
وقال الباروديُّ:
فانهض إلى صَهَواتِ (1) المجد معتليا
…
فالبازُ (2) لم يأو إلا عالي القُلَلِ (3)
ودع من الأمر أدناه لأبعده
…
في لُجَّة البحر ما يغني عن الوَشَلِ (4)
(1) مقعد الفرس: أي: ذرى المجد.
(2)
الصقر.
(3)
قمم الجبال.
(4)
الماء القليل.
قد يظفر الفاتك (1) الألوي (2) بحاجته
…
ويقعدُ العجزُ بالهيَّابةِ (3) الوكلِ (4)
إن عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئًا في الدنيا فسوف يكون زائدًا عليها، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة، بل لا بد أن يكون في صلبها ومتنها عضوًا مؤثرًا:
وما للمرء خيرٌ في حياة
…
إذا ما عُدَّ من سَقَطِ (5) المتاع
وقال على بن محمد الكاتب البُستي:
إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدًا
…
ولم أقتبس علمًا فما هو من عمري
إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته -بحول الله وقوته- ما وراه
غير مستحيلًا، وينجز -بتوفيق الله إياه- ما ينوء به العصبة أولو القوة،
ويقتحم -بتوكله على الله- الصعاب والأهوال، لا يلوي على شيء:
له هِممٌ لا منتهى لكبارها
…
وهمتُه الصغرى أَجَلُّ من الدهر
فمن ثم قيل: "ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة"، لأن الهمم العالية طموحة وثَّابة، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون.
فكن رجلًا رجلُه في الثرى
…
وهامة همته في الثريا
بل إن همته تتجاوز الثريا، ولا تقنع بدون أعلى درجات الجنة.
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- لدُكين لما جاءه: "يا دُكين، إن لي نفسًا توَّاقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نِلتها تاقت إلى الجنة".
(1) الجريء.
(2)
الشديد.
(3)
الذي يخاف الناس.
(4)
العاجز الذي إذا نابه أمر لا ينهض فيه، بل يكله إلى غيره.
(5)
السَّقَطُ: الرديء الحقير من المتاع والطعام.
قال الإمام "ابن الجوزي" رحمه الله:
(من أعمل فكره الصافي؛ دله على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضى بالنقص في كل حال، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيبًا
…
كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه:
فلو كان يُتصور للآدمي صعود السموات، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد، رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض.
غير أنه إذا لم يمكن ذلك، فينبغي أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مُغْفَلِه:
أما في البدن: فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي؛ بل يدخل تحت كسبه تحسينُها، وتزيينها، فقبيح بالعاقل إهمال نفسه، وقد نبه الشارع على الكل بالبعض: فأمر بقصِّ الأظفار ونتف الإبط، وحلق العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيىء لأجل الرائحة، وينبغي له أن يقيس على ذلك، ويطلب غاية النظافة، ونهاية الزينة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعرف مجيئه بريح الطيب، فكان الغاية في النظافة والنزاهة.
ولست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس، ولكن التوسط هو المحمود
…
).
إلى أن قال رحمه الله:
(وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره، ولا يفضل غيره عليه، وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، ثم ينبغي
له أن يطلب الغاية في العلم.
ومن أقبح النقص: التقليد، فإن قويت همته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهبًا، ولا يتمذهب لأحد، فإن المقلد أعمى يقوده مقلده.
ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها، فإن القنوع حالة الأراذل:
فكن رجلًا رِجله في الثرى
…
وهامة همته في الثريَّا
ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالًا، وأنت رجل (1)، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخساستها.
واعلم أنك في ميدان سباق، والأوقات تنتهب، ولا تخلد إلى كسل، فما فات من فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم.
وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور، وقد قال بعض من سلف:
ليس لي مال سوى كرِّي
…
فبه أحيا من العدم
قَنِعَت نفسي بما رُزِقت
…
وتمطَّت في العُلا هممي) (2) اهـ.
ومن غليان الهمة فٍى الصدور يفزع صاحبها إلى المجد فزعًا:
إذا ذُكِرَ المجدُ ألفيتَه
…
تأزَّر بالمجد ثم ارتدى
(1) وقد قيل: "ليس كلمة أضرَّ بالعلم من قولهم: "ما ترك الأول للآخر"، لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلم، قالوا: وليس كلمة أحضَّ على طلب العلم من قول علي رضي الله عنه: "قيمة كل امرىء ما يحسن")، وانظر: "قواعد التحديث" للقاسمي ص (38 - 39).
(2)
"صيد الخاطر"(189 - 192).