الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
عُلُوّ الهِمَّة فِي الدَّعوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كبيرُ الهِمَّة يَحْمِل هَمَّ الأُمَّةِ
من أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، كما يتضح ذلك جليًّا لمن تدبر سورة نوح على سبيل المثال، وكذا قصص سائر المرسلين، حتى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا أتباعهم كمؤمن آل فرعون الذي قال لقومه:{يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا} ، وكحبيب النجار الذي حمل هَم دعوة قومه في الحياة، وأبلغ في النصح لهم بعد الاستشهاد:{قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} .
إذا تأملت قوائم عظماء رجالات الِإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم لرأيت أن "علو الهمة" هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام، واعتز بهم الإسلام، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواء كانوا علماء أو دعاة أو مجددين أو مجاهدين أو مربين أو عُباد صالحين، ولو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم، ولا تزينت بذكرهم صحائف التاريخ، ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين.
وأسوتهم في حمل هَمِّ الأمة -بل في كل باب من أبواب الخير-
هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، الذي شارك المسلمين آلامهم، وكان في حاجتهم حتى حطمه الناسُ صلى الله عليه وسلم،
فعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: "أكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي جالسًا؟ " قالت: "بعد ما حطمه (1) الناس"(2).
ومن أمثلهَ حمل هم الأمة قَول حذيفة رضي الله تعالى عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) الحديث (3)، فإن سياق الحديث يشي بحرص حذيفة على تعميم الانتفاع بالِإرشاد النبوي في زمن الفتنة إلى جميع المسلمين من بعده.
وتأمل استنكاره صلى الله عليه وسلم دعاء الأعرابي: "اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا" وقوله له: "لقد حجَّرت واسعًا"(4)، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:"من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتَب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة"(5).
وقوله صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الجنة: "ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم"(6).
(1) يقال: حَطَمَ فلانًا أهلُه، إذا كبِر فيهم، كأنهم بما حمَّلوه من أثقالهم صيَّروه شيخًا محطومًا.
(2)
رواه الإمام أحمد في "مسنده"، ومسلم، وغيرهما.
(3)
رواه البخاري.
(4)
رواه البخاري.
(5)
رواه الطبراني في "الكبير" عن عبادة، وحسنه الألباني.
(6)
رواه مسلم.
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي
…
سحائبُ ليس تنتظم البلادا
والداعية إلى الله الكبير الهمة يقدر تبعات هذا المقام الرفيع، فهو يظمأ حيث يروي الناس، ويسهر حيث ينامون، ويجوع حيث يشبعون، ويتعب حيث يستريحون، ويقدم حيث يحجمون:
عن عليٍّ رضى الله عنه قال: "كنا إذا احمرَّ البأسُ، ولقي القومُ القومَ، اتَّقَيْنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحدٌ أدني من القوم منه (1) "، وعن البراء رضى الله عنه قال:"كنا والله إذا احمرَّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا لَلذي يحاذي به صلى الله عليه وسلم"(2).
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس، وأجودَ الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة (3) ذات ليلة، فانطلق الناسُ قِبَلَ الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناسَ إلى الصوت (4)، وهو يقول:"لم تُراعوا؛ لم تراعوا (5)، وهو على فَرَسٍ لأبي طلحة عُرْيٍ ما عليه سَرْجٌ، فِي عنقه سيف؛ فقال: "لقد وجدته بحرًا، أو: إنه لبَحَر") (6).
قال صلى الله عليه وسلم: ( .. ولأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته -
(1) رواه أحمد.
(2)
رواه مسلم.
(3)
أي سمعوا صوتًا في الليل، فخافوا أن يهجم عليهم عدو.
(4)
أي أنه صلى الله عليه وسلم سبق، فاستكشف الخبر، فلم يجد ما يُخاف منه، فرجع يُسَكِّنُهم.
(5)
هي كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيسًا، وإظهارًا للرفق بالمخاطب.
(6)
رواه البخاري، والفرس البحر: الواسع الجري.
وأشار بأصبعيه- أفضل من أن يعتكف في مسجدي -أي مسجد المدينة- هذا شهرين (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: "من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"(2).
وعن عبد الكريم أبي أمية قال: "لأن أردَّ رجلًا عن رأي سيئ أحب إليَّ من اعتكاف شهر".
وتصف فاطمة بنت عبد الملك زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فتقول: (كان قد فرَّغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه؛ وصل يومه بليلته).
وقال أبو عثمان شيخ البخاري رحمه الله:
"ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تَمَّ؛ وإلا قمت له بمالي، فإن تم؛ وإلا استعنا له بالإخوان، فإن تم؛ وإلا استعنت بالسلطان".
وكان "الليث بن سعد" رحمه الله: "يجلس للمسائل، يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس؛ لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت".
واعتادت أم الشيخ "محمد رشيد رضا" رحمه الله أن تراه مهتمًّا لأحوال المسلمين إذا ألمَّت بهم أو بأحدهم نائبة، ورأته ذات يوم على
(1) رواه الطبراني في "الأوسط"، والحاكم، وصححه.
(2)
رواه مسلم.
هذه الحال، فقالت له:"مالك؟ هل مات مسلم بالصين؟ ".
وهذا شاعر الدعوة الإسلامية المعاصرة عمر بهاء الدين الأميري، وهو
في جناح طب القلب، موصول الصدر إلى جهاز المراقبة الإلكتروني
بأسلاك تفل من حركته، يُحقن في البطن كل يوم مراتٍ بإبر لإماعة
الدم، وقد جاء الطبيب، يسأل القائم على التمريض عن استراحة
شاعرنا، فيرد عليه باستغراب، وبفهم يختلف عن فهمه، فيقول:
كلا رويدك يا طبيب
…
وقد سألتَ: أما استراحْ؟
هل يستريح الحُرُّ يوقد
…
صدرَه العبءُ الرزاح؟
***