الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِمَاذَا لَا يوصَفُ الكافِرُ بعلو الِهمَةَ
؟
يخطىء بعض الناس حين يصفون بعض شعوب الكفار كالألمان مثلًا أو اليابانيين، أو أفرادهم من المخترعين والباحثين، بالهمة العالية، وهذا خطأ بَيِّن، لأن الهمة العالية حِكر على طلاب الآخرة، وهي -من شرفها وعزتها- تأنف أن تسكن قلبًا قد تنجس بالشرك والكفران، وتلطخ بأقبح معصية في الوجود، قال تعالى:{إنه من يشرك بالله فقد حَرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} ، وقال سبحانه:{ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} ، وقال عز وجل:{إن الله لا يغفر أن يُشركَ به ويَغفِرُ ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا} .
وقد بينَّا أن كمال "الإرادة" بكمال "المراد".
فمن نظر إلى "الِإرادة"، وقطع النظر عن "المراد" وقع في هذا الخطإ البين.
وقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية على ذم الدنيا وتحقيرها، ومدح الآخرة وتعظيمها، وهذا الكافر ليس له مراد إلا تعمير الدنيا، فلها يكدح، وعليها يقاتل، مع إعراضه عن الآخرة، وزهده فيها، أو تكذيبه بالبعث والنشور، قال تعالى:
{إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها
والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}، وقال سبحانه:{وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} ، وقال سبحانه:{قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} ، وقال تعالى:{وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} ، وقال سبحانه:{زُين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا} ، وقال عز وجل:{فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} .
وبين تعالى أن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية فقال عز وجل:
{وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} ، ولذلك شنع على الذين يفضلون الدنيا على الآخرة، ويشتغلون بها عنها؛ فقال تبارك وتعالى:
{بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} ، وقال تعالى:{كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} ، وقال سبحانه:{إنَّ هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يومًا ثقيلاً} ، وقال عز وجل:{فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى} ، وقال سبحانه:{وذر الذين اتخذوا دينَهم لعبًا ولهوًا وغرتهم الحياة الدنيا} .
وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى زهرة الدنيا، فقال سبحانه:
{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرةَ الحياة الدنيا (1) لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} ، وقال للمؤمنين:{ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} .
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيُقال له:"ألم أجعل لك سمعًا، وبصرًا، ومالًا، وولدًا؟ وسخَّرتُ لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس، وترْبَعُ؟ فكنتَ تظن أنك ملاقي يومِك هذا؟ "، فيقول:"لا"، فيقول له:"اليوم أنساك كما نسيتني" رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن خزيمة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما رأيت مثلَ النارِ نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها" رواه الترمذي [حسن].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكرَ اللهِ وما والاه (2)، وعالمًا أو متعلمًا" رواه ابن ماجه [حسن].
وحسبنا أن هذه الدنيا الدنية وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمة واحدة
(1) قال النسفي في "تفسيره": (ولقد شدَّد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة، وعُدد الفسقة، في ملابسهم ومراكبهم، حتى قال الحسن: "لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب") اهـ. (2/ 387).
(2)
ما والاه: أي: ما أحبه الله مما يجري في الدنيا، وقيل: المراد بما يوالي ذكر الله طاعتُه واتباع أمره، وتحنب نهيه، لأن ذكر الله يقتضي ذلك.
بذلك الوصف الحاسم البليغ: "باطل"، قال صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لَبيد:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل" (1).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع على سرير مُرَمَّل (2) بشريط، وتحت رأسه وسادة من أدَمٍ حشوها ليف، فدخل عليه نفر من أصحابه، ودخل عمر، فانحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم انحرافة، فلم يَرَ عمر بين جنبه وبين الشريط ثوبًا، وقد أثَّر الشريط بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما يُيكيك يا عمر؟ "، قال:"والله، إلا أن أكون أعلم (3) أنك أكرم على الله عز وجل من كسرى وقيصر، وهما يعبثان (4) في الدنيا فيما يعبثان فيه، وأنت يا رسول الله بالمكان الذي أرى؟ "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟ "، قال:"بلى"، قال:"فإنه كذلك") (5).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(يُؤتى بأنعمِ أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيُصبَغُ في جهنم صَبغة، ثم يقال له: "يا ابن آدم! هل رأيتَ خيرًا قط؟ هل مَرَّ بك
(1) رواه البخارى.
(2)
أي: "كان السرير قد نسج بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء.
(3)
أي: والله ما يُبكيني إلا أن أكون أعلم
…
إلخ.
(4)
أي: أقبلت عليهما الدنيا، حتى صارا يلعبان بأموالها ومتاعها لعبًا، وأنت لا تجد فراشًا يقي جسمك من تأثير الحصير.
(5)
رواه الإمام أحمد، والشيخان.
نعيمٌ قَط؟ "، فيقول: "لا والله يا ربِّ"، ويُؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيُصبَغ في الجنة صَبغة، فيقّال له: "يا ابنَ آدم! هل رأيت بؤسا قط؟ هل مَر بك شدةٌ قط؟ " فيقول: "لا والله يا رب! ما مَر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط") رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.
فكيف يكون عالَي الهمة مَن أمكنه أن يكون ملِكًا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتقوم الملائكة في خدمته، وتدخل عليه من كل باب:{سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} ، فإذا به يتنكب طريق الإيمان، ويتمرغ في وحل الكفر والفسوق والعصيان، ويزهد في جنة الرضوان، ويأبى إلا أن يكون حطبًا للنيران؟!
ويبذل نفسه وماله وولده في سبيل صد الناس عن سبيل الله، قال تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالًا بعيدًا}، وقال تعالى:{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون} .
وكيف يكون عالَي الهمة من فطره الله على التوحيد، فأفسد فطرته، وآتاه نعمة العقل، فعطَّلَها، وبثَّ له آيات توحيده، ودلائلَ صدقِ رسوله صلى الله عليه وسلم في الآفاق وفي نفسه، وأنزل كتابه المعجز، فأعرض عن ذلك كله، ولم يرفع به رأسًا، وجعل الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، قال تعالى:{ويوم نحشر من كل أمة فوجًا ممن يكذِّبُ بآياتنا فهم يُوزَعُون * حتى إذا جاءوا قال: أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علمًا أمَّاذا كنتم تعملون * ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون} .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يُبغضُ كُلَّ جَعْظَرِيٍّ (1) جَوَّاظٍ (2)، سَخَّابٍ (3) في الأسواقِ، جِيفةٍ (4) بالليلِ، حِمارٍ بالنهارِ، عالمٍ بأمرِ الدنيا، جاهلٍ بأمرِ الآخرةِ" رواه ابن حبان في "صحيحه".
فما أشد انطباق هذا الحديث على هؤلاء الكفار الذين لا يهتمون لآخرتهم، مع علمهم بأمور دنياهم، وفرحهم بما عندهم منه، كما قال تعالى فيهم:{يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} ، وقال سبحانه:{فأعرِض عمَّن تولَّى عن ذِكرنا ولم يُرِدْ إلا الحياةَ الدنيا ذلك مبلغهُم من العلم} ، فهم يجتهدون في العلم بأمور دنياهم، ويُمعِنون في تحصيلها، مع جهلهم التام بأشرف العلوم، وهي علوم الآخرة التي هي شرف لازم لا يزول، دائم لا يُمَل، فجدير بمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير أن يبغضه الله، ويمقته لشقاوته وإدباره، فالله سبحانه وتعالى كرمهم بنعمة العقل، وميزهم بها على العجماوات، فسخروها أعظم تسخير في كل شيء من أغراض الدنيا الخسيسة؛ كالتأنق في الشهوات والمأكل والملبس والترفه، إلا الشيء الذى خُلقوا من أجله، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، واتباع
(1) الجعظري: الفظ الغليظ المتكبر، وقيل: هو الذى ينتفخ بما ليس عنده.
(2)
الجواظ: الجَمُوع المَنوع، وقيل: الكثير اللحم، المُختال في مِشيته.
(3)
السخاب: السخب والصخب بمعنى الصياح، فالسخاب هو كثير الضجيج والخصام، قال ابن الأثير رحمه الله:(وفي حديث المنافقين: خُشُب بالليل، سُخُب بالنهار"، أي إذا جن عليهم الليل سقطوا نيامًا كأنهم خُشُب، فإذا أصبحوا تساخبوا على الدنيا شحًّا وحرصًا) اهـ.
(4)
جيفة: أي: كالجيفة، لأنه يعمل كالحمار طوال النهار لدنياه، وينام طوال الليل كالجيفة التي لا تتحرك.
رسله عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال تعالى في حقهم:{ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً، صم بكم عمي فهم لا يعقلون} ، وقال سبحانه:{أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا} ، وقال -جل وعلا-:{والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} .
وقال -عز مِن قائل- في سورة الروم: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس} يعني الكفار {لا يعلمون} بحكمته تعالى، في كونه، وأفعاله المحكمة، الجارية علي وفق العدل، لجهلهم وعدم تفكرهم {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا} وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم {وهم عن الآخرة} التي هي المطلب الأعلى {هم غافلون} أي: لا يخطرونها ببالهم، فهم جاهلون بها، تاركون لعملها.
وقوله سبحانه: {يعلمون} بدل من قوله: {لا يعلمون} وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه، ويَسُدُّ مَسَدَّه، ليُعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
{ظاهرًا} يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا، فظاهرها: ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها، وباطنُها، وحقيقتُها: أنها مجاز إلى الآخرة، يُتَزَوَّدُ منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، وقيل:{يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا} يعني أمر معايشهم ودنياهم: متى يزرعون؟ ومتى يحصدون؟ وكيف يغرسون؟ وكيف يبنون؟ وحدِّث ولا حرج عن مظاهر استغراق كفار زماننا وبخاصة الغربيون منهم في علوم الدنيا ودقائقها؛ مع إعراضهم التام عن علوم الآخرة.
ومن الكفار من يريد الجنة، ويكدح لنيلها، لكنه يخطىء الطريق إليها، إذ يريد دخولها بعد أن سُدَّت كل الطرق المؤدية إليها إلا طريقًا على رأسه خاتم النبين محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يأبى الإيمان برسالته، والانقياد لشريعته، ويكابر في الحق بعد ما تبين، وظهرت أدلته، أو يكتفي بتقليد الآباء والأجداد، والرؤساء والسادات، فيكون جوابه إذا سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره:"سمعت الناس يقولون شيئًا، فقلته":
عاشوا كما عاش آباء لهم سَلَفُوا
…
وأُورِثُوا الدِّينَ تقليدًا كما وَجَدُوا
لم تنبعث همته للبحث عن الحق، والنظر في الأدلة، في حين أنها كانت تنبعث في الدنيا في طلب سفاسف الأمور وأحقرها، وهؤلاء الذين قال الله فيهم:{وجوه يومئذ خاشعة (1) عاملة ناصبة (2) تصلى نارًا حامية} الآيات، وقال سبحانه فيهم:{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا} ، وقال أيضًا:{وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} .
وكيف يعجب مسلم بكافر، ويمدحه بعلو الهمة بسبب أعمالٍ غايتها تعمير الدنيا وإصلاحها.
ثم إن كان قد فعلها تعبدًا دون أن يُسْلِمَ لله عز وجل فإنها
(1) خاشعة: ذليلة بالعذاب.
(2)
قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم:"هم الرهبان أصحاب الصوامع"، وعن الحسن قال:[لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام، أتاه راهب شيخ كبير مُتَقَهِّل (أي شعِث وسِخ)، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: "يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ "، قال "هذا المسكين طلب أمرًا، فلم يُصِبْهُ، ورجا رجاءً فأخطأه"، وقرأ قول الله عز وجل: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة}] اهـ. من {الجامع لأحكام القرآن} للقرطبي (20/ 72).