الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(14) هِمَمٌ لَمْ تَعْرِف الشيبَ
قال البخاري -رحمه الله تعالى - في "صحيحه":
"وقد تعلَّم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كِبَرِ سِنِّهم".
وعن نعيم بن حماد قال: قيل لابن المبارك: "إلى متى تطلب العلم"، قال:"حتى الممات إن شاء الله".
* وعن ابن معاذ، قال: سألت أبا عمرو بن العلاء: "حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم" فقال: "ما دام تحسن به الحياة".
* ويحدث الِإمام "ابن عقيل" عن همته وهو في عشر الثمانين من عمره، فيقول رحمه الله:
"إني لا يحل لي أن أُضيِّعَ ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشدَّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين".
ما شاب عزمي ولا حَزْمي ولا خُلُقي
…
ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي
وإنما اعتاضَ رأسي غير صِبغته
…
والشيب في الرأس غير الشيب في الهممِ
وقال الزرنوجي: "دخل حسن بن زياد في التفقه وهو ابن ثمانين سنة، ولم يبت على الفراش أربعين سنة".
وقال الحافظ الذهبي في ترجمة "أبي الفرج بن الجوزي" ما نصه:
"وقد قرأ بواسط هو ابن ثمانين سنة بالعشر -أي: بالقراءات القرآنية العشرة- على ابن الباقلاني، وتلا معه ولده يوسف، نقل ذلك ابن نقطة عن القاضي محمد بن أحمد بن الحسن".
والإمام ابن الجوزي هو القائل:
الله أسألُ أن يُطوِّلَ مدتي
…
وأنالَ بالإنعام ما في نيتي
لي همةٌ في العلمِ ما مِن مثلِها
…
وهي التي جَنَتِ النُّحولَ هي التي
كم كان لي من مجلسٍ لو شُبِّهَتْ
…
حالاتُه لَتَشَّبهَتْ بالجنةِ
وذهب الإمام "القفال"(1) يطلب العلم وعمره أربعون سنة، فقال:"كيف أطلب العلم؟، ومتى أحفظ؟ ومَتى أفهم؟ ومتى أعَلِّم الناس؟ "، فرجع، فمرَّ بصاحب ساقية، يسوق على البقر، وكان رِشاء (2) هذا الحبل يقطع الصخر من كثرة ما مَرَّ، فقال:"أطلبه، ولا أتضجر من طلبه"، وأنشأ يقول:
اطلب ولا تضجر من مطلب
…
فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى
…
على صليب الصخر قد أثرا
واستمر يطلب العلم، وصار إمامًا من كبار الأئمة، ومن جهابذة
(1) قيل له القفال؛ لأنه كان ماهرًا في عملها، وانظر "شذرات الذهب"(3/ 207).
(2)
الرِّشاءُ: الحبل، أو حبل الدَّلْوِ ونحوها.
الدنيا.
ويُروى أن الإمام أبا محمد بن حزم رحمه الله طلب العلم وهو في السادسة والعشرين من عمره، قال أبو محمد بن العربي: (وأقام أبو محمد في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه سِتًّا وعشرين سنة، وقال:"إنني بلغت إلى هذا السن، وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات".
وقال في رواية أخرى: (أخبرني الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر، والخلق فيه، فجلس، ولم يركع، فقال له أستاذه -يعني الذي رباه- بإشارة: "أن قم، فصَلِّ تحية المسجد"، فلم يفهم، فقال له بعض المجاورين له: "أبلغتَ هذا السن، ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟ " (1)، وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عامًا، قال:"فقمت، وركعت، وفهمت إذًا إشارة الأستاذ لي بذلك"، قال: فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد، مشاركة للأحباء من أقرباء الميت، دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي:"اجلس، اجلس، ليس ذا وقت صلاة"، فانصرفت عن الميت، وقد خزيت، ولحقني ما هانت على به نفسي، وقلت للأستاذ، دُلَّني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبى عبد الله بن دحون، فدلني، فقصدته من ذلك المشهد، وأعلمته بما جرى فيه، وسألت الابتداء بقراءة العلم، واسترشدته، فدلني على كتاب "الموطأ" لمالك بن أنس رضي الله عنه فبدأت به عليه قراءة
(1) وهي سنة عند جمهور الفقهاء، وواجبة عند أهل الظاهر.
من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام، وبَدأت بالمناظرة".
وعن عمر بن واجب قال: "بينما نحن عند أبي ببلنسية وهو يدرس المذهب إذ بأبي محمد بن حزم يسمعنا ويتعجب، ثم سأل الحاضرين مسألة من الفقه جووب فيها فاعترض في ذلك، فقال له بعض الحضار: "هذا العلم ليس من منتحلاتك" فقام، وقعد، ودخل منزله، فعكف، ووكف منه وابل، فما كف، وما كان بعد أشهر قريبة حتى قصدنا إلى ذلك الموضع؛ فناظر أحسن مناظرة، وقال فيها: "أنا أتبع الحق، وأجتهد، ولا أتقيد بمذهب".
وجاء في ترجمة يحيى النحوي بكتاب "إخبار العلماء" ص 234: أنه كان ملَّاحًا يعبر الناس في سفينته، وكان يحبُّ العلم كثيرًا، فإذا عبر معه قوم من دار العلم والدرس التي كانت بجزيرة الإسكندرية يتحاورون فيما مضى لهم من النظر ويتفاوضونه، يسمعه فتهشُّ نفسه للعلم، فلما قوي رأيه في طلب العلم فكَّر في نفسه، وقال:"قد بلغت نيفًا وأربعين سنة، وما ارتضت بشىء، ولا عرفت غير صناعة الملاحة فكيف يمكنني أن أتعرض لشيء من العلوم؟ "، وفيما هو يفكر إذ رأى نملة قد حملت نواة تمرة وهي دائبة تصعد بها، فوقعت منها فعادت وأخذتها، ولم تزل تجاهد مرارًا حتى بلغت بالمجاهدة غرضها، فقال:"إذا كان هذا الحيوان الضعيف قد بلغ غرضه بالمجاهدة والمناصبة؛ فبالحري أن أبلغ غرضي بالمجاهدة"، فخرج من وقته، وباع سفينته، ولزم دار العلم، وبدأ يتعلم النحو واللغة والمنطق، فبرع في هذه الأمور لأنه أول ما ابتدأ بها، فنُسِبَ إليها واشتهر بها، ووضع كتبًا كثيرة ويحيى
هذا لقي عمرو بن العاص وأعجب عمرو به.
- وكان الشيخ عزُّ الدين بن عبد السلام -الذي ملأ الأرض علمًا وعظمة نفس- في أوَّل أمره فقيرًا جدًّا، ولم يشتغل إلَاّ على كبر.
واشتغل الشيخ أحمد بن إبراهيم بن الحسن القِنائي في العلم وهو ابن ثلاثين سنة، وتفقه، وقرأ النحو وغيره، حتى مهر، وشغل الناس ببلده، وكان يحفظ أربع مائة سطر في يوم واحد، ثم أقبل على الطاعة ولازم الطاعة حتى توفي سنة (728 هـ).
وعُمِّر الشيخ يوسف بن رزق الله طويلًا حتى قارب التسعين، وثقل سمعه، لكن بقيت حواسه كلها سليمة، وهمته همة ابن ثلاثين، مات وهو يباشر التوقيع بصفد سنة 745 هـ.
وطلب الشيخ أحمد بن عبد القادر القِيسي الحنفي النحوي العلوم الكثيرة، وبرع فيها، وأقبل على طلب الحديث في آخر عمره، فتكلم بعض الناس عليه، فأنكر عليهم بأبيات جميلة، قال فيها:
وعاب سماعي للأحاديث -بعدما
…
كبرتُ- أناسٌ هم إلى العيب أقربُ
وقالوا: إمام في علوم كثيرة
…
يروح ويغدو سامعًا يتطلَّبُ
فقلتُ مجيبًا عن مقالتهم وقد
…
غدوتُ لجهل منهمُ أتعجَّبُ
إذا استدرك الإنسانُ ما فات من عُلا
…
للحزم يُعْزَى لا إلى الجهل يُنسَبُ
***