الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذُو الهِمَّة العَالِية لَا يخْفَى مِنْ زمَانِ الصِّبَا
تظهر علامات النجابة ومخايل العبقرية في الصغر، حتى لا يكاد يشك ذو فراسة إيمانية صادقة في صيرورة صاحبها إلى تسنم ذرا العلا، والتربع على قمة المجد، والإرتقاء إلى منصب الإمامة.
ولقد اهتم المسلمون بالاجتهاد في الاكتشاف المبكر للنابغين، ووضعوا لذلك معايير دقيقة، وأوْلَوُا الصغار الذين توسَّموا فيهم النجابة رعاية خاصة ترقبًا لما تفرسوه فيهم من الصدارة.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله:
(تأملت الذين يختارهم الحق عز وجل لوَلايته والقرب منه، فقد سمعنا أوصافهم ومن نظنه منهم، ممن رأيناه.
فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصًا كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته، فتراه حسن الوجه، معتدل القامة، سليمًا من آفة في بدنه، ثم يكون كاملًا في باطنه، سخيًّا جوادًا، عاقلًا، غير خِبٌّ ولا خادع، ولا حقود ولا حسود، ولا فيه عيب من عيوب الباطن.
فذاك الذي يربيه من صغره، فتراه في الطفولة معتزلًا عن الصبيان، كأنه في الصبا شيخ، ينبو عن الرذائل، ويفزع من النقائص، ثم لا تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدِّلًا على أغصان الشباب، فهو
حريص على العلم، منكمش على العمل، حافظ للزمان، مراعٍ للأوقات، ساعٍ في طلب الفضائل، خائف من النقائص.
ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه، لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر، ويمنعه من الخطإ إن همَّ، ويستخدمه في الفضائل، ويستر عمله عنه حتى لا يراه منه) (1) اهـ.
* عن محمد بن الضحاك أن عبد الملك بن مروان قال لرأس جالوت أو لابن رأس جالوت: "ما عندكم من الفِراسة في الصبيان؟ "، قال:"ما عندنا فيهم شيء، لأنهم يُخلَقون خلقًا بعد خلق، غير أنا نرمُقهم، فإن سمعنا منهم من يقول في لعبه: "من يكون معي؟ " رأيناه ذا همة وحُنُوٍّ صَدَقَ فيه، وإن سمعناه يقول: "مع من أكون؟ " كرهناها منه، فكان أولُ ما عُلِم من ابن الزبير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان، وهو صبيٌّ، فمرَّ رجل فصاح عليهم، ففروا، ومشى ابن الزبير القهقرى، وقال: "يا صبيان اجعلوني أميركَم، وشُدُّوا بنا عليه".
وَمرَّ به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صبي يلعب مع الصبيان فَفَرُّوا ووقف، فقال له:"ما لك لم تَفرَّ مع أصحابك؟ "، قال:"يا أمير المؤمنين! لم أجْرِم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة، فأوسِّع لك".
فمثل هذه الشخصية "الواعدة" أحق بقول القائل:
رُفِعَتْ إليكَ وما ثُغِرْ
…
تَ (2) عيونُ مستمعٍ وناظرْ
(1)"صيد الخاطر" ص (441).
(2)
يُقال: ثغر الغلام: إذا سقطت أسنانه الرواضع.
ورأوا عليك ومنك فى الـ
…
ـمهد النُّهى ذات البصائر
* ونظر الحطيئة إلى ابن عباس يتكلم في مجلس عمر، فقال:"من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعَلَاهم في قوله؟ "، فقال ابن مسعود:"لو بلغ أسناننا ما عَشَّره (1) منا رجل".
* ورأى بُكَير بن الأخنس المُهَلَّبَ (2)، وهو غلام، فقال:
خذوني به إن لم يَسُدْ سَرَواتِهم
…
ويبرع حتى لا يكون له مِثْلُ
* وقال حمزة بن بيض لخلَّد بن يزيد بن المهلَّب:
بلغت لعشر مضت من سِنيـ
…
ـك ما يبلغ السيد الأشيبُ
فهمُّك فيها جِسام الأمور
…
وهَمُّ لِدَاتِك (3) أن يلعبوا
* ونظر رجل إلى أبي دُلَف في مجلس المأمون، فقال:"إن همته ترمي به وراء سِنِّه".
* قال يحيى بن أيِوب العابد: حدثنا أبو المثنى قال: (سمعتُهم بمَرْو يقولون: "قد جاء الثوريُّ، قد جاء الثوريُّ"، فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بَقَلَ (4) وجهُه).
قال الذهبي: "كان يُنَوَّهُ بذِكره في صغره من أجل فرط ذكائه
(1) كذا في "عيون الأخبار"(1/ 229)، وعبارة اللسان:"عاشره"، وقال فِي بيانها:"لو كان في السن مثلنا، ما بلغ أحد منا عُشر علمه".
(2)
هو الأمير البطل قائد الكتائب أبو سعيد المهلب بن أبي صُفْزة، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء"(4/ 383).
(3)
لدات: جمع لِدة، واللَّدة: التّرْب، من وُلِد معك.
(4)
بقل وجهه: خرج شعره.
وحفظه، وحدَّث وهو شاب".
وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السَّبيعُّي سفيان الثوريَّ مُقبلًا، فقال:{وآتيناه الحكم صبيًّا} .
* وكان البخاري ذكيًّا سريع الحفظ، فقد حفظ سبعين ألف حديث وهو صغير، وكان ينظر إلى الكتاب، فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة، قال محمد بن حاتم:
(كنت أختلف أنا والبخاري -وهو غلام- إلى الكُتَّاب، فيسمع، ولا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له يكتب مثلنا، فلما بلغ ما كتبناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها منه، وقرأها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه).
* وروى الذهبي عن محمد بن أبي حاتم قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل يقول: (وكنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي، فإذا جئت أستحيي أن أُسلم عليهم، فقال لي مؤدب من أهلها: "كم كتبتَ اليوم؟ "، فقلت: "اثنين" -وأردت بذلك: حديثين- فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: "لا تضحكوا! فلعله يضحك منكم يومًا").
وقال بكر بن منير: سمعت البخاري يقول: (كنت عند أبي حفص أحمد بن حفص، أسمع كتاب "الجامع" لسفيان الثوري، من كتاب والدي، فمرَّ أبو حفص على حرف ولم يكن عندي ما ذكر، فراجعته، فقال الثانية والثالثة، فراجعته فسكت، ثم قال: "من هذا؟ " قالوا: "ابن إسماعيل"، فقال: "هو كما قال، واحفظوا أن هذا يصير يومًا رجلًا").
* وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله تعالى:(كنت يتيمًا في حجر أمي، فدفعتني إلى الكُتَّاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما جمعتُ القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث والمسألة فأحفظها، فلم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى العظم فآخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحته في جَرَّة، فاجتمع عندي حُبَّان)(1).
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: (كنت وأنا في الكتاب أسمع المعلم يلقِّن الصبي الآية، فأحفظها أنا، ولقد كان الصبيان يكتبون إملاءهم، فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملي، فقال لي ذات يوم: "ما يحل لي أن آخذ منك شيئًا").
قال: (ثم لما أن خرجت من الكتاب كنت ألتقط الخزف، والرقوق (2)، وكَرَبَ (3) النخل، وأكتاف الجمال، أكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين، وأستوهب منها الظهور، فأكتب فيها، حتى كان لأمي حُبان، فملأتهما أكتافًا) اهـ.
* وحفظ الإمام أحمد بن حنبل القرآن في صباه وتعلم القراءة والكتابة، ثم اتجه إلى الديوان يمرن على التحرير، ويقول عن نفسه:"كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتَّاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربعَ عشرةَ سنة"، وكانت نشأته فيها آثار النبوغ والرشد حتى قال
(1) الحُبُّ: وعاء الماء كالزير والجرَّة.
(2)
الرقوق: جمع رَقٍّ، جلدٌ رقيق يُكْتَب فيه، والصحيفة البيضاء.
(3)
الكَرَب: الأصل العريض للسعف إذا يبس.
بعض الآباء: "وأنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحوق، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، انظروا كيف!! " وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته.
وكان عمه يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم بها الخليفة، وقد أرسلها مرة مع ابن أخيه أحمد بن حنبل فتورع عن ذلك ورمى بها في الماء تأثمًا من الوشاية والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر بالمسلمين، وقد لفت هذا الورع وهذه النجابة كثيرًا من أهل العلم والفراسات حتى قال الهيثم بن جميل:"إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه".
* وقال الحافظ ابن عبد الهادي بن قدامة رحمه الله: (بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال: "سمعت أن في هذه البلاد صبيًّا يقال له: أحمد بن تيمية سريع الحفظ، وقد جئت قاصدًا لعلي أراه"، فقال له خياط: "هذه طريق كُتَّابه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهبًا إلى الكُتَّاب"، فلما مر قيل: "ها هو الذي معه اللوح الكبير"، فناداه الشيخ، وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الحديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثًا، وقال له: "اقرأ هذا"، فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه، ثم قال: "اسمعه عليَّ"، فقرأه عليه عرضًا كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتخبها، فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ، وهو يقول: "إن عاش هذا الصبي ليكوننَّ له شأن عظيم، فإن هذا لم يُرَ مثله"، فكان كما قال)(1) اهـ.
(1)"غاية الأماني"(2/ 169 - 170).