الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ماتوا وغُيِّبَ في التراب شُخوصُهم
…
والنَّشْرُ مِسْكٌ والِعظامُ رميمُ
وينصح الإمام ابن الجوزي طالب العلم قائلًا: (فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم وعلوِّ هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة.
وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية، فيقتدي بها المبتدي، ولا صاحبَ ورع فيستفيد منه الزاهد.
فاللهَ اللهَ وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال:
فاتني أن أرى الديارَ بطَرْفي
…
فلعلي أرى الديار بسَمْعي).
ثم بيَّن رحمه الله ثمرة مطالعة كتب الأقدمين قائلًا: (فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع)(1) اهـ.
*
ومنها: نصيحة المخلصين:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: " (إن الدينَ النصيحةُ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(2)
- وقد يكون هذا الناصح الأمين أبًا شفيقًا:
قال سفيان بن عيينة: (قال لي أبي -وقد بلغت خمس عشرة سنة-: "إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله"، فجعلت وصية أبي قِبْلَة أميل إليها، ولا أميل عنها).
- وقد يكون أمًّا رحيمة:
(1)"صيد الخاطر" ص (366 - 367).
(2)
رواه مسلم وغيره.
فهذه أسماء ذات النطاقين توصي ابنها عبد الله بن الزبير لما استنصحها: (الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامض عليه، ولا تُمَكِّنْ من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: "إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي"، فليس هذا فعل الأحرار ولا مَن فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير، والله لضربة بالسيف في عِزٍّ أحبُّ إليَّ من ضربة بالسوط في ذل)، فقال:"يا أماه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني"، قالت:"يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله".
- وقد يكون الناصح الأمين زوجة تحضه على الخير، وترقِّي همته، كامرأة حبيب أبي محمد التي انتبهت ليلة، وهو نائم، فأنبهته في السحر، وقالت:"قم يا رجل فقد ذهب الليل، وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قُدَّامنا، ونحن قد بقينا"، أو كالزوجة الصالحة العاقلة الذكية الدَّيِّنة "مَوْضِي بنت أبي وهطان" زوجة الأمر محمد بن سعود رحمه الله، والتي كان لنصيحتها أكبر الأثر في نصرة أعظم حركة تجديدية شهدتها الأمة منذ أوائل القرن الثاني عشر الهجري حتى يومنا هذا، فإنها هي التي حثت زوجها على مناصرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وشَدِّ أزره، وإشهارِ سيفه من غمده نصرةً لدعوة التوحيد.
- وقد يكون الناصح الأمين رجلًا من عوام المسلمين:
قال الإمام أحمد في وصف محنته: (صرنا إلى الرحبة، ورحلنا منها
في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال:"أيكم أحمد بن حنبل؟ "، فقيل له:"هذا"، فقال للجمال:"على رِسْلِك"، ثم قال:"يا هذا، ما عليك أنْ تُقتل ها هنا، وتدخل الجنة؟ "، ثم قال:"أستودعك الله"، ومضى، فسألت عنه، فقيل لي:(هذا رجل من العرب، من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يُقال له: "جابر بن عامر" يُذكَر بخير)(1).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: (ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلَّمني بها في "رحبة طوق" (2)، قال:"يا أحمد! إن يقتلك الحق مُتَّ شهيدًا، وإن عِشْتَ عِشْتَ حميدًا"، فقوي قلبي) (3).
وحكى الحافظ ابن كثير رحمه الله (أن أعرابيًّا نصح الإمام أحمد في المحنة، فقال: (يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤمًا عليهم، وأنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا؛ فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله، فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تُقْتَلَ"، قال الإمام أحمد: "وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه")(3).
وما أحسن ما كتب رجل أسره الصليبيون في بيت المقدس من أبيات على لسان المسجد الأقصى يخاطب صلاح الدين الأيوبيَّ رحمه الله تعالى:
(1)"سير أعلام النبلاء"(11/ 241).
(2)
بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات.
(3)
"السابق"(11/ 241).
يا أيها الملك الذي
…
لمعالم الصُّلبانِ نكَّسْ
جاءت إليك ظُلامةٌ (1)
…
تسعى من البيت المقدَّسْ
كُلُّ المساجد طُهِّرَتْ
…
وأنا -على شرفي- مُنَجَّسْ
- أما نصائح العلماء فلا تسل عن حسنها وعميق أثرها في انبعاث الهمة:
(سيق الإمام أحمد إلى المأمون مقيدًا بالأغلال، وقد توعده وعيدًا شديدًا قبل أن يصل إليه، حتى قال الخادم للإمام أحمد: "يَعُزُّ عَليَّ يا أبا عبد الله، أن المأمون قد سَلَّ سيفًا لم يسلَّه قبل ذلك، وأنه يُقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف" (2)، فانبري أبو جعفر الأنباري يشد أزر الإمام، قال رحمه الله:(لما حُمِل أحمد إلى المأمون أخبرتُ، فعبرتُ الفرات، فإذا هو جالسٌ في الخان، فسلمت عليه، فقال: "يا أبا جعفر! تعنَّيْتَ"، فقلت: "يا هذا، أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليُجيبنَّ خَلْقٌ، وإن لم تُجِب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك، فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب"، فجعل أحمد يبكي، ويقول: "ما شاء الله! "، ثم قال: "يا أبا جعفر، أعِدْ"، فأعدتُ عليه وهو يقول: "ما شاء الله! ")(3).
وقال الإمام أحمد رحمه الله واصفًا حال رفيقه في المحنة: (ما رأيت أحدًا -على حداثة سنه، وقَدر علمه- أقومَ بأمر الله من محمد بن
(1) الظُّلامة: ما يطلبه المظلوم، وهو اسم ما أخذ منه ظلمًا.
(2)
"البداية والنهاية"(1/ 332).
(3)
"سير أعلام النبلاء"(11/ 238).