الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لوقته أكثر مما كان يجب على السلف.
وما أصدق تصويرَ إمامِ تركيا "بديع الزمان سعيد النورسي" رحمه الله لهذه الحقيقة حين يقول: (إن هذه المدنية السفيهة، المصيِّرة للأرض كبلدة واحدة، يتعارف أهلها، ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباحًا ومساءً، غلظ بسببها وتكاثف بملاهيها حجاب الغفلة، بحيث لا يُخرق إلا بصرف همة عظيمة)] (1) اهـ.
*
ومنها: التسويف والتمني:
وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلما همت نفسه بخير، إما يعيقها بـ "سوف" حتى يفجأه الموت، فيقول:{ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب} ، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يُدمن ركوبه مفاليس العالم، كما قيل:
إذا تمنيت بتُّ الليلَ مغتبطًا
…
إن المنى رأسُ أموال المفاليس
وبضاعة رُكَّابه: مواعيد الشيطان، وخيالات المحال والبهتان، فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة، والخيالات الباطلة، تتلاعب براكبه، كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهيِنة خسيسة سفلية، ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الدنية .... فيتمثل المتمني صورة مطلوبة في نفسه، وقد فاز بوصلها، والتذ بالظفر بها، فبينما هو على هذه الحال"، إذ استيقظ فإذا يده والحصير (2).
(1)"الرقائق" ص (57 - 59).
(2)
انظر: "مدارج السالكين"(1/ 456 - 457)، وقد جاء في بعض الكتب:=
وانتبه من رقدة الغفـ
…
ـلة، فالعمر قليل
واطَّرِحْ "سوف" و"حتى"
…
فهُما داءٌ دخيل
قال رجل لابن سيرين: "إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح! فما تفسير هذه الرؤيا؟ "، فقال له: (أنت رجل كثير الأماني والأحلام".
وما أحسن ما قال "أبو تمام":
من كان مرعى عزمه وهمومه
…
روضَ الأماني لم يزِل مهزولا
وعن الحسن قال: (المؤمن من يعلم أن ما قال الله عز وجل كما قال، والمؤمن أحسن الناس عملًا، وأشد الناس خوفًا، لو أنفق جبلًا من مال ما أمن دون أن يُعاين، لا يزداد صلاحًا وبرًّا وعبادة إلا ازداد فَرَقًا، يقول: "لا أنجو، لا أنجو"، والمنافق يقول: "سواد الناس كثير، وسيُغفر لي، ولا بأس عليَّ"، يسيء العمل، ويتمنى على الله تعالى)(2).
وقال "المتنبي" منزهًا نفسه عن الاستغراق في أحلام اليقظة، ومبينًا كيف ألف الحقائق، واعتاد ركوب المخاطر:
= (أن ناسكًا كان له عسل وسمنٌ في جَرَّة، ففكَّر يومًا، فقال: "أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشترى خمسة أعنُزٍ فأولِدُهُنَّ في كل سنة مرتين؛ ويبلغ النَّتاجُ في سنين مائتين، وأبتاع بكل أربعٍ بقرة، وأصيب بَذْرًا فأزرع، ويَنْمِي المالُ في يدى، فأتخذ المساكنَ والعبيدَ والإماءَ والأهلَ، ويُولَدُ لي ابنٌ فأُسَمِّيه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربتُ بعصاي رأسه"، وكانت في يده عصا، فرفعها حاكيًا للضرب، فأصابت الجرة فانكسرت، وانصبَّ العسلُ والسمن على رأسه) اهـ. من "عيون الأخبار"(3/ 263 - 264):
(2)
"الزهد" لابن المبارك ص (188).