الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توفي السفاح ووليّ عهده المنصور غائب بمكة، فأخذ له البيعة على الناس ابن عمه موسى بن عيسى.
680 - [أبو مسلم الخراساني]
(1)
أبو مسلم الخراساني صاحب دعوة بني العباس ومنشئها، واسمه: عبد الرحمن بن مسلم، قيل: إنه من العرب، وقيل: من العجم، وقيل: من الأكراد، وفي ذلك يقول أبو دلامة بعد قتله:
أبا مجرم ما غير الله نعمة
…
على عبده حتى يغيرها العبد
أفي دولة المنصور حاولت غدره
…
ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد
أبا مجرم خوفت بالقتل فانتحى
…
عليك بما خوفتني الأسد الورد
ذكروا أن أباه رأى في المنام كأنه جلس للبول، فخرج من إحليله نار وارتفعت في السماء، وسدت الآفاق، وأضاءت الأرض، ووقعت بناحية المشرق، فقص رؤياه على عيسى بن معقل العجلي، فقال: إن في بطن جاريتك غلاما يكون له شأن أو كما قال.
ثم فارقه ومات، فوضعت الجارية أبا مسلم، فنشأ عند عيسى بن معقل، واختلف مع ولده إلى المكتب، فكان أديبا لبيبا يشار إليه في صغره.
ثم إنه اجتمع على عيسى بن معقل وأخيه إدريس-جد أبي دلف العجلي-بقايا من الخراج تقاعدا من أجلها عن حضور مؤدي الخراج بأصبهان، فأنهى عامل أصبهان خبرهما إلى خالد بن عبد الله القسري والي العراقين، فأنفذ إلى الكوفة من حملهما إليه، فسجنهما، فصادفا في السجن عاصم بن قيس العجلي محبوسا في سبب من الأسباب، وقد كان عيسى بن معقل أنفذ أبا مسلم إلى قرية من رستاق فاتق لاحتماله غلتها، فلما بلغه أن عيسى حبس .. باع ما كان احتمله من الغلة، وأخذ ما اجتمع عنده من ثمنها ولحق بعيسى، فأنزله عيسى بداره في بني عجل، فكان يختلف إلى السجن ويتعهد عيسى وإدريس ابني معقل، وكان قد قدم الكوفة جماعة من نقباء الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب مع عدة من شيعته، فدخلوا على العجليين السجن مسلّمين، فصادفوا أبا مسلم
(1)«وفيات الأعيان» (3/ 145)، و «سير أعلام النبلاء» (6/ 48)، و «تاريخ الإسلام» (8/ 581)، و «مرآة الجنان» (1/ 285)، و «شذرات الذهب» (2/ 131).
عندهم، فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه وأدبه، ومال هو إليهم، وعرفهم أنه عرف أمرهم، وأنهم دعاة، واتفق مع ذلك أن هرب عيسى وإدريس من السجن، فعدل أبو مسلم من دور بني عجل إلى هؤلاء النقباء، ثم خرج معهم إلى مكة حرسها الله تعالى، فورد النقباء على إبراهيم بن محمد بن علي-وقد تولى الإمامة بعد وفاة أبيه-بعشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم، وأهدوا إليه أبا مسلم، فأعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه، فأقام أبو مسلم عند الإمام يخدمه حضرا وسفرا.
ثم إن النقباء عادوا إلى إبراهيم بن الإمام في بعض السنين، وسألوه رجلا يقوم بأمر خراسان، فقال: إني قد جربت هذا الأصبهاني، وعرفت ظاهره وباطنه، فوجدته حجر الأرض، ثم دعا أبا مسلم، وقلده الأمر وأرسله إلى خراسان، فدخل خراسان وهو شاب، ونهض بالدعوة وهو ابن ثمان عشرة سنة، وقيل: ابن ثلاث وثلاثين سنة، فكان يدعو الناس إلى رجل من بني هاشم، وإلى الرضي من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنين، ومروان بن محمد يحتال على الوقوف على حقيقة الأمر، وأن أبا مسلم إلى من يدعوهم؟ فلم يزل على ذلك حتى ظهر له أن الدعوة لإبراهيم الإمام، وكان مقيما عند أهله وإخوته بكداب بناحية البلقاء، فأرسل إليه وقبض عليه، وأحضره إلى عنده بحران، وأوصى إبراهيم بالأمر بعده لأخيه السفاح، فلما وصل إبراهيم إلى حران .. حبسه مروان بها، ثم غمه بحران بموضع فيه نورة وجعل فيه رأسه، ثم شد عليه إلى أن مات، ولم يزل أبو مسلم يتحيل بإعانة رجال من شيعة بني العباس وبعثاتهم، وأقام على ذلك أربع سنين حتى وقف على مرو فملكها، وكان أول ظهور أبي مسلم بمرو من خراسان في سنة تسع وعشرين ومائة، والوالي بخراسان يومئذ من جهة مروان بن محمد نصر بن سيار، فكتب نصر بن سيار إلى مروان بقول ابن أبي مريم البجلي الكوفي:[من الوافر]
أرى خلل الرماد وميض نار
…
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالزندين تورى
…
وإن الحرب أولها كلام
لئن لم يطفها عقلاء قوم
…
يكون وقودها جثث وهام
أقول من التعجب ليت شعري
…
أأيقاظ أمية أم نيام
فإن كانوا لحينهم نياما
…
فقل قوموا فقد حان القيام
وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة وثب أبو مسلم على مقدم خراسان، وخرج من خراسان بعد
أن أحكمها وضبطها، وقاد بها جيشا هائلا، ومهد لبني العباس بعد أن قتل أمما لا يحصون محاربة وصبرا، فكان حجاج زمانه.
وحج فأمر مناديا في طريق مكة: برئت الذمة من رجل أوقد نارا بعسكر الأمير، فما زال يغدّي الركب ويعشيهم حتى بلغ مكة، وأوقف في المسعى خمس مائة وصيف على رقابهم المناديل يسقون الناس الأشربة من سعى من الحاج بين الصفا والمروة، ولما وصل الحرم ..
نزل وخلع نعله ومشى حافيا تعظيما للحرم.
وبلغه موت السفاح وهو وأبو جعفر في الطريق راجعين من الحج، فجهزه المنصور لمحاربة عمه عبد الله بن علي، وكان قد دعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح عهد إليه الأمر، وأقام بذلك شهودا، فالتقى هو وأبو مسلم بنصيبين، فاقتتلا أشد القتال، ثم انهزم عبد الله بن علي إلى البصرة وبها أخوه، وحاز أبو مسلم خزائنه، وكان فيها ما لا يحصى من الأموال والذخائر؛ لأن عبد الله بن علي كان قد استولى على جميع أموال بني أمية وذخائرهم، فكتب المنصور أخو السفاح إلى أبي مسلم: أن احتفظ بما في يدك، فصعب ذلك على أبي مسلم، وعزم على خلع المنصور، وسار إلى خراسان، فلم يزل المنصور يستعطفه ويمنيه حتى وصل إلى بين يديه، وكان قد صدر من أبي مسلم إساءات وقضايا غير ما ذكرناه غيرت قلب المنصور عليه.
منها: كان إذا كتب إلى المنصور .. بدأ بنفسه.
ومنها: أنه خطب إليه عمته آسية، وزعم أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس، فعزم المنصور على قتله، فقال المنصور لسالم بن قتيبة بن مسلم الباهلي: ما ترى في أبي مسلم؟ فقال: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَاّ اللهُ لَفَسَدَتا} فقال: حسبك يا ابن قتيبة، لقد أودعتها أذنا واعية، وكان قد حج أبو مسلم في تلك السنة أيضا، فلما رجع من حجه ..
دخل على المنصور، فرحب به ثم أمره بالانصراف إلى مخيمه، وانتظر المنصور فيه الفرص والغوائل، ثم إن أبا مسلم ركب إليه مرارا وهو يظهر له التحنن، ثم جاءه يوما، فقيل له:
إنه يتوضأ، فقعد له تحت الرواق، ورتب المنصور له جماعة يقفون وراء الستر، ثم إذا عاتبه وضرب يدا على يد .. خرجوا عليه وضربوا عنقه، ثم جلس المنصور وأذن له، فدخل فسلم، فرد المنصور وأمره بالجلوس، وحادثه ثم عاتبه، فقال: فعلت وفعلت يعدد عليه زلاته، فقال أبو مسلم: لي هذا بعد سعيي واجتهادي وما كان مني؟ ! فقال: يا ابن الخبيثة؛ إنما فعلت ذلك بجدنا وحظنا، ولو كان مكانك أمة سوداء .. لعملت عملك،
ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك قبلي؟ ! ألست الكاتب تخطب عمتي آسية، وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله بن عباس؟ ! لقد ارتقيت-لا أم لك-مرتقى صعبا، فأخذ أبو مسلم يده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور وهو آخر كلامه: قتلني الله إن لم أقتلك، ثم صفق بإحدى يديه على الأخرى، فخرج إليه الذين أعدهم وراء الستر، فخبطوه بسيوفهم حتى مات، وذلك برومية المدائن لخمس بقين من شعبان من سنة سبع وثلاثين ومائة، ولما قتله .. أدرجه في بساط، فقال له جعفر بن حنظلة: عدّ-يا أمير المؤمنين-هذا اليوم أول خلافتك، ثم أقبل المنصور على من حضره وأبو مسلم طريح بين يديه وأنشد:[من السريع]
زعمت أن الدين لا ينقضي
…
فاستوف بالكيل أبا مجرم
فاشرب بكأس كنت تسقي بها
…
أمرّ في الحلق من العلقم
وكان المنصور بعد ما قتل أبا مسلم كثيرا ما ينشد جلساءه: [من الطويل]
وأقدم لما لم يجد عنه مذهبا
…
ومن لم يجد بدا من الأمر أقدما
قيل: ومن هنا أخذ البحتري قوله في مدح الفتح بن خاقان صاحب المتوكل على الله وقد لقي أسدا في طريقه، فلم يقدر عليه، ثم أقدم عليه فقتله الفتح، والمقصود منه قوله:[من الطويل]
فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا
…
وأقدم لما لم يجد عنك مهربا
كان أبو مسلم فصيحا بالعربية والفارسية، خافض الصوت، حلو المنطق، راوية للشعر، عالما بالأمور، لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا في وقته، ولا يكاد يغضب، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يرى مكتئبا، إذا غضب .. لم يستفزه الغضب ولا يأتي النساء في السنة إلا مرة، وكان من أشد الناس غيرة، قيل له: بم بلغت ما بلغت؟ قال: ما أخرت أمر يومي إلى غدوة.
وكان ينظر في الملاحم، فوجد فيها خبره، وأنه يميت دولة ويحيي دولة، وأنه يقتل في بلاد الروم، فقتله المنصور برومية المدائن التي بناها الإسكندر ذو القرنين، وكان قد طاف الأرض شرقا وغربا، ولم يختر منها منزلا سوى المدائن، فنزلها وبنى رومية المذكورة، ولم يخطر ببال أبي مسلم أنها موضع قتله، بل راح وهمه إلى بلاد الروم، فسبحان من لا يزول ملكه.