الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألف دينار، وكتب الكتابين بين محمد وعبد الله بما جعل لكل واحد منهما، وشرطه على أخيه، وأشهد في الكتب وجوه من حضر من القضاة والهاشميين وغيرهم، وجعل الكتابين في البيت الحرام، وتقدم إلى الحجبة بحفظهما، وأن يعلقوهما في كل سنة أيام الحج منشورين، فصنع الحجبة لهما قصبا من فضة، وكلّلوهما بصنوف الياقوت واللؤلؤ والجوهر (1).
وفيها: مات العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ببغداد عن ست وستين سنة، والمغيرة بن عبد الرحمن الحزامي فقيه المدينة بعد مالك-قيل: عرض عليه الرشيد قضاء المدينة فامتنع-وخالد بن الحارث البصري، وحاتم بن إسماعيل بخلف، وعباد بن العوام، وعيسى بن موسى الملقب: غنجار.
***
السنة السابعة والثمانون
فيها: خلعت الروم ملكتهم، وهلكت بعد أشهر، وملكوا عليهم نقفور، والروم تزعم: أنه من ولد جبلة بن الأيهم الغساني الذي أسلم ثم تنصر في أيام عمر، فكتب نقفور إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى هارون الرشيد ملك العرب أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق (2)، فحملت إليك من أموالها، وذلك؛ لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي .. فاردد ما حصل قبلك، وافتد نفسك، وإلا .. فالسيف بيننا وبينك، فلما قرأ هارون الرشيد كتابه .. اشتد غضبه، ثم كتب بيده على ظهر الكتاب: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، ثم ركب من يومه، وأسرع حتى نزل على هرقلة، فأوطأ الروم ذلا وبلاء، فقتل وسبى، وذل نقفور، فطلب الموادعة على خراج يحمله، فلما رد الرشيد إلى الرقة .. نقض نقفور العهد، فلم يجسر أحد أن يبلغ الرشيد، حتى عملت الشعراء أبياتا يلوحون بذلك فقال: أو قد فعلها؟ فكرّ راجعا في مشقة الشتاء
(1)«تاريخ الطبري» (8/ 275)، و «المنتظم» (5/ 481)، و «الكامل في التاريخ» (5/ 343)، و «تاريخ الإسلام» (12/ 20)، و «البداية والنهاية» (10/ 617).
(2)
الرّخ: أقوى قطع الشطرنج، والبيدق: أضعف قطع الشطرنج.
حتى أناخ بفنائه، ونال مراده وفي ذلك يقول أبو العتاهية:[من الوافر]
ألا نادت هرقلة بالخراب
…
من الملك الموفق للصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا
…
ويبرق بالمذكرة القضاب
ورايات يحل النصر فيها
…
تمر كأنها قطع السحاب (1)
وفي المحرم من السنة المذكورة: سخط الرشيد على البرامكة بعد تمكنهم الشديد منه، وعلو مرتبتهم عنده، فقتل جعفر بن يحيى بن خالد بالأنبار بموضع يقال له: العمر، وأرسل بجثته إلى بغداد، فنصب نصفها الأعلى على الجسر الأعلى، ونصفها الأسفل على الجسر الأسفل، وحبس أخاه الفضل بن يحيى وأباهما يحيى بن خالد.
واختلف في سبب غضبه على البرامكة:
فقيل: حمل العباسة أخت الرشيد من زوجها جعفر المذكور، وذلك: أن الرشيد كان يحب أخته العباسة وجعفر بن يحيى حبا شديدا، ولا يتم سروره إلا باجتماعهما عنده، فزوجها منه؛ ليحل له النظر إليها والاجتماع بها، وشرط عليه ألاّ يقربها البتة، فأحبت العباسة جعفرا، وراودته على الاجتماع بها، فأبى وخاف، وكانت عبادة أم جعفر ترسل إليه كل ليلة جمعة جارية بكرا، فقالت العباسة لأم جعفر: أرسليني إلى جعفر كأني جارية من جواريك التي ترسلين إليه، فامتنعت أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي .. لأذكرن لأخي أنك خاطبتني بكيت وكيت، ولئن اشتملت من ابنك على ولد .. ليكونن لكم الشرف، وما عسى يفعل أخي إذا علم أمرنا؟ فأجابتها أم جعفر، وجعلت تعد ابنها أنها ستهدي إليه جارية بارعة الحسن والجمال، وهو يطالبها بالوعد المرة بعد الأخرى، فلما علمت أنه قد اشتاق إلى ذلك .. أرسلت إلى العباسة أن تهيئي الليلة، ففعلت، وأدخلت على جعفر، وكان لا يثبت صورتها؛ لأنه كان عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى وطره منها .. قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: وأي بنت ملك أنت؟ قالت:
أنا مولاتك العباسة، فطاش عقله وقال لأمه: بعتيني والله رخيصا، وحبلت العباسة منه، وجاءت بولد، فوكلت به غلاما اسمه: رياش، وجارية اسمها: برة، ولما خافت ظهور الأمر .. بعثتهم إلى مكة.
(1)«تاريخ الطبري» (8/ 307)، و «المنتظم» (5/ 504)، و «الكامل في التاريخ» (5/ 358)، و «تاريخ الإسلام» (12/ 33)، و «مرآة الجنان» (1/ 403)، و «البداية والنهاية» (10/ 625)، و «شذرات الذهب» (2/ 390).
وكان يحيى بن خالد والد جعفر ناظرا على قصر الرشيد وحرمه، وكان يضيق عليهن، فشكته زبيدة إلى الرشيد، فقال لها: يحيى عندي غير متهم في حرمي، فقالت: لم لم يحفظ ابنه مما ارتكبه؟ قال: وما هو؟ فخبرته خبر العباسة، فقال: وهل على هذا من دليل؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين هو؟ قالت: كان هنا، فلما خافت ظهوره .. وجهته إلى مكة، قال: فهل علم بذلك سواك؟ قالت: ليس بالقصر جارية إلا وقد علمت به، فسكت وأظهر إرادة الحج، وخرج معه بجعفر إلى مكة، فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، فلما بلغ الرشيد مكة .. وكّل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي، فوجده صحيحا، فأضمر السوء للبرامكة.
ويؤيد ذلك قول أبي نواس: [من الهزج]
ألا قل لأمين الله
…
وابن القادة الساسة
إذا ما ناكث سر
…
ك أن تفقده راسه
فلا تقتله بالسيف
…
وزوجه بعباسة
وقيل: السبب في ذلك: أن يحيى بن عبد الله بن الحسن كان خرج على بني العباس، فظفر به الرشيد، وسلمه إلى جعفر وأمره بحبسه، فقال يحيى لجعفر: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك محمد صلى الله عليه وسلم، فرقّ له جعفر وقال: اذهب حيث شئت من البلاد، فدعا له وانصرف، ثم إن الرشيد قال لجعفر: ما فعل يحيى؟ قال:
بحاله، قال: بحياتي؟ فوجم وأحجم وقال: وحياتك أطلقته حيث علمت أن لا سوء عنده، قال: نعم الفعل، وما عدوت ما في نفسي، فلما نهض جعفر .. أتبعه بصره وقال:
قتلني الله إن لم أقتلك.
وقيل: السبب فيه: أنه رفعت إلى الرشيد قضية لم يعرف رافعها، وفيها هذه الأبيات:[من السريع]
قل لأمين الله في أرضه
…
ومن إليه الحل والعقد
هذا ابن يحيى قد غدا ملكا
…
مثلك ما بينكما حد
أمرك مردود إلى أمره
…
وأمره ليس له رد
وقد بنى الدار التي ما بنى ال
…
فرس لها مثلا ولا الهند
الدر والياقوت حصباؤها
…
وتربها العنبر والند
ونحن نخشى أنه وارث
…
ملكك إن غيبك اللحد
ولن يباهي العبد أربابه
…
إلا إذا ما بطر العبد
فوقف الرشيد عليها وأضمر السوء.
وقيل: لم يكن من البرامكة جناية توجب غضب الرشيد، ولكن طالت أيامهم، وكل طويل مملول، ولقد استطال الناس أيام الذين هم خير الناس؛ أيام عمر، وما رأوا مثلها عدلا وأمانا وسعة أموال وفتوح، وأيام عثمان، فقتلوهما، ورأى الرشيد مع ذلك أنس النعمة بهم، وحمد الناس لهم، وآمالهم فيهم، ونظرهم إليهم، والملوك تنافس في أقل من ذلك، ووقع منهم بعض الإدلال خصوصا جعفر والفضل دون يحيى؛ فإنه أحكم خبرة، وأكثر ممارسة للأمور، ولاذ بالرشيد قوم من أعدائهم كالفضل بن الربيع وغيره، فستروا منهم المحاسن، وأظهروا القبائح حتى كان ما كان.
ويحكى أن علية بنت المهدي قالت للرشيد بعد وقعته بالبرامكة: يا سيدي؛ ما رأيت لك يوم سرور منذ قتلت جعفرا، فلأي شيء قتلته؟ فقال: لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك .. لمزقته.
وكان الرشيد بعد ذلك إذا ذكروا عنده بسوء .. أنشد معلنا: [من الطويل]
أقلوا ملاما لا أبا لأبيكم
…
عن القوم أو سدوا المكان الذي سدوا
ومن أعجب ما يؤرخ من تقلبات الدنيا بأهلها: ما حكى بعضهم قال: دخلت إلى والدتي يوم عيد الأضحى ضحى وعندها امرأة في ثياب رثة، فقالت لي والدتي: هذه عبادة أم جعفر البرمكي، فأقبلت عليها، وتحادثنا زمانا، ثم قلت: يا أمه؛ ما أعجب ما رأيت؟ قالت: لقد أتى علي يا بني عيد مثل هذا وعلى رأسي أربع مائة وصيفة، وإني لأعدّ ابني عاقا لي، ولقد أتى علي يا بني هذا العيد وما ثيابي إلا جلد شاتين أفترش أحدهما وألتحف بالآخر، قال: فدفعت لها خمس مائة درهم، فكادت تموت فرحا بها، فسبحان الله مقلب الدهور، ومدبر الأمور (1)!
وفي هذه السنة: توفي السيد الجليل الفضيل بن عياض، ويعقوب بن داود
(1)«تاريخ الطبري» (8/ 287)، و «المنتظم» (5/ 495)، و «الكامل في التاريخ» (5/ 348)، و «تاريخ الإسلام» (12/ 23)، و «العبر» (1/ 298)، و «مرآة الجنان» (1/ 404)، و «البداية والنهاية» (10/ 619)، و «النجوم الزاهرة» (2/ 121)، و «شذرات الذهب» (2/ 391).