الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
921 - [الفضل بن يحيى البرمكي]
(1)
الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، الأمير الكبير.
ولي أعمالا جليلة، وكان أندى كفا من أخيه جعفر، وجعفر أبلغ منه في الرسائل والكتابة.
وكان الرشيد قد ولاه الوزارة قبل جعفر، وأراد أن ينقلها منه إلى جعفر، فقال لأبيهما يحيى: يا أبت-وكان يدعوه كذلك-إني أريد أن أجعل الخاتم الذي لأخي الفضل لجعفر.
وكان يدعو الفضل: يا أخي؛ لأنهما متقاربان في المولد، وكانت أم الفضل قد أرضعت الرشيد، واسمها: زبيدة، من مولدات المدينة.
قال: وقد احتشمت من الكتاب إليه في ذلك، فاكتب أنت إليه، فكتب والده إليه: قد أمر أمير المؤمنين بتحويل الخاتم من يمينك إلى شمالك، فكتب إليه الفضل: سمعت مقالة أمير المؤمنين في أخي وأطعت، وما انتقلت مني نعمة صارت إليه، ولا غربت عني رتبة طلعت عليه، فقال جعفر: لله أخي؛ ما أنفس نفسه، وأبين دلائل الفضل عليه، وأقوى منة العقل فيه، وأوسع في البلاغة ذرعه!
وولاه الرشيد خراسان، فأقام بها مدة، فوصل كتاب البريد بخراسان ويحيى جالس عند الرشيد، وفي الكتاب: إن الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد وإدامة اللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد .. رمى به إلى يحيى وقال: يا أبت؛ اقرأ هذا الكتاب، وجوّب عليه ما يردعه عن ذلك، فكتب يحيى على ظهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني، وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره عليك، فعاود ما هو أزين بك؛ فإن من عاد إلى ما يزينه أو يشينه .. لم يعرفه أهل دهره إلا به، والسلام.
وكتب في أسفل الكتاب أبياتا مضمونها التحريض على التستر باللذات وإظهار النسك مع إخفاء تناول الشهوات (2)، وكان الرشيد ينظر إلى ما يكتبه، فلما فرغ .. قال: أبلغت
(1)«المعارف» (ص 381)، و «تاريخ الطبري» (8/ 341)، و «تاريخ بغداد» (12/ 332)، و «المنتظم» (5/ 565)، و «الكامل في التاريخ» (5/ 386)، و «وفيات الأعيان» (4/ 27)، و «سير أعلام النبلاء» (9/ 91)، و «تاريخ الإسلام» (13/ 339)، و «مرآة الجنان» (1/ 430)، و «البداية والنهاية» (10/ 644)، و «شذرات الذهب» (2/ 423).
(2)
الأبيات هي قوله: [من السريع] انصب نهارا في طلب العلا واصبر على فقد لقاء الحبيب -
يا أبت، فلما وصل الكتاب إلى الفضل .. لم يفارق المسجد نهارا إلى أن انصرف عن عمله.
وأما جوده البالغ، وسخاؤه المفرط .. فأشهر من أن يذكر، من ذلك: أنه قال له حاجبه: بالباب رجل يزعم أن له سببا يمت به إليك، قال: أدخله، فأدخله فإذا هو شاب حسن الوجه، رث الهيئة، فسلم، وأومأ إليه بالجلوس فجلس، فقال له بعد ساعة:
ما حاجتك؟ قال: أعلمتك بها رثاثة ملبسي، قال: فما الذي تمت به؟ قال: ولادة تقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك، فقال الفضل: أما الجوار .. فيمكن، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال: أخبرتني أمي أنها لما ولدتني .. قيل لها: ولد هذه الليلة ليحيى بن خالد ولد، وسمي الفضل، فسمتني أمي فضيلا؛ إكبارا لاسمك أن تلحقني به، وصغّرته؛ لقصور قدري عن قدرك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون سنة، قال: صدقت، هذا المقدار الذي أعد، فما فعلت أمك؟ قال: ماتت، قال: فما منعك من اللحاق بنا مقدما؟ قال: لم أرض نفسي للقائك؛ لأنها كانت فيّ عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك، وعلق هذا بقلبي منذ أعوام، فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي، قال:
فما يصلح له؟ قال: الكبير من الأمر والصغير، قال: يا غلام؛ أعطه لكل عام مضى من سنه ألف درهم، وأعطه عشرة آلاف درهم يحمل بها نفسه إلى وقت استعماله، وأعطه مركوبا سريا.
ومن مستغربات تقلب الدنيا: ما حكى محمد بن يزيد الدمشقي قال: دعاني ليلة الفضل بن يحيى، فدخلت بمكان واسع فيه جمع كثير من أهل الدولة، وفيهم والده وأخوه جعفر، فأخرج مولود من باب على يمين الفضل وكانت ليلة سابعه، ولا علم لي، فأقبلوا يقرءون ومجامر الند تختلف عليهم، والشماع المعنبرة تضيء بأيدي الخدام، فلما فرغوا من القراءة .. قام الشعراء كل يهنيه بطلعته، ويبشره برؤيته، فنثرت عليهم الدنانير مطيبة
(2) - حتى إذا الليل أتى مقبلا واستترت فيه وجوه العيوب فكابد الليل بما تشتهي فإنما الليل نهار الأريب كم من فتى تحسبه ناسكا يستقبل الليل بأمر عجيب غطى عليه الليل أستاره فبات في لهو وعيش خصيب ولذة الأحمق مكشوفة يسعى بها كل عدو رقيب
بالمسك، فما بقي أحد إلا أخذ في كمه، وأخذت معهم، وخرج الناس والشعراء وخرجت معهم، فلحقني خادمان، فرداني إلى الفضل وهو جالس مع أبيه-أو قال: ابنه-فقال لي:
يا محمد؛ قد سمعت ما كان هذه الليلة، والله؛ ما أعجبني من أشعارهم شيئا، وقد أحببت أن تسمعني في المولود شيئا، فقلت:[من الطويل]
ونفرح بالمولود من آل برمك
…
ولا سيما إن كان من ولد الفضل
ويعرف فيه الخير عند ولاده
…
ببذل الندى والجود والمجد والفضل
فتهلل وجهه فرحا وقال: ما سررت بمثل هذا وأمر لي بعشرة آلاف دينار وقال لي:
خذها يا محمد، وهي دون حقك، فأخذت المال، واشتريت به أرضا وعقارا، وفتح الله عليّ، وكثر مالي، وعظم جاهي، فلم يكن إلا يسيرا حتى نكبت البرامكة، وكان معي حمام بإزاء داري، فأمرت الحمامي أن ينظفه، ثم دخلت فيه، وأمرت الحمامي أن يرسل إلي بمن يدلكني ويغمزني، فأرسل إلي بصبي حسن الوجه، فدلكني وغمزني، فاستلقيت على قفاي، وذكرت أيام البرامكة وأن جميع ما أملكه من فضل الله تعالى، وهو على يد الفضل، وأنشدت البيتين المذكورين، فانقلبت عينا الصبي وانتفخت أوداجه وسقط مغشيا عليه، ففزعت، وخرجت من الحمام، وقلت للحمامي: أرسلت إلي بمجنون يدلكني؟ ! الحمد لله على السلامة منه، فقال: والله يا سيدي ما به جنون، وإن له عندي سنينا كثيرة ما رأيت منه شيئا.
فدعوت الصبي وآنسته من نفسي، حتى اطمأنت نفسه، فقلت له: ما ذلك العارض الذي رأيت منك؟ قال: كأنك ظننت أني جننت؟ قلت: نعم، قال: ما كنت تنشد في ذلك الوقت؟ قلت: بيتين من الشعر، قال: ومن قائلهما؟ قلت: أنا، قال: فيمن قلتهما؟ قال: في ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، قال: ومن ولد الفضل بن يحيى بن خالد؟ قلت: لا أدري، قال: أنا ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، وأنا صاحب ذلك السابع، وفيّ قلت البيتين، كنت قد سمعتهما من قبل، فلما سمعتهما منك .. ضاقت عليّ الأرض بأجمعها، ورأيت مني ما رأيت، قال: فقلت له: يا ولدي؛ أنا والله شيخ كبير، ولا قرابة لي ترثني وأرثها، وقد عزمت أن أحضر شاهدين وأشهدهما أن جميع ما أملكه من فضل الفضل أبيك وعلى يديك، فتأخذ المال وأكون أعيش في فضلك إلى أن أموت، فتغرغرت عيناه وقال: والله؛ لا انثنيت في هبة وهبها لك والدي وإن كنت محتاجا إلى ذلك، قال:
فحلفت عليه أن يأخذ الكل، أو يأخذ البعض، فأبى وكره، وكان ذلك آخر عهدي به.