الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1258 - [الجاحظ]
(1)
أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ-عرف بذلك لجحوظ عينيه؛ أي: نتوئهما، وكان مشوه الخلق-الكناني الليثي المعتزلي البصري، العالم المشهور، صاحب النوادر والغرائب والطرف والعجائب.
وله تصانيف مفيدة في فنون عديدة، ومن أحسنها كتاب «الحيوان» وكتاب «البيان والتبيين» ، وهو تلميذ إبراهيم بن سيار البلخي المتكلم، وللجاحظ مقالة في أصول الدين، وإليه تنسب الفرقة الجاحظية.
ومن غريب خبره قال: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما استبشع منظري .. أمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، فخرجت من عنده، فلقيت محمد بن إبراهيم-يعني ابن المهدي-وهو يريد الانصراف إلى مدينة السلام، فعرض علي الخروج والانحدار في حرّاقته، وكان بسرّمن رأى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطول .. نصب ستارة وأمر بالغناء، فاندفعت عوادة فغنت:[من الخفيف]
كل يوم قطيعة وعتاب
…
ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري أنا خصصت بهذا
…
دون ذا الخلق أم كذا الأحباب
وسكتت، فأمر الطنبورية فغنت:[من مجزوء الكامل]
وارحمتا للعاشقي
…
ن ما إن أرى لهم معينا
كم يهجرون ويصرمو
…
ن ويقطعون فيصبرونا
قال: فقالت لها العوادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر، فألقت نفسها في الماء، وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مذبة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي تمر بين الماء، فأنشد:[من مجزوء الكامل]
أنت التي غرقتني
…
بعد القضا لو تعلمينا
(1)«تاريخ بغداد» (12/ 212)، و «المنتظم» (7/ 82)، و «معجم الأدباء» (6/ 52)، و «وفيات الأعيان» (3/ 470)، و «سير أعلام النبلاء» (11/ 526)، و «تاريخ الإسلام» (18/ 371)، و «مرآة الجنان» (2/ 162)، و «البداية والنهاية» (11/ 25)، و «بغية الوعاة» (2/ 228).
وألقى نفسه في الماء في إثرها، فأدار الملاح الحراقة؛ فإذا هما معتنقين، ثم غاصا فلم يريا فاستعظم محمد ذلك وهاله ثم قال: يا عمرو؛ لتحدثني ما يسلّيني وإلا .. ألحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك وقد قعد للمظالم وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلي جاريته حتى تغنيني ثلاثة أصوات .. فعل، فاغتاظ يزيد من ذلك، وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول رسولا آخر، فأمره أن يدخل إليه الرجل فأدخله، فقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك، والاتكال على عفوك، فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر بالجارية فأخرجت ومعها عودها، فقال لها الفتى: غني: [من الطويل]
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
…
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: غني: [من البسيط]
تألق البرق نجديا فقلت له
…
يا أيها البرق إني عنك مشغول
فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: تأمر لي برطل شراب، فأمر له به فما استتم شرابه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد، فرمى نفسه على دماغه فمات، فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهل ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى ملكي، يا غلمان؛ خذوا بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا .. فبيعوها وتصدقوا بثمنها عنه.
فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار .. نظرت إلى حفيرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت:[من السريع]
من مات عشقا فليمت هكذا
…
لا خير في عشق بلا موت
فألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت.
فسري عن محمد، وأجزل صلتي.
وكان الجاحظ في آخر عمره قد فلج، فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور؛ لشدة حرارته، والنصف الآخر لو قرض بالمقاريض .. لما أحس به من خدره وشدة برده، وكان يقول في مرضه: اصطلحت على جسدي الأضداد، إن أكلت باردا .. أخذ برجلي، وإن أكلت حارا .. أخذ برأسي، أنا في جانبي الأيسر مفلوج، لو قرض بالمقاريض ..
ما علمت، ومن جانبي الأيمن منقرس، فلو مر به الذباب .. لتألمت، وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها، وأشد ما علي ست وتسعون سنة، وكان ينشد:[من الوافر]
أترجو أن تكون وأنت شيخ
…
كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب
…
دريس كالجديد من الثياب
قال أبو الحسن البرمكي: أنشدني الجاحظ:
وكان لنا أصدقاء مضوا
…
تفانوا جميعا فما خلّدوا
تساقوا جميعا كئوس المنون
…
فمات الصديق ومات العدو
قال الشيخ اليافعي: (كان المناسب لقوله:
فمات الصديق ومات العدو
أن يذكر الأعداء مع الأصدقاء في البيت الأول فيقول:
لنا أصدقاء مضوا مع عدا
فيكون قوله في آخر البيت الثاني:
فمات الصديق ومات العدو
مطابقا لأول الأول) (1).
وحكى بعض البرامكة قال: كنت توليت السند، فأقمت بها ما شاء الله، ثم اتصل بي أني صرفت عنها وقد كنت كسبت ثلاثين ألف دينار، فخشيت أن يفجأني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه، فصغته عشرة آلاف إهليلجة، في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل (2)، ولم يمكث الصارف أن أتى، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة، فخبرت أن الجاحظ بها، وأنه عليل بالفالج، فأحببت أن أراه قبل موته، فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرعته، فخرجت إلي خادم صفراء فقالت: من أنت؟ قلت: رجل غريب، وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ، فبلغته الخادمة، فسمعته يقول: قولي له: وما يصنع بشق مائل، ولعاب سائل، ولون حائل، فقلت للجارية: لا بد من الوصول إليه، فلما بلّغته ..
قال: هذا رجل اجتاز بالبصرة، فسمع بعلتي، فأراد الاجتماع بي ليقول: قد رأيت الجاحظ.
(1)«مرآة الجنان» (2/ 166).
(2)
الإهليلج: شجر ينبت في الهند والصين، ثمره على هيئة حب الصنوبر الكبار.