الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علي بن أبي طالب بالمدينة في حبس المنصور، وفقيه الكوفة عبد الله بن شبرمة الضبي القاضي، وعقيل بن خالد-بضم العين-مولى بني أمية، ومجالد بن سعيد الهمداني الكوفي صاحب الشعبي.
***
السنة الخامسة والأربعون
فيها: بنى المنصور بغداد، وابتدأ بإنشائها ورسم هيئتها وكيفيتها أولا بالرماد، وكان ابتداء بنائها والطالع الحوت، وفيه المشتري، وزعم المنجم الآخذ للطالع: أنه لا يموت فيها خليفة أبدا، يقال: فكان كذلك (1).
وفيها: ظهر محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن الحسني في غرة رجب، خرج في مائتين وخمسين نفسا بالمدينة وهو على حمار، فوثب على متولي المدينة رياح بن عثمان المري، فحبسه وتتبع أصحابه، وبايعه بالخلافة أهل المدينة قاطبة طوعا وكرها، وأظهر أنه خرج غضبا لله عز وجل، وما تخلف عنه من الوجوه إلا نفر يسير، وبث عماله بمكة والمدينة والشام، فلم يتمكن عماله لقرب زمانه، فجهز المنصور لحربه ابن عمه عيسى بن موسى وحميد بن قحطبة، وقال: لا أبالي أيهما قتل صاحبه؛ لأن عيسى كان ولي العهد بعد المنصور، وكان المنصور يود هلاكه ليولي ولده المهدي بعده، فسار عيسى وحميد إلى المدينة في أربعة آلاف، وكتب إلى الأشراف يستميلهم ويمنيهم، فتفرق عن محمد بن عبد الله بن الحسن ناس كثير، وأشير عليه بالمسير إلى مصر ليتقوى بها، فأبى وتحصن بالمدينة، وعمق خندقها، فلما وصل عيسى .. تفرق عن محمد أصحابه حتى بقي في طائفة قليلة، فراسله عيسى يدعوه إلى الإنابة، وبذل له الأمان فلم يسمع، ثم أنذر عيسى أهل المدينة ورغبهم ورهبهم أياما، ثم زحف على المدينة، فظهر عليها، ونادى محمدا وناشده الله، ومحمد لا يرعوي.
قال عثمان بن محمد بن خالد: إني لأحسب محمد بن عبد الله قتل بيده يومئذ سبعين رجلا، وكان معه ثلاث مائة مقاتل، ثم قتل في المعركة، فعاد نفر من أصحابه، فقتلوا
(1)«تاريخ الطبري» (7/ 614)، و «تاريخ بغداد» (1/ 87)، و «المنتظم» (5/ 129)، و «الكامل في التاريخ» (5/ 132)، و «العبر» (1/ 203).
رياحا الذي كان أميرا بالمدينة في محبسه، وبعث عيسى برأس محمد إلى المنصور (1).
وفيها: خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الحسني بالبصرة، وكان سار إليها من الحجاز، فدخلها سرا في عشرة أنفس، ثم إنه دعا إلى نفسه سرا بالبصرة حتى بايعه بها نحو أربعة آلاف، وبايعه القراء والفقهاء، وتهاون والي البصرة سفيان بن معاوية بن عمر بن حفص حتى اتسع الخرق، فأظهر إبراهيم أمره أول ليلة من شهر رمضان، فتحصن منه أمير البصرة سفيان بن معاوية المذكور في دار الإمارة، ولما بلغ المنصور خروج إبراهيم بالبصرة .. تحول فنزل الكوفة ليأمن غائلة أهلها، وكان في الكوفة من يبايع لإبراهيم، وأقبل الخلق إلى إبراهيم ما بين ناصر وناظر، وأرسل المنصور جيشا مع جعفر ومحمد ابني سليمان بن علي، فقاتلا إبراهيم، فهزمهما إبراهيم، فلما انهزما .. طلب سفيان بن معاوية أمير البصرة من إبراهيم الأمان فأمنه، ففتح له القصر، فوجد إبراهيم من الحواصل ست مائة ألف، ففرقها بين أصحابه خمسين خمسين، وبعث إبراهيم عماله في شهر رمضان في الجهات ليخرج على المنصور من كل جهة فتق، فبعث عاملا على الأهواز، وآخر إلى فارس، وآخر إلى واسط، فتغلب أصحابه على هذه النواحي جميعها، وكان المنصور في جمع يسير وعامة جيوشه في النواحي، فالتزم بعدها ألاّ يفارقه ثلاثون ألفا، ووصل إلى إبراهيم مصرع أخيه بالمدينة قبل عيد الفطر بثلاث، فعيد الناس وهم يرون فيه الانكسار، والمنصور في ذلك لا يقر له قرار، ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة، وفي كل يوم يأتيه فتق من ناحية، هذا ومائة ألف سيف كامنة له في الكوفة، فلو هجم إبراهيم الكوفة .. لظفر بالمنصور، ولكن كان فيه دين، فقال: أخاف إن هجمتها أن يستباح الصغير والكبير، فقيل له: تخرج على مثل المنصور، وتتوقى قتل الصغير والكبير؟ ! وكان أصحابه مع قلة رأيه يختلفون عليه وكل يشير برأي، فلم يبرح المنصور إلى أن وصل إليه من المدينة عيسى بن موسى وحميد بن قحطبة، فوجههما إلى إبراهيم في جيش كثيف، فالتقوا بإبراهيم وجنده على يومين من الكوفة، فاشتد الحرب وظهر أصحاب إبراهيم، فانهزم حميد بن قحطبة مقدم جيوش المنصور، ووصل إلى المنصور خلق من المنهزمين، فهيأ المنصور النجائب ليهرب إلى الري، وكان يتمثل بقول الشاعر:[من الكامل]
ونصبت نفسي للرماح دريّة
…
إن الرئيس لمثل ذاك فعول
(1)«تاريخ الطبري» (7/ 552)، و «المنتظم» (5/ 123)، و «الكامل في التاريخ» (5/ 109)، و «تاريخ الإسلام» (9/ 21)، و «دول الإسلام» (1/ 132)، و «شذرات الذهب» (2/ 201).
قال الأصمعي: والدرية غير مهموز: دابة يستتر بها الصائد، فإذا أمكنه الصيد ..
رمى، وقال أبو زيد: هو بالهمز؛ لأنها تدرأ نحو الصيد؛ أي: تدفع.
ولما انهزم حميد بن قحطبة في أصحابه .. ثبت عيسى بن موسى في مائة من حاشيته، وجعل يثبت الناس، فأشير عليه بالفرار فقال: لا أزول حتى أظفر أو أقتل، وكان يضرب المثل بشجاعته، ثم دار جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي في طائفة، فجاءوا من وراء إبراهيم، وحملوا على عسكره.
قال: عيسى بن موسى لولا ابنا سليمان .. لافتضحنا، وكان من صنع الله أن أصحابنا لما انهزموا .. اعترض لهم نهر، ولم يجدوا مخاضة فرجعوا، فوقعت الهزيمة في أصحاب إبراهيم حتى بقي في سبعين، وكان إبراهيم يومئذ قد آذاه الحرب وحرارة الزّردية (1)، فحسرها عن صدره، فجاء سهم غرب لا يدرى من رمى به، فأصاب حلق إبراهيم فأنزلوه وهو يقول:{وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} أردنا أمرا وأراد الله غيره، فاجتمع أصحابه عليه يحمونه، فأنكر حميد بن قحطبة اجتماعهم، فحمل عليهم، فتفرقوا عن إبراهيم، فنزل إليه جماعة فاحتزوا رأسه، وبعثوا به إلى المنصور في الخامس والعشرين من ذي القعدة وعمره ثمان وأربعون سنة، فلما وصل البشير بالرأس إلى المنصور .. تمثل بقول البارقي:[من الطويل]
فألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قر عينا بالإياب المسافر
قال خليفة: وكان ممن خرج مع إبراهيم من الفقهاء هشيم، وأبو خالد الأحمر، وعيسى بن يونس، وعباد بن العوام، ويزيد بن هارون، وكان أبو حنيفة رحمه الله يجاهر في أمره، ويأمر بالخروج معه.
قال أبو نعيم: فلما قتل إبراهيم .. هرب أهل البصرة برا وبحرا، واستخفى الناس (2).
وفي السنة المذكورة-وقيل: في سنة ست-: توفي إسماعيل بن أبي خالد البجلي مولاهم أحد حفاظ الحديث، وعمرو بن ميمون بن مهران الجزري الفقيه، وعبد الملك بن أبي سليمان الكوفي الحافظ، ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وأبو حيان يحيى بن سعيد التيمي الكوفي.
***
(1) الزردية: درع من حديد.
(2)
«تاريخ الطبري» (7/ 622)، و «المنتظم» (5/ 143)، و «الكامل في التاريخ» (5/ 135)، و «تاريخ الإسلام» (9/ 36)، و «دول الإسلام» (1/ 133)، و «مرآة الجنان» (1/ 298)، و «شذرات الذهب» (2/ 202).