الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يروني، فبلغ ذلك أباه فقال: ويح علي؛ ليته أتمها فقال: لا أراهم ولا يروني.
ومناقب الفضيل كثيرة مشهورة.
896 - [جعفر بن يحيى البرمكي]
(1)
جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، الوزير الكبير، والجواد الشهير.
كان رحمه الله تعالى سمح الأخلاق، طلق الوجه، ظاهر البشر، من ذوي الفصاحة المشهورين باللسن والبلاغة، يقال: إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه.
كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف الحنفي حتى علمه وفقهه.
شكي إليه من بعض العمال، فكتب إليه: كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما عدلت، وإما انعزلت.
ومما يحكى من فطنته أنه بلغه: أن الرشيد مغموم؛ من أجل أن يهوديا زعم أن الرشيد يموت في تلك السنة، فركب إلى الرشيد واليهودي عنده فقال: أنت تزعم أن أمير المؤمنين يموت لكذا وكذا، قال: نعم، قال: وأنت كم عمرك؟ قال: كذا وكذا، مدة طويلة، قال جعفر للرشيد: اقتله حتى تعلم أنه كذب في أمدك كما كذب في أمده، فقتله وصلبه، وذهب غم الرشيد، وشكر جعفرا على ذلك، وفي ذلك يقول أشجع السلمي:[من الطويل]
سل الراكب الموفي على الجذع هل رأى
…
لراكبه نجما بدا غير أعور
ولو كان نجم مخبرا عن منية
…
لأخبره عن رأسه المتحير
يعرفنا موت الإمام كأنه
…
يعرفه أنباء كسرى وقيصر
أتخبر عن نحس لغيرك شؤمه
…
ونجمك بادي النحس يا شر مخبر
وأما كرم جعفر وسعة عطائه .. فأشهر من أن يذكر؛ اشترى مرة جارية بأربعين ألف درهم، فقالت الجارية لبائعها: اذكر ما عاهدتني عليه؛ أنك لا تأكل لي ثمنا، فبكى
(1)«المعارف» (ص 382)، و «تاريخ الطبري» (8/ 287)، و «تاريخ بغداد» (7/ 164)، و «المنتظم» (5/ 495)، و «الكامل في التاريخ» (5/ 348)، و «وفيات الأعيان» (1/ 328)، و «سير أعلام النبلاء» (9/ 59)، و «تاريخ الإسلام» (12/ 98)، و «الوافي بالوفيات» (11/ 156)، و «مرآة الجنان» (1/ 404)، و «البداية والنهاية» (10/ 619)، و «النجوم الزاهرة» (2/ 132)، و «شذرات الذهب» (2/ 391).
مولاها، وقال: اشهدوا أنها حرة وقد تزوجتها، فوهب له جعفر المال ولم يأخذ منه شيئا.
وكان عنده يوما أبو عبيد الثقفي، فقصدته خنفساء، فأمر جعفر بإزالتها، فقال أبو عبيد: دعوها عسى يأتي بقصدها إليّ خير؛ فإنهم يزعمون ذلك، فأمر له جعفر بألف دينار وقال: نحقق زعمهم، فأمر بتنحيتها ثم قصدته ثانيا، فأمر له بألف دينار أخرى.
يقال: إنه لما حج .. اجتاز في طريقه بالعقيق، وكانت سنة مجدبة، فاعترضته امرأة وأنشدت:[من الكامل]
إني عبرت على العقيق وأهله
…
يشكون من مطر الربيع نزورا
ما ضرهم إذ جعفر جار لهم
…
ألا يكون ربيعهم ممطورا
قيل: والبيت الثاني مأخوذ من قول الضحاك بن عقيل الخفاجي من جملة أبيات:
ولو جاورتنا العام سمراء لم نبل
…
على جدبنا ألا يصوب ربيع
فأجزل جعفر للمرأة المذكورة العطاء، ومع ذلك فكان أخوه الفضل أجود منه.
وكان جعفر متمكنا عند الرشيد، غالبا على أمره، وكان له عند الرشيد من علوّ القدر ونفاذ الأمر وعظم المحل وجلالة المنزلة ما لم يشاركه فيه غيره، حتى إن الرشيد اتخذ ثوبا واحدا كان يلبسه هو وجعفر جملة.
ومما يحكى من مكانته عند الرشيد: أن الرشيد غضب على عبد الملك بن صالح الهاشمي، فاختلى جعفر يوما بأصحابه في مجلس أنس وقال لحاجبه: لا يدخل علينا أحد إلا عبد الملك القهرمان، فجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي المذكور يستأذن على جعفر، وكان ذا صيانة وديانة، فظن الحاجب أنه الذي أمره جعفر بإدخاله، فأدخله عليه، فلما رآه جعفر .. تغير لونه، فلما رآهم عبد الملك على تلك الحال، وظهر له أنهم احتشموه .. أراد أن يرفع الخجل عنه وعنهم، فقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم، فأتاه الغلام بثياب المنادمة، ثم جلس يشرب معهم، ولم يكن ذلك من شأنه، وقال للساقي: خفف عني؛ فإني ما شربته قط، فتهلل وجه جعفر فقال له: هل من حاجة؟ قال: نعم، أمير المؤمنين غضبان علي، فاسأله الرضى، قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين، قال: وعلي أربعة آلاف ألف درهم تقضيها عني، قال: هي حاضرة، ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف بك، وأدل على حسن ما عنده لك، قال عبد الملك: وابني إبراهيم أريد أن أرفع قدره بصهر من أمير المؤمنين، قال: قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته، قال: وأحب أن تخفق
الألوية على رأسه، قال: نعم، قد ولاه أمير المؤمنين مصر، قال إبراهيم بن المهدي الراوي للحكاية-وكان أحد ندماء جعفر في تلك الواقعة-: فانصرف عبد الملك بن صالح، وأنا أعجب من إقدام جعفر على قضاء الحوائج من غير استئذان الرشيد.
فلما أصبح .. غدا جعفر إلى الرشيد، فأخبره بفعل عبد الملك ومساعدته لهم فيما كانوا عليه، وطلبه ما طلبه وإنعام جعفر بما طلب، وفي كل ذلك يقول الرشيد لجعفر: أحسنت أحسنت، ثم أمضى لعبد الملك جميع ما أنعم له به جعفر.
ثم إن الرشيد سخط على البرامكة، وأضمر لهم السوء، فحج في سنة ست وثمانين، وصدر إلى الحج في أول سنة سبع، فلما بلغ العمر-موضع من الأنبار- .. دعا الرشيد غلامه ياسر وقال: اذهب إلى جعفر بن يحيى وائتني برأسه، فوجم ياسر لا يرد جوابا، فقال له:
ما لك؟ ويلك، قال: الأمر عظيم، وددت أني مت من قبل وقتي هذا، فقال: امض لما أمرتك به، فمضى إلى أن دخل على جعفر وأبو زكار-بالزاي قبل الكاف وآخره راء-يغنيه، ونصبت الستائر، وجواريه عنده:[من الوافر]
فلا تبعد فكل فتى سيأتي
…
عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوما
…
وإن بقيت تصير إلى نفاد
ولو فوديت من حدث الليالي
…
فديتك بالطريف وبالتلاد
فدخل عليه ياسر من غير إذن، فقال: يا ياسر؛ سررتني بإقبالك، وسؤتني بدخولك عليّ من غير إذن، قال: الأمر أكبر من ذلك؛ قد أمرني أمير المؤمنين بكذا وكذا، فأقبل جعفر يقبل يدي ياسر وقال: دعني أدخل وأوصي، فقال: لا سبيل إلى ذلك، أوص بما شئت، قال: فارجع وأعلمه بقتلي، فإن ندم .. كانت حياتي على يدك، وإلا .. أنفذت أمره فيّ، قال: لا أقدر، قال: فأسير معك إلى مضربه، وأسمع كلامه ومراجعتك، فإن أصر .. فعلت، قال: أما هذا .. فنعم، ثم إنه سار به إلى مضرب الرشيد، فلما سمع حسه .. قال له: ما وراءك؟ فذكر له قول جعفر، فسبه وقال: والله؛ لئن راجعتني ..
لأقدمنك قبله، فرجع فقتله وجاء برأسه، فلما وضعه بين يديه .. أمر بضرب عنق ياسر، فقال: لا أرى قاتل جعفر، فلما قتل جعفر .. أرسل الرشيد من يقبض على يحيى وابنه الفضل، ويوقرهما حديدا، ويحملهما إلى حبس الزنادقة، وبالقبض على أولادهم وإخوانهم وقراباتهم.
ويحكى أنه رئي على باب قصر ابن ماهان بخراسان صبيحة الليلة التي قتل فيها جعفر كتاب بقلم جليل: [من السريع]
إن المساكين بني برمك
…
صبت عليهم غير الدهر
إن لنا في أمرهم عبرة
…
فليعتبر ساكن ذا القصر
ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر .. قال: اللهم؛ إنه كفاني مؤنة الدنيا، فاكفه مؤنة الآخرة.
ويحكى أن جعفرا في آخر أيامهم أراد الركوب، فدعا بالأصطرلاب (1)؛ ليختار وقتا وهو في يده، فمر رجل على دجلة في سفينة وهو لا يرى جعفرا، ولا يدري ما يصنع، وهو ينشد هذا البيت:
يدبر بالنجوم وليس يدري
…
ورب النجم يفعل ما يريد
فرمى جعفر بالأصطرلاب الأرض، وركب.
ولما قتل جعفر .. أكثر الشعراء في رثائه ورثاء آله، فقال الرقاشي:[من الوافر]
هذا الخالون من شجوي فناموا
…
وعيني لا يلائمها منام
وما سهرت لأني مستهام
…
إذا سهر المحب المستهام
ولكن الحوادث أرقتني
…
فلي سهر إذا هجع الأنام
أصبت بسادة كانوا نجوما
…
بهم نسقى إذا انقطع الغمام
ولم يزل يقول إلى أن قال:
على المعروف والدنيا جميعا
…
لدولة آل برمك السلام
فلم أر قبل قتلك يا ابن يحيى
…
حساما فلّه السيف الحسام
أما والله لولا خوف واش
…
وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا
…
كما للناس بالحجر استلام
وقال أيضا يرثيه وأخاه الفضل: [من الطويل]
ألا إن سيفا برمكيا مهندا
…
أصيب بسيف هاشمي مهند
(1) شرح المصنف رحمه الله تعالى كلمة (الأصطرلاب) في ترجمة هبة الله بن الحسين الأصطرلابي المتوفى سنة (534 هـ)، انظر (4/ 112).