الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - باب الأشربة
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
4263 -
[1] عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
والجواب الذي يحصل به التوفيق بين الحديثين أن الاغتباق بقدح والاصطباح بقدح آخر إنما كان على سبيل الاشتراك بين القوم بأجمعهم لا لكل واحد منهم فرادى لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما طعامكم؟ ) مخاطبًا الكل، والسائل وإن كان واحدًا لكنه سأل عن جانبهم وكان رائدهم، ولذا قال: ما يحل لنا؟ ولا شك أنه لا يكفي القدح الواحد للجماعة الكثيرة، ولا يدفع شيئًا من الجوع أصلًا، ولا يسد الرمق، ولا يقيم النفس، نعم لو كان لكل واحد قدح لحصل المقصود، وأيضًا معنى الاضطرار الذي هو منطوق النص إنما يحصل في صورة سدّ الرمق لا حصول بعض الشبع، كذا قال التُّورِبِشْتِي (1)، فتأمل.
3 -
باب الأشربة
لما كان الشراب تابعًا للطعام ومن تتمته جعل لبيانه بابًا داخلًا في (كتاب الطعام)، ولم يعقد له كتابًا على حدة، والأشربة الظاهر أنه جمع شراب كالأطعمة جمع طعام، ويمكن أن يجعل جمع شريب بمعنى شراب كأقمصة جمع قميص، قال في (القاموس) (2): الشراب ما شرب كالشريب والشروب.
الفصل الأول
4263 -
[1](أنس) قوله: (يتنفس في الشراب) أي: في أثناء شربه الشراب،
(1)"كتاب الميسر"(3/ 965).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 106).
وزادَ مُسْلمٌ فِي رِوَايَةٍ وَيَقُولُ: "إِنَّه أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ". [خ: 5631، م: 2028].
ــ
وقد جاء في بعض الروايات: (كان يتنفس في الإناء)، ومعناهما واحد، وهو أن يشرب فيبين الإناء من فمه، فيتنفس، يفعل ذلك ثلاث مرار، وقد جاء النهي عن التنفس في الإناء وهو محمول على التنفس من غير إبانة الإناء عن فمه، وقيل: وجه الجمع أن المنهي عنه هو التنفس فيه مع من يكره نَفَسَه ويتقذره، والاستحباب مع من يحبه ويتبرك به.
وقوله: (أروى) أفعل من الإرواء بحذف الزائد، والأصل في أفعل التفضيل أن يجيء من الثلاثي المجرد، وقد يجيء من باب الإفعال أيضًا بحذف الزائد نحو: أذهب، في قوله صلى الله عليه وسلم للنساء:(ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)(1) كما مرّ في (كتاب الإيمان)، ولا يخفى أن قوله:(أبرأ) أيضًا من الإبراء، أي: أكثر تأثيرًا في صحة البدن لكونه أقل تأثيرًا في تبريد المعدة وضعف الأعصاب (2).
وقوله: (أمرأ) يقال: أمرأني الطعام ومرأني: إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عليها، والمري: هو مجرى الطعام والشراب من الحلق، وأصل المري رأس المعدة المتصل بالحلقوم، وبه يكون استمرار الطعام، وجاء في بعض الروايات:(فإنه أهنأ وأمرأ)، وهما بمعنى، يقال: هنأني الطعام ومرأني، فإن أفرد فأمرأني، وفي (القاموس) (3): والمهنأ: ما أتاك بلا مشقة، والهنيء: السائغ.
(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(304).
(2)
وقوله: "وضعف الأعصاب" زادت هذه العبارة في نسخة: (ب) فقط.
(3)
"القاموس المحيط"(ص: 66).
4264 -
[2] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1). [خ: 5629].
4265 -
[3] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[عَنِ] اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ. زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَاخْتِنَاثُهَا: أَنْ يُقْلَبَ رَأْسُهَا ثُمَّ يُشْرَبَ مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5625، م: 2023].
4266 -
[4] وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2024].
ــ
4264 -
[2](ابن عباس) قوله: (من في السقاء) أي: من فمه لاستلزامه كثرة شرب الماء وهو مضر بالمعدة منهي عنه.
4265 -
[3](أبو سعيد الخدري) قوله: (اختناث) من الخنث، وفيه معنى الكسر واللين، ومنه المخنث لمن في أعضائه تكسر ولين، إما خلقة أو تكلفًا، و (السقاء) بكسر السين، في (القاموس) (2): السقاء ككساء: جلد السخلة إذا أجذع، يكون فيه الماء واللبن، جمعه: أسقية، قيل: النهي إنما هو في السقاء الكبير دون الإداوات ونحوها أو عن الاعتياد لا نادرًا أو للضرورة، فلا يرد أنه قد جاء شربه صلى الله عليه وسلم من فيِّ السقاء.
4266 -
[4](أنس) قوله: (نهى أن يشرب الرجل قائمًا) اعلم أنه قد جاءت الأحاديث في النهي عن الشرب قائمًا، وقد وردت أيضًا في جوازه، والأحاديث كلها صحيحة قوية، وإن كان أحاديث النهي أكثر، ولا شبهة أن عادته صلى الله عليه وسلم كانت على الشرب
(1) قال في "المرقاة"(8/ 162): وفي "الجامع الصغير": رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1191).
4267 -
[5] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَقِئْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2026].
ــ
قاعدًا، والجمع بينهما أن النهي محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائمًا فلبيان الجواز، فإن قلت: كيف يكون الشرب قائمًا مكروهًا وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ ، فالجواب أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بيانًا للجواز لا يكون مكروهًا بل البيان واجب عليه.
4267 -
[5](أبو هريرة) قوله: (فليستقئ) الأمر بالاستقاء محمول على الندب، فيستحب لمن شرب قائمًا أن يتقيأ لهذا الحديث سواء كان ناسيًا أو عامدًا؛ لأنه إذا أمر به ناسيًا فمتعمدًا أولى، قال النووي (1): وقال المالكية: لا بأس بالشرب قائمًا لما جاء من الخلفاء الأربعة أنهم كانوا يشربون قائمًا، وأجابوا عن حديث أبي هريرة:(لا يشربن أحدكم قائمًا فمن نسي فليستقئ)، بأن عبد الحق قال: إن في إسناده عمر بن حمزة العمري وهو ضعيف.
وقال بعض الشيوخ: لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائمًا قبلهم استبدادًا وخروجًا عن كون ساقي القوم آخرهم شربًا، كذا في (المواهب اللدنية)(2)، ولا يخفى أن هذا القول تكلف إذ الظاهر أن النهي عن الشرب قائمًا مطلق ومعلل باستلزام الضرر كما سنذكر، وأما استبداد الجائي أصحابه بالشرب وترك العمل بكون ساقي القوم آخرهم فشيء آخر.
ثم قال بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه لا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والأظهر أن أحاديث الشرب قائمًا تدل على الجواز، والنهي محمول على الاستحباب والأولوية؛ لأن في الشرب قائمًا ضررًا، فكره من أجله، ونقل عن
(1)"شرح النووي"(13/ 195).
(2)
"المواهب اللدنية"(2/ 421).
4268 -
[6] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1637، 5617، م: 2027].
4269 -
[7] وَعَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِج النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ، حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ،
ــ
ابن القيم أن للشرب قائمًا آفات عديدة؛ منها أنه لا يحصل به الري التام، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء، وينزل سريعًا إلى المعدة، فيخشى منه أن يبرد حرارتها، ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج، وكل هذا مضر، وإذا كان نادرًا لم يضر، وعند أحمد عن أبي هريرة: أنه رأى رجلًا يشرب قائمًا فقال: مه، قال: لم؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: فإنه قد شرب معك من هو شر منه وهو الشيطان، نقل هذا كله في (المواهب)(1).
4268 -
[6](ابن عباس) قوله: (من ماء زمزم) قيل: كان ذلك لأنه لم يجد موضعًا للقعود لازدحام الناس عند زمزم، هذا وقد يقال: هذا مخصوص بماء زمزم، وقد ثبت في السنة ذلك، وما ذكر من سريان الماء في البدن الذي عد ضررًا في الشرب قائمًا فهو من المنافع ههنا لما فيه من البركة والنور، وهكذا قيل في فضل ماء الوضوء، واللَّه أعلم.
4269 -
[7](علي) قوله: (في رحبة الكوفة) رحبة الدار والمكان بفتح الحاء وقد يسكن: ساحته ومتسعه.
وقوله: (وذكر رأسه ورجليه) أي: ذكر الراوي بعد قوله: (وجهه ويديه) رأسه ورجليه.
(1)"المواهب اللدنية"(2/ 421 - 422).
ثم قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا (1) يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [خ: 5616].
4270 -
[8] وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَسَلَّمَ فَرَدَّ الرَّجُلُ وَهُوَ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: . . . . .
ــ
فإن قلت: ما طريقة ذكر هذا الكلام، وهلا ذكر الأربعة، أو قال: وتوضأ؟ قلت: لعل بعض الرواة لم يذكر رأسه ورجليه إما نسيانًا أو بسبب آخر، والمقصود أنه ذكرهما، أي: الراوي المتقدم، ولم يذكر من روى عنه، فهذا إما قول أحد الرواة أو قول البخاري، فافهم.
وقوله: (ثم قام فشرب) ومن هذا أخذ من قال: يجوز ذلك في ماء الوضوء، وعلى هذا يكون معنى قوله:(أن ناسًا يكرهون الشرب قائمًا) أي: على الإطلاق، (وإن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت) أي: شرب الماء بعد الوضوء قائمًا، واللَّه أعلم. ونقل الطيبي (2) الترخص لشرب الماء قائمًا عن علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة، وقال: النهي أدب وإرفاق.
4270 -
[8](جابر) قوله: (على رجل من الأنصار) قيل: هو ابن التيهان.
وقوله: (ومعه) أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم (صاحب له) قيل: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وقوله: (وهو) أي: الرجل (يحول الماء في حائط) قال التُّورِبِشْتِي (3): أي ينقله
(1) في نسخة: "أناسًا".
(2)
"شرح الطيبي"(8/ 178).
(3)
"كتاب الميسر"(3/ 967).
"إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ وَإِلَّا كَرَعْنَا؟ " فَقَالَ: عِنْدِي مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ،
ــ
عن عمق البئر إلى ظاهرها، وقال المظهر (1): أي: يجري الماء من جانب إلى جانب في بستانه، وهذا القول أظهر من الأول من العبارة، والواقع كلا الأمرين.
وقوله: (بات في شنّة) بفتح الشين وتشديد النون، في (القاموس) (2): الشن، وبهاء: القِرْبَةُ الْخَلَقُ الصغيرة.
وقوله: (وإلا كرعنا) الكرع: تناول الماء بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء، كذا في (القاموس)(3)، وسمي به لأن البهائم تجعل الأكارع في الماء وتشرب هكذا، وقال في (سفر السعادة) (4): إن المراد بالكرع هنا الاغتراف باليدين أو يحمل على أنه كان الشرب باليدين في ذلك الوقت متعذرًا فأدت الضرورة إلى الكرع، واللَّه أعلم، انتهى.
ولعل الشيخ لم يرض بشربه صلى الله عليه وسلم بالفم وراعى الأدب في ذلك فأحسن وأحسن، ولكن لا يخفى أنه لا يبعد من عدم تكلفه صلى الله عليه وسلم أن يفعل في بعض الأحيان مثل ذلك، ويعجب ذلك في الماء الجاري المسلسل كما في الربيع الجاري في البساتين، ولقد رأيت بعض الصالحين فعل ذلك، وقصد به الاتباع لما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم:(وإلا كرعنا) جوازه وإن لم يفعل، واللَّه أعلم.
وقوله: (قال: عندي ماء بات في شن) تكرير عبارة السؤال والتصريح به للتبرك
(1)"المفاتيح في شرح المصابيح"(4/ 531).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1115).
(3)
"القاموس المحيط"(ص: 700).
(4)
"سفر السعادة"(ص: 319).
فَانْطَلَقَ إِلَى الْعَرِيشِ فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ مَاءً، ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ، فَشَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَعَادَ فَشَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 5613، 5621].
4271 -
[9] وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجَرُ فِي بَطْنِهِ نَارُ جَهَنَّمَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
والتلذذ وإظهار الفرح والتبهيج بوجود سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ومطلوبه عنده كما لا يخفى على من له ذوق سليم صحيح في أساليب الكلام.
وقوله: (فانطلق إلى العريش) في (القاموس)(1): العريش: البيت الذي يستظلّ به، وأكثر ما يكون في البساتين مسقفًا بالأغصان في الكروم، وبهذا فسره في (النهاية)(2)، و (الداجن) الشاة وغيرها ألفت.
4271 -
[9](أم سلمة) قوله: (إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) في (القاموس)(3): الجرجرة: صوت يُرَدِّدُهُ البعير في حَنْجَرته، وصب الماء في الحلق، والتجرجر: أن تَجْرَعَه جرعًا مُتَداركًا، وجرجر الشراب: صَوَّتَ، وجرجره: سقاه على تلك الصفة.
و(نار جهنم) منصوبة على المفعولية، والفاعل ضمير الشارب في (يجرجر)، والمعنى كأنما يشرب تجرعًا بالصوت المخصوص نار جهنم، يعني: شربه الماء في آنية الفضة كأنه شرب النار لكونه جزاءه واستحقاقه به النار، وهذا كقوله سبحانه: {يَأْكُلُونَ
(1)"القاموس المحيط"(ص: 552).
(2)
"النهاية"(3/ 207).
(3)
"القاموس المحيط"(ص: 341).
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِم: "إِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5634، م: 2065].
4272 -
[10] وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ". . . . .
ــ
فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، وقد يقرأ بالرفع فيكون في بطنه يجرجر بمعنى يصوت، والإسناد مجازي على التقديرين، فعلى التقدير الأول في النسبة الإيقاعية، وعلى الثاني في الإسناد، ويجوز أن يكون الإسناد على الثاني حقيقة بإقدار اللَّه تعالى، والنصب هو المختار عند الأكثرين ويعاضده الروايات الأخر، فتدبر.
وقوله: (إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب) بزيادة الأكل والذهب، وقد ذهب داود الظاهري إلى تخصيص الحرمة بالشرب دون الأكل، وهو باطل بالنصوص، وتفصيل هذه المسائل يطلب من كتب الفقه.
4272 -
[10](حذيفة) قوله: (ولا تلبسوا الحرير ولا الديباج) بكسر الدال وقد يفتح، نوع من الحرير فهو تخصيص بعد تعميم، وفي (القاموس) (1): الديباج: معروف ومعرب.
وقوله: (ولا تأكلوا في صحافها) الضمير للأشياء أو الأجناس المذكورة اعتبار الاثنين أقل الجمع أو لأفرادها، وقيل: للفضة والذهب في حكمها بطريق الأولى، وهذا كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34].
وقوله: (فإنها لهم) أي: للكفار.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 184).
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5426، 5633، م: 2067].
4273 -
[11] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ دَاجِنٌ، وَشِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ، فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَدَحَ، فَشَرِبَ وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ (1) ثُمَّ قَالَ: "الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ" وَفِي رِوَايَةٍ: "الأَيْمَنُونَ الأَيْمَنُونَ، أَلَا فيَمِّنُوا". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2352، م: 2029].
ــ
4273 -
[11](أنس) قوله: (في دار أنس) من وضع المظهر موضع المضمر.
وقوله: (على يساره أبو بكر، وعن يمينه أعرابي) وقال ثانيًا: (فأعطى الأعربي الذي على يمينه) ووجهه أن (على) يدل على الاستعلاء والغلبة، و (عن) على المجاوزة والتنحي، فيدل على قرب أبي بكر من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبُعد الأعرابي عنه صلى الله عليه وسلم، وفيه مبالغة وتأكيد للمقصود يعني لم يعط أبا بكر مع قربه، وأعطى الأعربي مع كونه بعيدًا رعاية لجانب اليمين، ولما أعطى الأعرابي وحصل له علو وقرب معنوي قال:(فأعطى الأعرابي الذي على يمينه)، وقال الطيبي (2): الوجه فيه أن تجرد (عن) و (على) عن معنى التجاوز والاستعلاء، ويراد بهما الحصول من اليمين والشمال.
وقوله: (الأيمن فالأيمن) بالنصب، أي: أعط الأيمن، وبالرفع، أي: الأيمن أحق وأولى، وتؤيد رواية:(الأيمنون فالأيمنون) الرفع.
(1) في نسخة: "على يمينه".
(2)
"شرح الطيبي"(8/ 190).
4274 -
[12] وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ:"يَا غُلَامُ! أَتَأْذَنُ أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ؟ " فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلٍ مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأعْطَاهُ إِيَّاهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2351، م: 2530].
وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ سَنَذْكُرُهُ فِي "بَابِ الْمُعْجزَاتِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ــ
4274 -
[12](سهل بن سعد) قوله: (يا غلام! أتأذن أن أعطيه الأشياخ؟ ) إنما استأذن الغلام استئلافًا لقلوب الأشياخ لكونهم أكابر من قريش يخاف عليهم الزيغ والزلل، وأما أبو بكر رضي الله عنه فهو من المخلصين العارفين بأخلاقه والفانين في محبته صلى الله عليه وسلم لا يخاف عليه شيء من ذلك، وإنما لم يستأن الأعرابي الجافي مخافة إيحاشه وتأليفًا لقلبه، وأيضًا فيه تأكيد وتقرير للمقصود، يعني أنه لما لم يعط أبا بكر ولم يستأذن أيضًا الأعرابي، ولم يبال بأبي بكر، ولا بشفاعة عمر له ضاق مجال أن يتوقع أحد في ذلك، بقي أن الفقهاء اتفقوا على أن إيثار الغير في الطاعات والقربات غير محمود، بل إن كان في أمر واجب يحرم لترك الواجب باختياره، وإن كان في مستحب يكره لترك ما يقرب إلى اللَّه كما إذا آثر أحدًا بثوبه الذي يحصل به ستر العورة وصلى عاريًا، أو آثر في الصف الأول والقرب من الإمام، قالوا: وإنما يحمد الإيثار في الأمور الدنيوية مما ليس بطاعة ولا قربة، ولهذا قرر صلى الله عليه وسلم ابن عباس على عدم إيثاره ولم يذمه بتركه، كذا قالوا، ولكن لا يخفى أن استئذانه صلى الله عليه وسلم ابن عباس إنما كان لأجل أنه إن أذن ورضي بذلك لجاز إذنه وإعطاؤه الأشياخ.
ويفهم منه جواز الإيثار وهذا ظاهر، ويمكن أن يقال: استأذنه صلى الله عليه وسلم اعتبارًا لذلك