الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 29
- بتاريخ: 1 - 12 - 1912
البلقان والحرب
ليس في الآونة الحاضرة من لا يهتم للحرب المنتشبة بين العثمانيين والبلقانيين فالناس في كل مكان على اختلاف طبقاتهم ولغاتهم وأجناسهم يتهافتون على الأنباء الواردة من ميادين القتال تهافتاً عظيماً جداً. لذلك أنشأنا الفصل التالي وهو مجمل ما طالعناه في المجلات والمؤلفات الإفرنجية وخلاصة جامعة عن هذه الحرب ومقدماتها وسياسة البلقانيين فيها وتكهن الساسة الأوروبيين عن عقباها لعلّ في ذلك كله فائدة لقراء الزهور.
الولايات العثمانية الأوروبية وسكانها - للحكومة العثمانية في أوروبا ست ولايات خلا الآستانة وضواحيها. وهي: سالونيك ، وموناستر ، وأدِرْنَه ، واشقودره ، وقوصه ، ويانيا. ويُطلق الجغرافيون عليها جميعها اسم مكدونيا وإن لم تشمل هذه التسمية في الحقيقة البلاد الألبانية. أما عدد سكان هذه الولايات فلم يحصَ إحصاءً دقيقاً لكثرة التباين في الأغراض والنزعات الجنسية والسياسية والدينية. ولكنَّ المأثور أنه لا يتجاوز خمسة ملايين ونصف مليون يضاف إليهم عدد سكان الآستانة وملحقاتها فيبلغ المجموع على التقريب ستة ملايين ونيّف. وهم أخلاط من السلافيين والترك واليونانيين والألبانيين. وأما عددهم بالنسبة إلى الجنس
أو الدين فالمشهور أن الألبانيين يعدون 1. 500. 000 ، واليونانيين يدّعون أنهم يبلغون 2. 000. 000 في حين أنهم لا يتجاوزون مليوناً ونصف مليون في نظر سواهم. ويقول المسيحيون أن عدد المسلمين 1. 500. 000 فقط. وتقول غايت دي فرنكفورت الألمانية أن الإسرائيليين يبلغون 190. 000 ، والفلاخيين الرومانيين 100. 000 والبلغاريين 700. 000 والسربيين 700. 000 أيضاً. ولكن الحقيقة غير ذلك فالجريدة المذكورة أنقصت في عدد البلغاريين والسربيين عملاً بإشارة البارون مرشال بيبرشتين المتوفي منذ عهد قريب والذي كان سفيراً لألمانيا في الآستانة ثم سفيراً لها في لندن إذ كان عدوّاً لدوداً للعنصر السلافي. ولعل حقيقة عدد البلغاريين في مكدونيا يزيد عن المليون. وكذلك السربيون فلا ريب في إنهم يعدّون أكثر من مليون أيضاً. وقد اختلف الباحثون في نسبة البلغاريين والسربيين إلأى العنصر السلافي فلم يتبينوا الحقيقة حتى كانت معاهدة برلين في سنة 1878 إذ انضمَّ على أثرها كلُّ جنس إلى جنسه وكل قطيع إلى حظيرتهِ.
معاهدة برلين والبلقان - قضى البند الثالث والعشرون من معاهدة برلين المشهورة بأن يكون لمكدونيا نوع من الاستقلال الإرداي يضمن حقوق المسيحيين من أهاليها تحت
سيطرة الحكومة العثمانية ومشارفتها. غير أن الباب العالي سوَّف المكدونيين كثيراً تنفيذ ما تضمنهُ هذا البند ، ولم يكترث قط لالحاح دول البلقان عليهِ في ذلك. فأخذت هذه الدول حينئذ بإثارة رأي الأهالي على الآستانة مستعينة بنفوذها في
مكدونيا ورغبة المسيحيين في الاستقلال؛ فبلغاريا ، كانت تحرّض البلغاريين ، واليويانيين ، والسرب السربيين ، حتى أصبحت البلاد ميداناً للدسائس ، وأمست جبالها معتصماً للثوار وغاباتها ملجأً للصوص ، وقُراها عرضة للنهب والحريق ، وبات أهلها أعداءً بعضهم لبعض فانتشرت الفوضى ، وعمَّ الخوف ، وتعاظمت الويلات والشرور. وإنما أتت دول البلقات كل هذا إقلاقاً للحكومة العثمانية ، وعرقلةً لسياستها في مكدونيا لأنها كانت ترمي من وراء تلك الفتن إلى ثلاث رغائب شديدة الأهمية في نظرها وهي: حمل الباب العالي على تنفيذ مضمون
البند الثالث والعشرين من معاهدة برلين ، ولفت أنظار أوروبا إلى حالة المسيحيين في مكدونيا ، واستمالة الشعوب المسيحية في تلك البلاد كل شعبٍ إلى الدولة التي تضمُّ إخوانهُ تحت رايتها. على أن الغاية القصوى الحقيقية لم تكن إلَاّ التربص لتركيا وتحيُّن ضعفها للاستيلاء على مكدونيا واقتسامها فتكون لكل دولةٍ حصة تُعطاها بمقدار عملها وأهميتها:
فالبلغاريون العثمانيون ينضمون تحت جناحي بلغاريا ، والربيون تحت لواء السرب ، واليونانيون إلى اليونان. أما رومانيا التي يميل إلأيها أبناؤها الفلاخيون الرومانيون المتشتتون في مكدونيا في كل ناحية وصوب ، والذين يصعب جدّاً اجتماعهم معاً في جزء واحد منها ، فتعتاض من حصتها هنالك جزءاً غير يسير في ما يحاذي أملاكها من أملاك ومكافأة لها من أجل وقوفها على الحياد. وكانت بلغاريا أشد دول البلقان سعياً إلى الفوز بأمانّيها فلم تدع وسيلةً من الوسائل إلَاّ تذرَّعت بها ، وساعدها إهمال الحكومة العثمانية نفسها وأغضاؤها عن مساعيها فمكَّنت محبتها من نفوس البلغاريين العثمانيين بما كانت تبديه لهم المدارس وعمَّمتها في قراهم حتى لقد بلغ مجموع المعلمين الذين يبثون روحها بين الأهالي نحواً من أربعة آلاف معلم لخمسين ألف تلميذ بلغاري عثماني. ولم تكتفِ بذلك كلهِ فأوعزت إلى شباب بلغاري نبيه يدعى يوسف تعلَّم في باريس ونال شهادة دكتور في الحقوق بأن ينصرف عن المحاماة وينتظم في
سلك الاكليروس. وما زالت ترقّيه بسرعة حتى عيّن اكسرخوساً للبلغاريين فكان موضع ثقة دولته بما أظهره من الكفاءَة والحذق
والدهاء فبثَّ الروح البلغارية في نفوس رعيته ونشّأ الشعب على التعصب لقوميته وعلَّمه أن بلغاريا إنما هي أمه الحقيقية وأما تركيا فعدوَّتهُ اللدودة. ولما تمادت العصابات المكدونية في غيّها وشرورها وقابلها العثمانيون بالمثل ، وأصبحت مكدونيا من أقصاها إلى أقصاها مسرحاً تمثّل عليه الفظائع ، وتلعب فيه كرات الديناميت ، ويتطاير فوقه رصاص البنادق تململت أوروبا في نومها وفتحت عينيها على تلك البلاد ، وأصاخت بمسمعها إلى استغاثة البلقان بها فأقدمت حينئذٍ على العمل وسعت حتى أنشأت في سنة 1903 رقابةً أجنبية على إدارة تلك البلاد.
الرقابة الأجنبية - تألفت هذه الرقابة في البدء من مفتش عثماني ومندوَبين أحدهما روسي والآخر نمساوي ، ومن ضابطين أوروبيين قُصرت مهمتهما على مشارفة الأمن العام إذ رضيَ الباب العالي بانتظامها في الجندرمة المكدونية من أجل هذه الغاية. وكان حسين حلمي باشا الذي وليَ الصدارة في عهد الدستور المندوبَ العثماني في الجنة السالف ذكرها. فلما كانت سنة 1905 رأى المندبون شدة الحاجة إلى توسيع اختصاص الرقابة فتألفت حينئذٍ لجنة خاصة لتنظيم الشؤون المالية. ثم رمَت روسيا والنمسا في أواخر سنة 1907 إلى إنشاء نظام خاص بالقضاء فلم تفلحا. وحدث بعد شهور أن ملك انكلترا وإمبراطور روسيا تلاقيا ملاقاتهما المشهورةة في ريفال واتفقنا على المسئلة المكدونية. فهاج اتفاقهما رأي أحرار الضباط العثمانيين فأرغموا السلطان عبد الحميد على نشر الحكم الدستوري ففعل ، وهدأ بال أوروبا والبلقان حيناً من الدهر. وكان إعلان الدستور في تركيا بعد تلاقي الملكين في ريفال بخمسة وأربعين يوماً فقط مؤبداً لقول نيازي بك في خواطره عن الثورة العثمانية: لولا اجتماع ريفال لم يُعلن الدستور العثماني في سنة 1908.
عهد الدستور - وكان في مكدونيا على أثر الثورة العثمانية وفوز الأحرار العثمانيين ما كان في جميع السلطنة فإن الشعب تناسي لأول وهلة أغراضه ومنازعاته حبّاً بالدستور؛ فتصافح المسلم والمسيحي ، وتراضي الأرمني والكردي ، وتفاهم التركي والعربي. غير أن تلك العواطف الشريفة كانت أشبه بشغلة القش لم تتقد حتى عاجلها الخمود فانطفأت
وتحولت إلى رماد ثم تبددت ذراتها في الهواء. وأصاب أوروبا من الدستور ما أصاب العثمانيين أنفسهم منهُ فرضيت بإلغاء الرقابة الأجنبية من مكدونيا مقتنعة بأن العهد الجديد
في تركيا يعوّضها منها خيراً لأن الدستور من شأنه أن يساوي بين الرعية ويهبها الحرّية والعدل. غير أن السياسة العثمانية التي ساسها الاتحاديون لم تُرضِ دوَل البلقان وأسخطت عليها المسيحيين في مكدونيا وهم الأكثرية العظمى هنالك فعادت الحالة إلى شبه ما كانت عليهِ من قبل ورجعت العصابات الثورية إلى أعمالها وشرورها كما كانت أبَّان سلطنة عبد الحميد. وما برحت مكدونيا قلقةً مضطربةً حتى أواخر ستة 1910 فاختلَّ الأمن كثيراً ، وعاد البلغاريون إلى أوروبا يستنجدونها ويستحثونها على العمل
الصحيح. أما الحكومة العثمانية الاتحادية فلم تكن تعبأ بمساعي هذه الدوَل الصغيرة لأنها كانت تعتقد باستحالة اتفاقهنَّ على العمل معاً. وما كان أشد دهشتها حين رأت بلغاريا تصافح اليونان ، واليونان ، واليونان السرب ، والسرب الجبل الأسود ، بعد أن كان اليونانيون أعدى أعداء البلغاريين ، والسربيين أنداد الجبليين. فكان انفرادها أمام دوَل أربع متحدة تناوئها وتتطلَّبنَ خذلها وفشلها دافعاً لها إلى الاتفاق مع رومانيا ولكنها لم تنجح لأن بلغاريا أفهمت جارتها أن تقف على الحياد فتنال ما تطمع بنيله بدون أن تسفك نقطة دم أو تبذل قبضةً واحدة من المال. ولما تمَ لهذه الدوَل هذا الأمر اتفقنَ فيما بينهنَّ الاتفاق الذي ولَد الحرب الحاضرة.
الحرب - نكتب هذه السطور والبلغاريون على بضعة عشر كيلومتراً من الآستانة ، وأدرنه مطوقة بالجنود ومضيَّق عليها الخناق ، ومشدودون في حصارها ، والطريق قد خلت لليونانيين فتمشوا إلى سالونيك واحتلوها على أهون سبيل ، والعثمانيون واقفون في شطلجه معتصمين بحصونها ومحتمين بقنابل الأسطول على شواطئ البحرين بحر مرمره والبحر الأسود ، والوباء يفتك فتكاً ذريعاً بالعسكرين العثماني والبلغاري ، والقتلى يُعدُّون كالجرحى بعشرات الألوف ، وليس في بلغاريا والسرب
والجبل الأسود واليونان غير الشيوخ العجَّز ، والنساء الضعيفات والأطفال الرُضَّع ، وقد اكتظت قصور الآستانة وجوامعها ومستشفياتها بالمصابين من العساكر ، والمنكوبين من الأهالي يشكون الجوع والعري ، ويتلمَّسون القوت ، ويرُّون من البرد ، ويئنون من الأوجاع ، وعلى طرُق بلاد الأناضول عشرات الألوف من المساكين نبذتهم بلدانهم ، فتشتتوا في القفار لا منازل تؤاويهم ، ولا قوت يشبعهم ولا غياث لهم من غير السماء؛ وجرائد العالم تحمل إلينا أنباء هذه الفظائع ، وتقص علينا أخبارها المؤلمة حتى لنكاد نسمع بآذاننا دويّ البارود ، وأزيز
الرصاص ، وصليل السيوف ، وأنين الجرحى ، وحشرجة النفوس ، ونبصر بعيوننا مجاري الدماء ، وتراكم الجثث ، ونلمس بأيدينا فقر الفقراء ، وبؤس البؤساء ، فما
نجيء على هذا أو بعضه حتى يعرض لنا خبر ينسينا فظائع ما قرأنا من قبل كأن يقف بنا الكاتب أمام عانةٍ من الذئاب تفترس أشلاء القتلى بل قد تصيب جريحاً منسياً فتنشب أنيابها فيهِ وهو لا يجد بعض القوة ليدفعها عنهُ ، أو قبالة مئات من الغربان والعقبان والثعالب وبنات آوى يتألبن على الجثث ، وينقرنَ الصدور ، ويبقرنَ البطون ، بل قد يقعنَ أيضاً على الأحياء في النزع الأخير فيمثّلن بهم تمثيلهنَّ بالموتى ، ثم ينقل إلينا البرق مختصر الآراء ، وملخص السياسة ، وموجز الأنباء عن التحام الجيوش وتفانيها في القتال فنكاد لا نعي من الصباح إلى المساء غير أخبار الحرب ، وأحاديث الطعن والضرب. تلك هي الحرب اليوم فواهاً لها من صورة للمدنية في القرن العشرين!! وتلك هي عاقبة السياسة التي يسمونها سياسة تنازع البقاء!. قوتل الإنسان ما أكفره!!
عقبى الحرب - قد تنتهي هذه المجازر البشرية عن قريب فإذا ختمت بفشل العثمانيين أضاعت الدولة التركية أملاكها في أوروبا وفقدت بفقدها نحواً من ستة ملايين نفس من رعاياها ، وإذا تمَّ لها الفوز أو بعضه قبل أن تضع الحرب أوزارها كانت الخسارة أقلّ والأضرار اللاحقة بها أخف غير أن انتصار الدول البلقانية المتحدة سيؤدي على الأرجح إلى مشكلةٍ كبرى بينهنَّ تكون عقدتها في كيفية اقتسام البلدان المكتسبة لهنَّ. وقد ظهرت بوادر هذه الأشكال من خلال احتلال اليونانيين لسلانيك ومصادرتهم دخول البلغاريين إليها ، ومن سياسة السرب مع الألبانيين