الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكهانة
قلنا فيما تقدَّم إن الكهَّان يعرفون الغيب بوحيٍ من الشيطان ، فتلك هي الكهانة الأصلية عندهم ، وأصحابها أوسع الكهان عاماً وأعظهم خطراً ، وأسماهم مقاماً؛ ولكنَّ هنالك طرقاً أخرى لمعرفةِ الغيب تختلف عن الكهانة الأصلية في أسبابها وشروطها وكيفيتها؛ كالعرافة والعيافة والطرق بالحصى والَحزو والتنجيم وكلها ضروبٌ من الكهانة إلَاّ أن أهلها أقلُّ من الكهان علماً ، وأدنى منهم رتبة ، وهم نفسهم مراتب ودرجات. والعربُ يطلقون اسم الكاهن على العرَّاف ، والعائفِ ، والطارق بالحصى ، والحازي ، والمنجّم ، وعلى كل متكهّن يتعاطى الخبرَ عن الكائنات في مستقبل الزمان. وربما استعمل بعضهم العرَّاف بمعنى الكاهن ، فيطلقه على كل متكهن أما العرِّاف فهو الذي يعرف الأمورَ بمقدمات أسباب يستدلُّ بها على مواقعها من كلام مَن يسأله أو فعلهِ أو حاله. فعلمهُ قاصرٌ على معرفة الشيء المسروق وسارقهِ ومكان الضالة ، ودواء المريض ، ومواقع السحاب ، ونحو ذلك وقد اشتهر من العرَّافين في الجاهلية رُباح بن كحلة عرَّاف اليمامة ، والأبلق الأسدَي عرَّاف نجد ، وكان كلاهما في العصر الأخير من زمن الجاهلية. وأولهما هو المقصود بقول عروة بن حزام:
فقلتُ لعرَّاف اليمامة داوني
…
فإنك إن داويتني لطبيبُ
وإليهما معاً أشار الآخر في قوله:
جعلتُ لعرَّاف اليمامة حكمهُ
…
وعرَّاف نجدٍ أن هميا شفياني
فقالا شفاكَ الله والله ما لنا
…
بما حملتْ منك الضلوع يدان
وممن اشتهر أيضاً بالعرافة هند صاحب المستنير الذي يقول عنهُ المسعودي أنهُ
كان في غاية التقدم فيها ، وكذلك الأجلح الزهَري وعروة بن زيد الأسدي وأما العائف فهو الذي يتكهن بواسطة العيافة ، وهي زجرُ الطير أو الوحش ، والتفاؤل بأسمائهم وأصواتها وممرّها. قال الأعشى:
ما تعفيفُ اليوم في الطير الرَّوَح
…
من غراب البين أو تيسٍ بَرح
وقال الفرزدق:
وليس ابنُ حمراءِ العجان بمفلتي
…
ولم يزدجر طير النحوس الأشائمِ
وقال الأخطل يخاطب امرأة وسيمة تزوَّجها رجل دميم:
فهلا زجرت الطير ليلة جئته
…
بضيقةَ بين النجم والدَّبرانِ
وهو كثير في شعرهم. وهذا النوع من الكهانة أشهر أنواعها عندهم: ومنشأوه اعتقادهم باليمن والشؤم. فاليمن عندهم خير ، والشمال شرّ. ولذلك اشتقت لفظة التيامن واليمن والتيمن من اليمين ، كما اشتقت لفظة التشاؤم والشؤم من معنى كلمة الشمال ، لأن المشأمة في اللغة بمعنى الميسرة ، واليد الشؤمي والجانب الأشأم ، بمعنى اليد اليسرى والجانب الأيسر. فلذلك الاعتقاد كان الرجل منهم إذا أراد حاجة أتى الطير في وكره فنفّره ، فإن أخذ يميناً مضى لحاجته ، وإن أخذ شمالاً ، رجع. وهذا هو الأصل في زجر الطير. ومن ثم استعملوا كلمة الطيَرة بمعنى التشاؤم ، ثم أطلقوا الزجر على الوحش أيضاً ، وتوسعوا في كيفية الزجر وأحواله ، فقالوا: الزجرُ للطير وغيرها ، التيمنُ بسنوحها ، والتشاؤم ببروحها ، والاعتبار بأسمائهم وأصواتها وممرّها. فلما صار كذلك اختلط أمره على العامة فأصبح ضرباً من الكهانة بعد أن كان اعتقاداً بسيطاً باليمن والشوم ، فصار العائف ، إذا عاف طيراً أو وحشاً ، يتكهن فيخبر بأمور من الغيب ، كما يفعل العرّاف. وربما عاف بالحدْس ، وهو لم يرَ شيئاً ، لاطيراً ولا وحشاً. وبقي التفاؤل والتشاؤم على بساطته الأصلية للعامة فقط ومن القبائل التي اشتهرت بالعيافة في الجاهلية بنو أسد. قيل أن قوماً من الجن تذكروا عيافتهم ، فأتوهم ، فقالوا. ضلَّت لنا ناقة فلو أرسلتم معنا من يعيف ، فقالوا
لغُلّيمٍ منهم انطلق معهم. فاستردفه أحدُهم ، ثم ساروا فليتهم عقاب كاسرةً أحد جناحيها. فاقشعرَّ الغلام وبكى. فقالوا مالك؟ فقال كسرت جناحياً ، ورفعت جناحا ، وحلفت بالله صراحاً ، ما أنت بانسيٍّ ولا تبغي لقاحا وممن اشتهر بالعيافة من الأشخاص عبيدُ الراعي حدَّث المنقريُّ عن العتبيّ قال: وقف عبيد ذات يوم مع ركب من ثقيف على نفر وكانوا يريدون استقصاء رجل من تميم ، إذ سنحت ظباء سود منكَّرة ثم اعترضت الركب مقصرة في حضرها ، واقفة على شأنها ، فأنكر ذلك عبيد الراعي ولم ينتبه إليهِ أصحابه فقال:
ألم تدرِ ما قال الظباء السوانحُ
…
أطفنَ أمام الركب والركب رائحُ
فكبَّر من لم يعرف الزجر منهم
…
وأيقن قلبي أنهنَّ نوائحُ
ثم شارفوا مقصدهم ، فألفوا الرئيس قد نهشتهُ أفعى فأتت عليه. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وهذا من غريب الزجر. وذلك أن السانح مرجوٌّ عند العرب ، والبارح هو المخوّف
، وأظن عبيداً إنما رجر الظباء في حالة رجوعها ، ووصف الحال الأول في شعره كما أن من شرط الواصف أن يبدأ بهوادي الأسباب ، فيوضح عنه فهذا هو وجه رجر عبيد الراعي في شعره أما السانح والبارح فقد اختلف أئمة اللغة في تعريفها. قيل السانح ما أتاك عن يمينك ظبي أو طائر أو غير ذلك ، والبارح ما أتاك من ذلك عن يسارك وولاك جانبه الأيسر وهو انسيّه. والبارح ما جاء عن يسارك إلى يمنيك وولاك جانبه الأيمن وهو وحشيُّه وقيل. بل السانح ما مرَّ بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك ، والبارح ما مرّ من يمنك إلى يسارك. ولا يخفى ما في كل ذلك من المناقصة. وكذلك قال بعضهم: السنُح الظباء الميامين. وقال البعض الآخر: السمُح الظباء المياشيم وأكثر العرب يتيمنون بالسانح ، ويتشاءمون بالبارح. ومن ذلك المثل من
لي بالسانح بعد البارح وأصله أن رجلاً مرّت بهِ ظباء بارحة فتطيَّر من ذلك فقيل له: عسى أن تمرَّ بك أخرى سائحة ، فقال المثل: وهو يضرب في توقع المحبوب بعد الكروه. وقال أبو دؤيب:
أربت لإربتهِ فانطلقتُ
…
أرجّي لحبّ اللقاء سنيحا
وأنشد أبو زيد:
أقول والطير لنا سانحٌ
…
يجري لنا أيمنهُ بالسعودِ
وأنشد الليث:
جرت لك فيها السانحات بأسعدِ
وقال الشاعر:
أبا السنُح الأيامن أم بنحسٍ
…
تمرُّ بهِ البوارحُ حين تجري
وقال ذو الرمّة:
خليليَّ لا لاقيتما ما حييتما=من الطيرِ إلا السانحات وأسعدا
وقال النابغة:
زعم البوارحُ أنَّ رحلتنا غداً
…
وبذاك تنغابُ الغرابِ الأسود
ومن العربَ من يتيامن بالبارح ، ويتشاءَم بالسانح ، قال الأعشى:
أجارَهما بشرٌ من الموت بعدما
…
جرَى لهما طيرُ السنيح بأشأمِ
وبشر هذا هو بشر بن عمرو بن مرثد ، وكان مع المنذر بن ماء السماء يتصيد في يوم
بؤسه الذي يقتل فيهِ أول من يلقاه. وكان قد أتى في ذلك اليوم رجلان من بني عمّ بشر فأراد المنذر قتلهما ، فسأله بشر فيهما فوهبهما له وقال زهير متشائماً أيضاً بالسانح:
جرت سَنحاً ققلتُ لها أجيزي
…
نوّى مشمولة فمتى اللقاءُ
وقال كثيّر:
أقولُ إذا ما الطيرُ مرَّت مخيفةً=سوانحها تجري ولا أستثيرُها
وقال عمرو بن قميئة:
فبيني على طيرٍ سنيح نحوسهُ
…
وأشأم طير الزاجرين سنيحها
قال ابن بري: أهل نجد يتمّنون بالسانح ، ويتشاءمون بالبارح ، والعكس من ذلك عند أهل الحجاز. فهذا هو الأصل ثم قد يستعمل النديّ لغة الحجازي ، والحجازي لغة النجدي ، أقول: والظاهر من كل ذكرناه في معنى السانح والبارح لغةً. فقد رأيتَ أن السانح عند قوم الظباء الميامين ، وعند غيرهم الظباء المياشيم؛ فلذلك يتايمن هؤلاء بما تشاءم بهِ الآخرون فكانوا بذلك مواقفين لهم في الحقيقة ، لأن الخلاف إنما هو في الاِسم في المسمَّى قلنا إن أصل العيافة هو اعتقادهم باليمن والشؤم وإن اليمين عندهم خير ، والشمال شرّ. أما تفضيلهم اليمين على الشمال ، فقد جاروا فيهِ الطبيعة التي جعلت الأعضاء اليمنى من جسم الإنسان أقدر من اليسرى وأقوى. وجاراهم في ذلك التفضيل جميع الشعوب. فكان المحل الأيمن أفضل المحلين؛ وبذلك قضى الله نفسهُ إذ جعل اليمينَ لأهل الجنَّة ، والشمال لأل النار ، وجعل لكل رجلٍ ملكاً عن يمينهِ ، وشيطاناً عن شماله. وقد جاء في صحيح البخاري أن النبيّ كان يحب التيمن ما استطاع في شأنهِ كله في طهوره وترجله وتنعلهِ وأما الطارق فهو الذي يتكهن بواسطة الطرْق بالحصى ، وذلك أن يخطَّ في الأرض أو الرمل خطوطاً بإصبعين ، ثم بإصبع ، ويقول: ابني عيَان أسرعا البيان ثم ينبئ عما سئل عنهُ. وربما يكون النداء لابني عيان في العيافة أيضاً وفي غيرها من ضروب الكهانة. وأكثر كهان الطرق من النساء. قال لبيد:
لعمركَ ما تدري الطوارقُ بالحصى
…
ولا زاجرتُ الطير ما الله صانعُ
وقيل الطرقُ إن يخلط الكاهن القطن بالصوف فيتكهن. والظاهر أن الطرقَ في الأصل كان بالحصى ، ثم توسع فيهِ بعضهم إلى القطن والصوف ، بقي الاِسم على أصله. ومن أمثال
العرب التي تُضرب للذي في كلامهِ ، ويتفنن فيهِ ،
قولهم: أطرقي وميشي. قال رؤية:
عاذل قد أُولعتِ بالترقيشِ
…
إليَّ سرًّا فأطرقي وميشي
وفي لسان العرب: الطرق في الأصل هو ضرب الصوف بالعصا ، والميش خلط الشعر بالصوف وأما الحازي فهو الذي يتكهن بواسطة الحرو؛ وهو أن ينظرَ في الأعضاء والغضون وخيلان الوجه فيتكهن. قال الشاعر:
وحازيةِ ملبونةٍ ومنجّسٍ
…
وطارقة في طرقها لم تسدّد
قال ابن شميل: الحازي أقلُّ علماً من الطارق ، والطارق يكاد كاهناً ، والحازي يقول بظنٍّ وخوف والعرب يستعملون لفظة الحزو بمعنى الزجر أيضاً فيقولون: حزَونا الطير تحزوها حزواً ، أي زجرناها زجراً. قال أبو زيد وهو عندهم أن يَنغق مستدبره فيقول هذا شرّ فلا يخرج وإن سنح له شيء عن يمينهِ تيمن بهِ ، أو سنح عن يساره تشاءَم بهِ ، فهو الحزو والزجر وأما المنجّم فهو الذي يتكهن بواسطة التنجيم. وذلك أن يرعى النجوم بحسب مواقيتها وسيرها ليعلم منها أحوال العالم. وفي كتب اللغة علم النجوم عندهم علم يبحث فيهِ عن أحوال الشمس والقمر وغيرها من الكواكب. وموضوعه النجوم من حيث يمكن أن تعرف بها أحوا ل العالم. ومسائله هي كقولهم: كلما كانت الشمس مثلاً على هذا الوضع المخصوص فهي تدلَّ على حدوث أمر كذا في العالم والأصل في هذا الضرب من الكهانة أنهم كانوا يعتقدون أن كل ما يحدث في هذا العالم من الحوادث إنما سببه النجوم من حيث سيرها ومنازلها وأنوائها واقترانها إلى غير ذلك من أحوالها ومظاهرها. فنسبوا إليها البرد والحر والصحو والمطر والخير والشر والصحة والمرض والحرب والسعد والسلم والنحس ، وهو الاعتقاد الذي جعلهم يعبدونها في القِدَم. فلما وُجد عندهم ذلك الاعتقاد أخذوا يلاحظون النجوم
ويراقبونها ويلاحظون سيرها ومواقيتها حتى إذا حدث في الأرض حادث ما في زمن ما ، ثم عاد الفلك إلى هيأتهِ التي كان عليها حين وقع ذلك الحادث ، أنبأوا بعوده أيضاً بناءَ على أن الأسباب الواحدة ، في حالة واحدة ، تُنتج دائماً نتائج واحدة. فهذا هو الأصل في علم النجوم. ثم اتخذه بعضهم طريقةً لكسب المال فجعلوه ضرباً من ضروب الكهانة ، وصاروا يخبرون بما يخبر بهِ الكَّهان من أحوال الغيب المختصة بإفراد الناس ، كتفسير الأحلام ، وأدواء الأمراض ، ونجاح المسعى ، وما أشبه ذلك. واعتقدت عامة
الشعب إن كل شيء سرُّه في النجوم ، وأن الإنسان قد يعلم الغيب بالوحي الفلكي. فمن ثم قالوا في كلامهم: نظر فلان في النجوم ، بمعنى أنه فكَّر في أمر ينظر كيف يدبّره. فصار ذلك في اللغة كما تقول: بفلان جُنَّة ، بمعنى أنه مختلّ العقل. وهذا من شواهد تأثير اعتقاد الشعوب في لغاتهم وهو كثير في اللغة العربية تلك هي أشهر ضروب الكهانة في الجاهلية. فإذا كان عندهم ضروب أخرى فلا عبرة بها لعدم شهرتها بينهم ، فضلاً عن أنها لابد أن تكون مأخوذة من الضروب الأصلية التي أتينا على ذكرها كما أُخذ الطرقُ بالقطن والصوف من الطرق بالحصى ولم يكن للكّهان صفة دينية أصلاً ، بخلاف الكهنة عند اليهود. ولعل السبب في ذلك كون وحيهم من الشيطان ، ووحي كهنة اليهود من الله. وكان أهل الرتبة العليا منهم ينقطعون إلى الكهانة فا يشتغلون بعمل آخر ، ولا يشتركون مع القبيلة اشتراكاً مادياً في شؤونها العمومية بل كانوا يعيشون عادة محتجبين عن إبصار العامة ، إلا يخالطهم أهلهم وذووهم ، ولا يقابلهم من الناس إلا مَن قصدهم ليستطلع
منهم الغيب. وكان معاشهم من الهدايا التي يقدمها لهم أولو الحاجات. وكان العرب يحترمونهم لعلهم وسعة اطلاعهم ، وربما احترموهم بسبب علاقتهم ذاتها بالجنّ والشياطين. وبناء على ذلك الاحترام كانوا يسمون كل صاحب علم دقيق كاهناً كالطبيب والقُناقِن وهو البصير بالماء تحت الأرض وكذلك كل حكيم بصير بالأمور. وقد جاء في الحديث أن شريحاً كان زاجراً شاعراً. وفي حديث ابن سيرين: أن شريحاً كان عائفاً. أراد أنه كان صادق الحَدْس والظن ، لا أنه كان يفعل فعل الجاهلية في العيافة. ومن المحتمل أيضاً أن تكون تسميتهم للطبيب والقناقن كاهناً من قبيل الحقيقة في لغتهم لا المجاز ، لأن الجهل كان مخيماً على عقول عامتهم ولا فرق عند الجاهل بين ينذر بموت رجل ، حيث لا ترى العامة شيئاً من الخطر ، أو ينذر بخوف قبل حصوله ، وبين من يخبر بمكان الضالة ، أو تفسير الأحلام ، فكلا الأمرين عند الجاهل من قبيل الغيب. وبناء على ذلك لا يبعد أن يكون قد دخل عندهم في عداد الكهان كثيرون من الأشخاص الذين كان لهم إلمام حقيقي بالطب والفلك أو غير ذلك من العلوم ولم تزل الكهانة في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأبطلها. وقد أوردنا كلام الأزهري في هذا الخصوص. وجاء في الحديث أنهُ نهى عن حلوان الكاهن ، وعن الطيرة. وفي الحديث أيضاً من أتى كاهناً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد. قالوا أي
من صدَّقهم وجاء في صحيح البخاري أنهُ كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه. فجاء يوماًَ بشيء فأكل منهُ أبو بكر فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر وما هو؟ قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة ، إلَاّ أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيء في بطنه على إننا بالرغم عما جاء به الدين ، لا نزال نرى حتى الآن سوق الكهانة رائجة في كل بلاد نطق أهلها بالضاد ، كأنَّ الجهل يأبى إلاّ أن يكون محفوفاً أبداً بأنواع
الخرافات ، أو كأن خرافات الجاهلية ملازمة للغتهم ، لا تنفصل عنها ، فورثناها معها. وكأني بنا قد خجلنا من وقوفنا عند الحد الذي وصلت إليه أجدادنا ، فبعد أن كانت الكهانة على نحو ما ذكرناه في هذا الباب ، جعلناها نحن علماً بل علوماً بأصولٍ ذات قواعد وروابط وشروط. وألَّفنا فيها الكتب العديدة ، وأضعنا فيها الوقت الثمين ، وزدنا عليها ضروباً وأنواعاً لم تكن معروفة في الجاهلية أصلاً فأفسدنا عقول الشعب بالأوهام والأكاذيب. وقد كان عدد الكهان في الجاهلية قليلاً بحيث لا يصيب العشر القبائل كاهن واحد ، وأما الآن فلا شارع من شوارع مدننا إلاّ وفيه الرمَّال والحاسب والحازني ، وباصر البخت ، وضارب المندل ، وكلُّ دّجال خدَّاع ، يسلبون فقراء الناس أموالهم عاجلاً ، ويعدونهم بالسعادة آجلاً. نعم إن الكهانة ممنوعة بأمر الحكومة في بلادنا ، ومعاقب عليها في قوانيننا ، ولكن أخلاق الشعب ورجال الضبط والربط بالجملة لم تزل على حالتها الأصلية؛ وربما تعجبوا من وجود مثل ذلك النصّ في قوانين الحكومة وأنكروا عليها معارضتها لأناس يعلمون الغيب ويخدمون الناس بإطلاعهم على أسرار المستقبل. ولذلك تراهم يغضون الطرف عنهم فلا يتعرضون لمنعهم. وقد رأيتُ مرَّةً أحد رجال البوليس انحراف عن قارعة الطريق قاصداً أحد الرَّمالين ، فظننتُ أنهُ ذاهب لمنعه من نشر بضاعته في الشارع العمومي وإثبات مخالفته للقانون ، ولم أكن أظنّ في أمثاله ذلك الترقي الأدبيّ. فأخذني العجب وأتبعتهُ بنظري؛ فإذا هو وقد جلسَ بين يدي الرمَّال ، وأخذ يستطلع منهُ الغيب ، ويسمع شقشقتهُ بغاية ما يكون من الجد والاحترام
اسكندر عمون